التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم
التوازن التربوي وأهميته لكل مسلم
प्रकाशक
دار السراج
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
शैलियों
التوازن التربوي
وأهميته لكل مسلم
تأليف
مجدي الهلالي
अज्ञात पृष्ठ
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٣٠هـ - ٢٠٠٩م
بطاقة الفهرسة
فهرسة أثناء النشر إعداد الهيئة المصرية العامة
لدار الكتب والوثائق القومية
إدارة الشئون الفنية
رقم الإيداع: ٢٥١٢٣/ ٢٠٠٨
دار السراج
توزيع
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والترجمة
١٠ ش أحمد عمارة - بجوار حديقة الفسطاط
القاهرة ت: ٢٥٣٢٦٦١٠ محمول:٠١٠٢٣٢٧٣٠٢ - ٠١٢٦٣٤٤٠٤٣
ﷺ mail:iqraakotob@yahoo.com
1 / 1
المقدمة
رب يسر وأعن يا كريم
الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالتربية مصطلح شائع ومتداول بين الناس على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم، وهو يحمل في طياته معنى التغيير -سواء كان سلبيًا أم إيجابيًا- فالذي يريد من نفسه أو ممن حوله سلوكًا دائمًا في اتجاه (ما)، لابد من أن يتربى أو يربيهم عليه، فمن أراد - مثلا- اكتساب مهارة قيادة السيارات لا يكفيه التعرف على قواعد وأساليب القيادة من الناحية النظرية، بل لابد له من الممارسة العملية للقيادة لمدة معتبرة، والذي يريد عضلات قوية وجسمًا مفتولًا، فمن الضروري أن يمارس الرياضة المؤهلة لذلك وباستمرار حتى يصل إلى هدفه ... وهكذا.
والتربية ثابت من الثوابت ينبغي أن يتبناه كل من يريد تغييرًا إيجابيًا في شخصيته أو شخصية كل من يتولى أمرهم ويرجو صلاحهم.
فما هي التربية؟
وما هو هدفها؟
ما مجالاتها؟
وماذا يعني التكامل التربوي والرؤية التربوية؟
هل تتوقف التربية عند حد ما؟
وما هي الأسباب التي تؤخر ظهور ثمرة التربية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كانت تلك الصفحات، والتي نسأل الله ﷿ أن تصحبنا فيها معيته وتوفيقه، فهو وحده ولي ذلك والقادر عليه "وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ" [هود: ٨٨].
* * *
معنى التربية
يقول عبد الرحمن النحلاوي في حديثه عن مفهوم التربية:
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة العربية وجدنا لكلمة «التربية» أصولا لغوية ثلاثة:
الأصل الأول: ربا يربو بمعنى زاد ونما، وفي هذا المعنى نزل قوله تعالى: "وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ" [الروم: ٣٩].
الأصل الثاني: رَبِىَ يربى ومعناها: نشأ وترعرع.
الأصل الثالث: ربَّ يَرُبُّ بمعنى أصلحه، وتولى أمره، وساسه، وقام عليه ورعاه.
وقد اشتق بعض العلماء من هذه الأصول اللغوية تعريفا للتربية. قال الإمام البيضاوي في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل):
«الرب في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا».
وفي كتاب مفردات الراغب الأصفهاني: الرب في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالًا فحالًا إلى حد التمام (١).
ويقول د. ماجد عرسان الكيلاني: يعرف علماء التربية الحديثة «التربية» بأنها تغيير في السلوك. وهذا تعريف فيه قدر كبير من الدقة والصوابية شريطة أن يفهم من السلوك حلقاته الثلاث: حلقة الإرادة، وحلقة الفكرة، وحلقة الممارسة (٢).
التغيير والأثر الدائم:
من خلال ما تدل عليه التعريفات السابقة من معان يمكننا أن نصوغ تعريفا إضافيًا للتربية بأنها: «إحداث تغيير أو أثر دائم في الشيء».
_________
(١) أصول التربية الإسلامية وأساليبها لعبد الرحمن النحلاوي ص ١٢، ١٣ باختصار وتصرف يسير - دار الفكر.
(٢) مناهج التربية الإسلامية د. ماجد عرسان الكيلاني ص٧٧ - مؤسسة الريان- لبنان.
1 / 2
فحدوث أثر لحظي لا يندرج تحت مسمى التربية، فالذي ينفق مرة أو مرتين نتيجة تأثره اللحظي بموقف تعرض له، أو سماعه لموعظة عن الإنفاق لا يمكن أن نصفه بأنه قد صار (منفقا) إلا إذا صار الإنفاق سمة من سماته.
والذي استطاع أن ينام عددًا قليلًا من الساعات في ليلة من الليالي، واستفاد بوقته في إنجاز العديد من الأعمال، فإنه لا يصبح بهذه الليلة قد اكتسب أو تربى على قلة النوم إلا إذا صار ذلك سمتا عامًا له.
فالتربية هي: إحداث أثر دائم في الشيء ... مع العلم بأن هذا الأثر قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا، كمن يتربى على الكذب فيصير كذَّابًا، أو من يتربى على الشُّح فيصير شحيحًا، أو من يتربى على الإنفاق فيكون كريمًا جوادًا.
وعملية التربية تحتاج إلى ممارسة دائمة ومتكررة حتى تظهر ثمارها .. قال ﷺ «الخير عادة ..» (١).
الفارق بين التعليم والتربية:
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية، فهدف التعليم هو إيصال المعلومة إلى المتعلم واستيعابه وفهمه لها دون النظر إلى تطبيقه أو عدم تطبيقه لمقتضاها.
أما هدف التربية فهي إيصال المعلومة مع الممارسة المستمرة لمقتضاها وما تدل عليه في الواقع العملي حتى تنشئ في ذات المتلقي أثرًا دائمًا ينتج عنه تغيُّر في سلوكه.
فلا تكفي المعرفة النظرية بالقيم والأخلاق لكي تُصبح واقعًا ملموسًا في حياة الفرد، بل لابد من أن يتربى عليها، ويمارسها مرات ومرات.
من هنا ندرك أهمية التربية الصحيحة التي تهدف إلى تكوين الفرد المسلم الصالح المصلح؛ لذلك كان من أهم مهمات الرسل: التربية والتزكية "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" [الجمعة: ٢].
* * *
حاجة الإنسان إلى التربية
خلق الله ﷿ الإنسان وجعل تكوينه يشمل أربعة مكونات رئيسية هي: العقل والقلب والنفس والجسد.
والإنسان يبدأ رحلته على الأرض -منذ خروجه من رحم أمه- بهذه المكونات الأربع وهي غير مكتملة النمو، بل جعلها الله سبحانه تبدأ صغيرة، محدودة الإمكانات، لتنمو بعد ذلك بما أودع فيها من خاصية النماء.
ونماء هذه المكونات يستلزم دوام إمدادها بالغذاء الذي يناسبها.
فالجسد يخلق صغيرًا ضعيفًا، ولكي ينمو لابد له من غذاء متنوع يلبي احتياجاته ويترك فيه أثره الدائم، وينتج عنه دومًا طاقة تدفع صاحبه للنشاط والحركة.
ومع ضرورة إمداد الجسد بالغذاء المناسب لابد كذلك من دوام توجيه نشاطه وحركته بالطريقة التي تساهم في نجاح المرء في أداء وظيفته على الأرض.
وما ينطبق على الجسد ينطبق على العقل والقلب والنفس، فلابد لهذه المكونات الثلاثة من تربية وإنماء حتى تكتمل وتصلح ويساهم كل منها بأثره في تنشئة المسلم الصالح المصلح الذي يقوم بوظيفته الأساسية؛ ألا وهي معرفة ربه وعبادته وخشيته بالغيب، وإقامة دينه في نفسه، ثم في نفوس المسلمين، وأن يجتهد في تبليغه للبشر جميعًا.
وكما أنه من الضروري استمرار تعاهد البدن وإمداده بما يصلحه حتى يستمر في النمو والتمتع بالصحة والحيوية؛ كذلك لابد من تعاهد العقل والقلب، والنفس بالإمداد بما يصلحهم، ودفع ما يضرهم حتى يستمر نموهم المعنوي في الاتجاه الصحيح، وبخاصة أن كلًا منهم يبدأ الحياة كما يبدأ الجسد .. محدود الإمكانات والقدرات، ولديه قابلية للنماء، فالعقل يبدأ الحياة وهو فارغ من أي مخزون معرفي "وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا" [النحل: ٧٨].
_________
(١) حسن، رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٣٣٤٨).
1 / 3
والقلب يولد على الفطرة كما قال ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» (١).
والنفس تبدأ رحلتها في الحياة ولديها القابلية للفجور والانفلات، وكذلك القابلية للاستكانة والتطويع "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا - فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا" [الشمس: ٧، ٨].
ولئن كان أمر تعاهد البدن وتربيته لا يحتاج إلى توجيه دائم -فيما يخص الغذاء- باعتبار أنه أمر محسوس وظاهر؛ إلا أننا لا نتعامل مع عقولنا وقلوبنا وأنفسنا بنفس الدرجة من الاهتمام لأننا -من ناحية- لا نراهم بأعيننا، ولا نكاد نستشعر احتياجاتهم.
ومن ناحية أخرى فإن هذه المكونات الثلاثة يحدث لها نمو ولكنه -في الغالب- ليس بالشكل المطلوب، أو في الاتجاه الصحيح، فعلى سبيل المثال:
العقل -بعد الولادة- يبدأ في استقبال المعلومات من كل الاتجاهات دون تمييز بين صحيحها وسقيمها، ثم تبدأ هذه المعلومات شيئًا فشيئًا في تشكيل يقينه ومعتقداته ونظرته للحياة ومفرداتها.
ضرورة التربية الصحيحة:
من هنا تبرز أهمية التربية الصحيحة، فالمسلم لن ينصلح حاله، ولن يكتمل نموه، ولن يرى الثمار الصحيحة لعبوديته لربه ﷿ إلا إذا اهتم بالجوانب الأربعة التي تشكل كينونته.
فعندما يُترك العقل دون تربية وإنماء في الاتجاه الصحيح، فمن المتوقع أن يفشو الجهل، وتتغير الأولويات، وتضطرب المفاهيم، وتكثر الشبهات، وتظهر البدع والعقائد الفاسدة.
وعندما يُترك القلب بدون تعاهد وإمداد إيماني فإنه سيصبح أسيرًا للهوى تابعًا له .. كلما اشتهى فعل، وكلما رغب اندفع .. لا يبالي بحلال أو حرام .. تتبلد مشاعره وتقسو، فلا يكاد يتأثر بموعظة.
وعندما تترك النفس بدون تزكية، فستجد أمامها المجال مفتوحًا للفجور والطغيان وسوق صاحبها لفعل الفواحش والموبقات.
وعندما تُترك حركة المرء وجهده البدني بدون توجيه فمن المتوقع أن يستهلكها في تحقيق شهواته ورغائبه دون ضوابط.
كل هذا سيؤدي إلى التخبط والضياع في الدنيا، والابتعاد عن الطريق المستقيم .. طريق العبودية لله ﷿ ومن ثمَّ يكون الخسران - والعياذ بالله - في الآخرة. تأمل قوله -جل ثناؤه- وهو يصف حال أناس تركوا التزكية والتربية الصحيحة، فتعطلت عقولهم، ومرضت نفوسهم وقلوبهم، واتجهت حركاتهم ونشاطهم نحو الأرض والطين لتحصيل واستيفاء الشهوات: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" [الأعراف: ١٧٩].
فالذي لا يستخدم هذه المكونات فيما خلقت من أجله -بل ويمدها بما يضرها- كمن يتعلم ما يضره +وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ" [البقرة: ١٠٢]، ومن ثم فإن مرتبته تنحط لتصبح دون الأنعام، وكيف لا، والأنعام لم تكلف بما كلفنا به، ولم تعط من الإمكانات مثل ما أعطينا "أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" [الفرقان: ٤٤].
لذلك فإن من يهمل التربية الصحيحة فإنه ينحدر إلى أسفل، ويزداد هذا الانحدار كلما كانت تغذيته لعقله وقلبه ونفسه تغذية عكسية .. وهكذا حتى يصل إلى أسفل السافلين، ويصبح مثل الأنعام في الاهتمامات، ودونها في المرتبة "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [الأنفال: ٥٥].
_________
(١) رواه البخاري ومسلم.
1 / 4
الحياة السعيدة:
من هنا نقول بأن إنماء العقل والقلب والنفس وتوجيه حركة الإنسان توجيهًا صحيحًا أمر بالغ الأهمية، والتكامل بينها ضروري لتكون الثمرة نضيجة، ومن ثم يتمتع المرء بالعافية في الدنيا، ويحيا حياة سعيدة حيث السلام الداخلي والطمأنينة والسكينة، ثم يستكمل هذه السعادة في قبره فيكون «روضة من رياض الجنة».
ويوم القيامة "يَا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ" [الزخرف: ٦٨]، ... وفي الجنة حيث النعيم المقيم، والسعادة التي لا تستطيع جميع مفردات اللغة أن تصفها، وكيف تصف ما لم تره؟! بل هي قياسات وتشبيهات، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله "وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا" [الإنسان: ٢٠] ..
* * *
حاجة الأمة الماسة إلى التربية
أكرم الله ﷿ أمتنا واختصها برسالة الإسلام، وهذا فضل عظيم منه سبحانه على كل مسلم في هذه الأمة "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة: ٣].
هذه النعمة العظيمة تستوجب من أبناء الأمة أمرين عظيمين:
الأول: أن يقوموا بأداء تكاليف الرسالة في ذواتهم.
والثاني: أن يعملوا على توصيل هذه الرسالة، وتبليغها للبشر في شتى أنحاء الأرض، وأن يبذلوا في ذلك غاية جهدهم، وأن يسعوا سعيا حثيثا لإيصالها إلى من يمكنهم الوصول إليه من الناس في مشارق الأرض ومغاربها حتى ينقذوا -بإذن الله- كل من بداخله خير وشوق إلى الهداية، وحتى لا يكون لأحد حجة أو ذريعة يتذرع بها لكفره أو شركه بربه ... فإذا ما كان يوم القيامة قام أبناء أمة الإسلام -في كل عصر- بالشهادة أمام الله ﷿ على أبناء عصرهم بمدى قبولهم أو رفضهم الإيمان بما تضمنته الرسالة.
الخير المخبوء:
إن أغلب البشر فيهم خير مخبوء في كينونتهم لكنهم يحتاجون -فقط- إلى من يحسن مخاطبة هذا الخير، واستخراجه وإظهاره -بإذن الله-، والقليل منهم هم المجرمون الذين يبغونها عوجا؛ تكبرا في أنفسهم، وحرصا على امتيازاتهم التي يضمنها لهم بقاؤهم على الكفر "وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ" [الجاثية: ٣١].
ولعل في قصة موسى ﵇ ما يؤكد ذلك، فكل من فرعون والسحرة قد شاهدوا العصا تتحول إلى حية عظيمة، فآمن السحرة ولم يؤمن فرعون، ليظهر الفارق في سبب الكفر واضحا، فالسحرة قد منعهم الجهل من الإيمان بالله؛ لذلك عندما شاهدوا الآية العظيمة أذعنوا واستسلموا "قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ" [الشعراء: ٤٧، ٤٨].
أما فرعون فكان سبب كفره هو إجرامه وكبره وحرصه على مصالحه "وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى" [طه: ٥٦].
وعندما آمنت بلقيس -ملكة سبأ- بعد دعوة سليمان ﵇ لها، ورؤيتها الآيات الباهرات، وكانت من قبل -هي وقومها- يعبدون الشمس؛ نجد أن القرآن يبين سبب كفرها أنها نشأت بين قوم كافرين، أي كانت جاهلة بالحقيقة لذلك عندما بلغتها الدعوة ورأت الآيات آمنت: "وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ" [النمل: ٤٣].
أهمية الجهاد:
إذا كان الكثير من الناس ليسوا مجرمين، بل وفيهم خير مخبوء لكنهم ضلوا الطريق الصحيح؛ فإن على أصحاب الرسالة أن يبذلوا غاية جهدهم في توصليها إليهم وإلى غيرهم فيكونوا سببا في إنقاذهم من النار.
1 / 5
وليس معني هذا أنه ليس على هؤلاء الجاهلين مسئولية في البحث عن الطريق الصحيح، فالمسئولية مشتركة بينهم وبين أصحاب الرسالة ... عليهم أن يبحثوا عن الحق، وعلى أصحاب الرسالة أن يجتهدوا في توصيل الحق إليهم .. من هنا ندرك قيمة الجهاد في الإسلام والحكمة من كثرة الحث عليه في الكتاب والسنة، وتفضيله على كثير من الأعمال .. فجوهر الجهاد هو بذل الوسع والطاقة في سبيل الله، وإقامة دينه، وتبليغ دعوة الإسلام -دون إكراه- فيكون وسيلة لإنقاذ البشرية وإسعادها بالإسلام "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" [الحج: ٧٨].
إن الجهاد هو الوسيلة العظيمة لتبليغ الدعوة وتوصيلها إلى الناس جميعا، ومن خلال قيام المسلمين به يتم إنقاذ الكثيرين من الضلالة والنار "انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" [التوبة: ٤١].
وعندما سُئل رسول الله ﷺ: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟
قال: «لا تستطيعونه»، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه».
ثم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد» (١).
وغني عن البيان أن للجهاد صورًا كثيرة يجمعها معنى «الجهاد» وهو: بذل الجهد في سبيل الله، تأمل قوله تعالى: "وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" [آل عمران: ١٥٧]، فلقد جمع الله ﷿ في هذا الآية بين من يقتل في سبيل الله وبين من يموت دون قتال وهو في سبيل الله، وجعلهما مشتركين في الأجر.
إن توصيل رسالة الله ﷿ للبشر يحتاج إلى بذل حقيقي للجهد وتضحية عظيمة بالغالي والنفيس، وصبر وثبات على المحن والعقبات التي تعترض طريق توصيل الرسالة، فلا راحة للمسلمين حتى يكون الدين كله لله.
يقول الإمام حسن البنا: فرض الله الجهاد على كل مسلم فريضة لازمة حازمة لامناص منها ولا مفر معها، ورغب فيه أعظم الترغيب، وأجزل ثواب المجاهدين والشهداء، فلم يلحقهم في مثوبتهم إلا من عمل بمثل عملهم، ومن اقتدى بهم في جهادهم، ومنحهم من الامتيازات الروحية والعملية في الدنيا والآخرة ما لم يمنح سواهم وتوعد المخلفين القاعدين بأفظع العقوبات، ورماهم بأبشع النعوت والصفات ووبخهم على الجبن والقعود، ونعى عليهم الضعف والتخلف، وأعد لهم في الدنيا خزيًا لا يرفع إلا أن جاهدوا، وفي الآخرة عذابا لا يفلتون منه ولو كان لهم مثل أحد ذهبا (٢).
ماذا لو فرطنا؟!
إن اتفقت معي -أخي القارئ- على ذلك، وقرأت آيات وأحاديث الجهاد من هذا المنظور، فستدرك -كما أدركت- مدى التقصير والتفريط الذي وقعت فيه الأمة في حق البشرية بتخليها عن هذا الأمر الإلهي، وخيانتها لواجب البلاغ، وستدرك كذلك مدى خطورة تفريط الأمة في التطبيق الصحيح للرسالة في ذاتها لأن التطبيق الصحيح للإسلام يسعد أبناءه ويدفعهم لبذل غاية الجهد لإنقاذ غيرهم.
_________
(١) رواه البخاري ومسلم.
(٢) رسالة الجهاد من مجموع رسائل الإمام حسن البنا ص٤٢١ - دار التوزيع والنشر الإسلامية- مصر.
1 / 6
فإن كان الأمر كذلك؛ فإن تفريط الأمة في القيام بهذين الأمرين: (أن تتمثل في ذاتها الرسالة، وأن تقوم بتبليغها) يضعها في دائرة العتاب والغضب الإلهي، وكيف لا وهي بذلك قد قصرت في أداء الأمانة التي ائتمنها الله عليها، وتخلت عن موقعها الريادي للبشرية، وما ينتج عن ذلك من ضياع الكثيرين والكثيرين حين يموتون على الكفر رغم ما فيهم من خير مخبوء وشوق إلى الهداية.
إن الخسارة التي تخسرها البشرية بتخلي أمة الإسلام عن وظيفتها خسارة فادحة، فالآلاف -كل يوم- يموتون على الضلالة والكفر، ولو أن الرسالة قد بلغتهم بطريقة صحيحة لآمن الكثير منهم.
لماذا نعاقب؟!
لعل ما قيل في الأسطر السابقة يجيب عن الأسئلة التي تتردد على ألسنة المسلمين كلما ازداد حال الأمة سوءًا، وكلما تعالت هجمات أعدائها عليها ... فمن هذه الأسئلة: لماذا نعاقب بهذه العقوبات المتولية؟! إلى متي الذل والهوان الذي تعيشه أمتنا منذ أمد بعيد؟ لماذا يتركنا الله هكذا نسام سوء العذاب من اليهود وغيرهم وهو سبحانه قادر بأن يكف بأسهم عنا وينصرنا عليهم؟
إن الرؤية الإيمانية لهذه العقوبات لابد وأن تنطلق من عدة أمور.
أولها: أن هذا العقوبات تأتي بعلم الله وإذنه ومشيئته "وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ" [آل عمران: ١٦٦] .. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ" [الأنعام: ١١٢].
وثانيها: أن هذا العقوبات صورة من صور العتاب الإلهي للأمة لأنها تخلت عن رسالتها، ولم تعمل بما تضمنته، وتركت مهمة توصيلها وإبلاغها للبشر جميعًا.
"أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" [آل عمران: ١٦٥].
وثالثها: أن هذه العقوبات تعد بمثابة وسيلة قوية لإيقاظ الأمة وإفاقتها من غفلتها، وإعادتها إلى رشدها "وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الزخرف: ٤٨]، .. قال ﷺ: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (١).
إصلاح الداخل أولًا:
لا يمكن للأمة أن تؤدي أمانة البلاغ، ومن ثم الشهادة على الناس إلا إذا تمثلت في أبنائها معاني الرسالة؛ فيستمدون منها -بعون الله- القوى الروحية الدافعة للعمل والجهاد، ويستشعرون من خلال تطبيقها الصحيح معنى العزة بالله، فتفيض عليهم السعادة في كيانهم، فينطلقون راشدين لتحقيق مراد ربهم بأن يكون الدين كله لله.
وحين يهملون تطبيق الرسالة: تنحط اهتماماتهم، وينكفئون على ذواتهم، ويصبح جُلَّ تفكيرهم في كيفية تحصيل متطلبات الطين، وشهوات النفس.
من هنا نقول بأن نقطة البداية الصحيحة لرفع العقوبات عن الأمة، وتغيير ما حاق بها ونزل بساحتها؛ هو إصلاحها من الدخل "إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: ١١].
فإن لم يحدث ذلك؛ فستظل العقوبات والمحن تتوالى عليها، ولن يرفعها مجرد الدعاء أو المساعدات للمنكوبين -على أهميتها- بل لابد من دفع ضريبة التغيير الحقيقي.
وحتى لو هدمت المساجد، وقُتل النساء والأطفال هنا وهناك فلن يُرفع البلاء إلا إذا سرنا في طريق التغيير "وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا" [الإسراء: ٨].
والتغيير المنشود يشمل كيان الإنسان بمحاوره الأربعة:
أولا: تغيير وإصلاح المفاهيم والتصورات في العقول، وإعادة بناء اليقين الصحيح فيها.
ثانيا: إصلاح الإيمان في القلوب وتقوية الإرادة.
_________
(١) صحيح، رواه أبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (٤٢٣).
1 / 7
ثالثا: ترويض النفس وجهادها على لزوم الصدق والإخلاص لله ﷿، مع نكران الذات والتواضع غير المصطنع.
رابعًا: التعود على بذل الجهد في سبيل الله.
وسيأتي -بإذن الله- بيان ذلك كله بشيء من التفصيل في الصفحات القادمة.
عندما تكتمل هذا الحلقات الأربع، سيحدث -بإذن الله- التغيير الحقيقي للفرد، ومن ثم الأمة.
والتغيير المطلوب ليس تغييرًا لحظيا بل تغييرًا يحدث أثرًا إيجابيًا دائمًا، وهذا يستلزم التربية الصحيحة لأفراد الأمة؛ هذا إن أردنا إصلاحًا حقيقيًا.
ولنعلم جميعا بأنه مهما ألقيت الدروس والمواعظ، ومهما نشرت المقالات، إلا أنها -مع أهميتها- لن يكون لها نفع حقيقي ودائم إلا إذ مورست من خلال منظومة تربوية تُعني بإحداث أثر إيجابي دائم -وليس لحظيا- ينتج عنه ظهور المؤمن الصالح المصلح.
لا بديل عن التربية:
إن التغيير المنشود للأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معاني الإسلام من خلال جو تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد وبث الروح وضبط الفهم وتوجيه الجهد واستنهاض الهمم .. هكذا فعل محمد ﷺ وهو يبني الأمة الجديدة ... تأمل قوله تعالى وهو يخاطبه: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" [الكهف: ٢٨].
لقد كان محمد ﷺ يقوم على تربية أصحابه وتعاهدهم ودوام توجيههم وذلك في المرحلتين المكية والمدينة ... ففي مكة كان يمارس ذلك من خلال تواجده المستمر بينهم، ولقائه الدائم بهم في دار الأرقم بين أبي الأرقم عند الصفا، وفي المدينة استمر في التربية والتعليم من خلال المسجد، ومن خلال التواجد المستمر بين أصحابه ومعايشتهم ومتابعة أحوالهم "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ" [الجمعة: ٢].
لابد إذن من أن يقوم الدعاة بالتواجد بين الناس وممارسة معاني الإسلام معهم حتى يتم التغيير المنشود، ولقد كان هذا هو دأب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- .. تأمل قوله تعالى في قصة هود ﵇: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" [هود: ٥٨].
وفي قصة شعيب ﵇: "قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا" [الأعراف: ٨٨].
وفي قصة موسى ﵇: "قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ" [غافر: ٢٥].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن أتباع كل رسول: (الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)، ولم يقل: «آمنوا به»، فـ (مع) تعطي دلالة على المعية والصحبة والمعايشة، و(به) لا تعطي ذلك، وهذا يحمل في طياته بعض الدلالات على أن كل رسول لله كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة ولا يكتفي بتعليمهم فقط.
هل من الضروري تربية الأمة كلها؟!
لا بديل -إذن- عن التربية إن أردنا تغييرًا حقيقا، ومن ثم فإن على جميع الدعاة والعاملين للإسلام أن يكون هذا هو هدفهم الأساس حين يتعاملون مع الناس، وأن يوحدوا جهودهم ولا يبعثروها في غير هذا المجال حتى تبدأ الأمة في اليقظة الحقيقية ..
1 / 8
لابد وأن يكون عمل كل من يريد خدمة الإسلام من خلال التواجد بين الناس ... يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وليس ذلك فحسب بل عليه أن يكون هدفه من تواجده بينهم هو التربية وإحداث أثر إيجابي دائم في ذواتهم من خلال المحاور الأربعة للتربية.
إن المطلوب من خلال التواجد بين الناس ليس فقط مساعدة الفقراء، أو البحث عن عمل للعاطلين أو مواساة المبتلين، أو الصلح بين المتخاصمين، أو افتتاح مراكز لتحفيظ القرآن، أو عقد الندوات، أو ....، فكل هذا مع أهميته إلا أنه لا بد أن يوضع في سياق المنظومة التربوية التي تهدف إلى التغيير الشامل والدائم في شخصية المسلم كما أسلفنا، وألا يتم التعامل معها على أنها جُزُر منعزلة ووسائل منفصلة عن بعضها البعض.
من هنا نقول بيقين: إن معركة الإصلاح والتغيير الحقيقي للأمة روحها التربية، ولابد أن يتم تطويع جميع الوسائل لخدمة هذا الأمر، فإن تركنا هذه المعركة فسنظل في أماكننا نراوح بين أقدامنا، ونشتكي من كثرة المحن والابتلاءات التي تمر بالأمة، وسيعلو صراخنا ونحيبنا، وترتفع أيدينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرح جديد، وسيعلو صوت الدعاة في الفضائيات وعلى المنابر بأهمية العودة إلى الله، وتغيير ما بالنفس، ثم تهدأ العاصفة ويستقر الجرح في جسد الأمة ويتعود على وجوده الجميع، ثم يتكرر الأمر بعد ذلك مع جرح جديد وهكذا ...
فإن قلت: ولكن هل من الضروري تربية الأمة جميعا؟!
ليس المطلوب أن يكون جميع الأفراد على مستوى عال ورفيع من الصلاح، فسيظل هناك السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، ولكن يبقى من الضروري توافر الحد الأدنى للصلاح في الأمة.
فالمطلوب هو إصلاح المجتمع بأن تشيع فيه روح الإسلام ومعانيه، وأن تغلب عليه مظاهر العفة، والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، ونكران الذات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستشعار المسؤولية تجاه الأمة والبشرية، وفي المقابل تختفي منه مظاهر السلبية والأنانية والإعجاب بالنفس والتفسخ الأخلاقي، والإباحية ...، وهذا لن يتم إلا بجهد تربوي متقصد يبذله الدعاة والعاملون للإسلام مع الناس ... كلٌ يعمل في محيطه.
الجمرة المشتعلة:
لكي ينجح الدعاة والعاملون للإسلام وكل من يتوق لخدمة الإسلام .. لكي ينجحوا جميعًا في تغيير وإصلاح الأمة لابد من أن يبدأوا مع أنفسهم فتتمثل فيهم معاني الإسلام التي يريدون أن يربوا الناس عليها.
إن الخطأ الشائع الذي يقع فيه بعض الدعاة هو مطالبة الناس بشيء لا يفعلونه هم مع أنفسهم، فتفقد كلماتهم الروح والحرارة والتأثير في الآخرين.
لذلك فإن نقطة البداية الصحيحة لتربية الأمة تنطلق من وجود الفرد المسلم المتوهج الذي تتمثل فيه معاني الإسلام والحرقة على الدين، وبدون هذه البداية لا يمكن للعملية التربوية أن تنجح.
فعلى سبيل المثال: لو أردنا إشعال مجموعة من الفحم فإننا -في الغالب- نقوم بإحضار فحمه مشتعلة ومتوهجة ونضعها وسط مجموعة الفحم، ثم نقوم بتحريك الهواء عليهم جميعا فينتقل الإشعاع والتوهج من الفحمة المتوهجة إلى بقية الفحم ... فإن كان توهج الفحمة -الأساسية- متوسطا كان الأثر على بقية الفحم محدودًا وضعيفا، وإن كان التوهج ضعيفا فمن المتوقع ألا نري أثرًا لتوهج في عموم الفحم، وقد تنطفئ الفحمة ذات التوهج الضعيف بمرور الوقت، فعلي قدر توهج الفحمة «الأساس» يكون الأثر على من حولها.
1 / 9
من هنا يتضح لنا بأنه وإن كان تغيير الأمة تغييرًا إيجابيًا كما يحب ربنا ويرضي يستلزم تربية أفرادها على معاني الإسلام؛ فإن نجاح هذه التربية مرهون بوجود أفراد متوهجين بدأوا بأنفسهم وساروا بها في طريق التغيير، وقطعوا فيه شوطا معتبرا حتى يستطيعوا -بعون الله- أن يأخذوا بأيدي الناس ويسيرون بهم في الطريق الذي سبقوهم بالسير فيه.
تبقى نقطة أخيرة في هذه المسألة وهي أن البعض قد يفهم من هذا الكلام أن تربية الناس على معاني الإسلام من خلال المحاور الأربعة السابق ذكرها (المعرفية -والإيمانية- والنفسية- والحركية) يستلزم تحققها بشكل كامل فيمن يريد ممارستها.
لا شك أن الأفضل هو ذلك، ولكن لصعوبة تحققه فينا يبقي الحد الأدنى لممارسة التربية مع الآخرين هو أن نربيهم على ما تحقق فينا بصورة مرضية، وكلما استكملنا جديدًا في أنفسنا قمنا بتربيتهم عليه، وبذلك يمكن أن يقوم بأمر تربية الأمة عدد كبير من الدعاة والعاملين للإسلام، وكل من يتوق إلى خدمة الدين .. فالفتى عليه أن يقوم بتربية الأطفال على ما تحقق فيه، والشاب يقوم بتربية الفتيان على ما تمثل فيه، والرجل يقوم بذلك مع الشباب، والنساء مع الفتيات والأطفال وذلك في كل مكان يتيسر فيه المعايشة والتعاهد، ويأتي على رأس ذلك: المسجد فهو المحضن التربوي الأول الذي ينبغي أن يستفيد منه الجميع في إنجاح العملية التربوية بإذن الله.
فإن قلت: أريد تفصيلا أكثر للمحاور الأربعة التي سأقوم بتربية نفسي ومن حولي عليها .. كان الجواب: هذا مما ستتضمنه الصفحات القادمة بمشيئة الله.
* * *
المحور الأول
العقل والتربية (المعرفية)
خلق الله ﷿ الإنسان وأسكنه الأرض، وأتاح له حرية الاختيار، وطالبه بعبادته بالغيب "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: ٥٦].
وجوهر العبادة هو استسلام العبد لله سبحانه، وطاعة أوامره، ودوام الاستعانة به والتوكل عليه في الأمور كلها، مع حبه وإجلاله وتعظيمه وهيبته وخشيته.
ولكن كيف يمارس الإنسان هذه الصورة من العبودية لله ﷿ وهو لا يراه؟
كيف يعظم أو يهاب أو يخشى أو يحب أو يطيع من لا يراه؟!
الإجابة عن هذه الأسئلة تنطلق من حقيقة مفادها أن الله ﷿ لا يطالب أحدًا بشيء فوق وسعه "لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا" [البقرة: ٢٨٦]، لذلك فقد هيأ للإنسان من الأسباب والإمكانات ما يعينه على أداء وظيفته كعبد له سبحانه، وذلك من خلال أمرين عظيمين.
الأمر الأول: أن الله ﷿ قد أودع في الكون المحيط بالإنسان -بل وفي الإنسان ذاته- الكثير والكثير من المعلومات التي تدل عليه.
الأمر الثاني: أنه -جل ثناؤه- قد أعطى للإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع جمع تلك المعلومات عن ربه، ليتسنى له معرفته، ومن ثم عبادته.
الكل يعمل من أجلك
نعم، فكل ما تراه عيناك قد خُلِق من أجلك أيها الإنسان "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا" [البقرة: ٢٩].
هذه الجبال الشاهقة .. هذه البحار العظيمة .. هذه الأنهار .. الأشجار .. الدواب .. الحشرات .. الطيور .. الأسماك .. الجمادات .. الشمس .. القمر .. النجوم .. السماء .. الأرض ... كل هذا مخلوق لك "وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ" [الرحمن: ١٠].
الكل مُسخَّر لك ومخلوق من أجلك لكي تنجح في مهمة عبادة ربك بالغيب "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ" [الجاثية: ١٣].
فالأرض وما عليها، والسماء وما تحتها خُلقت من أجلك .. من أجل تعريفك بربك؛ وتيسير حياتك الدنيوية.
1 / 10
كل مخلوق في هذه الحياة قد أودع الله فيه بعض المعلومات عنه -سبحانه- فهذا يحمل معلومات عن الله العظيم، القوي، الجبار (كالجبال والبحار).
وهذا يحمل معلومات عن الله الرحيم، الكريم (كالماء والنبات).
وآخر يدل على أن الله ﷿ هو النافع الضار، الخافض الرافع، القابض الباسط (كالرياح والمطر والمرض ...).
وهكذا تتنوع المعلومات بتنوع المخلوقات:
فهذه الأنواع الكثيرة من المخلوقات التي تراها أو تسمع عنها لم تخلق عبثًا "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ - مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ .. " [الدخان: ٣٨، ٣٩].
فكل مخلوق له مهمة، وكل مخلوق يحمل رسالة تعريف بالله ﷿ ..
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل
ولكن كيف يمكن للإنسان أن يحصل على هذه المعلومات؟!
من هنا ندرك أهم حكمة لخلق «العقل».
الوسيلة المتفردة
كلما ازدادت معرفة الإنسان بالشيء تغيرت معاملته له، «فالمعاملة على قدر المعرفة».
ولأن واجبات العبودية من حب وخشية وطاعة وتوكل ... ما هي إلا معاملات ينبغي أن يعامل بها العبد ربه؛ لذلك فإن نقطة البداية الصحيحة لتحقيق العبودية والتجلبب بها هي «معرفة الله» ﷿، وكلما تعرف المرء على ربه أكثر كلما عامله بصورة أفضل، وكلما جهل المرء ربه كلما ابتعدت معاملته له عن الصورة المطلوبة "وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ" [الزمر: ٦٧].
أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي ﷺ تلا هذه الآية "يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" [الانفطار ٦]. ثم قال: جهله (١).
فكلما ازدادت معرفة الإنسان بربه ازداد حبه له، وافتقاره الدائم إليه، واعتماده عليه، واستسلامه المطلق له.
ولكي يعرف الإنسان ربه لابد وأن يجمع المعلومات عنه -سبحانه- والتي تحملها الكائنات التي تحيط به في كل مكان وزمان، وتحملها كذلك أحداث الحياة التي تمر به، بل إن الإنسان نفسه يحتوي على معلومات عن الله ﷿ لا توجد مجتمعة في مخلوق آخر "وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ - وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ"
[الذاريات: ٢٠، ٢١].
وكما قال الشاعر:
وتزعم أنك جِرْم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولقد منح الله ﷿ الإنسان الوسيلة التي من خلالها يستطيع أن يجمع المعلومات عنه سبحانه من جميع مخلوقاته، هذه الوسيلة هي العقل.
يقول الحسن البصري: «لما خلق الله ﷿ العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، وقال: ما خلقت خلقًا هو أحب إليَّ منك، إني بك أُعبد، وبك أُعرف، وبك آخذ، وبك أعطي» (٢).
فالعقل من أعظم مخلوقات الله ﷿، وبه من الإمكانات والملكات ما لا يمكن وصفه أو الإحاطة به، وإذا أردت أن تتأكد من ذلك فانظر إلى هذا الكون وما فيه من بلايين المخلوقات الكبيرة والصغيرة، وتذكر أنها جميعًا مخلوقة من أجلك، وتذكر كذلك أن الذي خلقها، قد طالبك بالنظر إليها، والتفكر فيها، والاستدلال من خلالها عليه سبحانه "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ" [الأعراف: ١٨٥] فكيف لك أن تفعل ذلك إلا إذا كان الله ﷿ قد منحك الوسيلة التي تمكنك من النجاح في هذا الأمر؟!
_________
(١) أورده السيوطي في الدر المنثور ٦/ ٥٣٤ - دار الكتب العلمية- بيروت.
(٢) شعب الإيمان للبيهقي برقم (٤٦٣٢) - دار الكتب العلمية - بيروت.
1 / 11
العرض المتحرك:
أنت -أيها الإنسان- محور هذا الكون .. الكل يدور حولك، ويعمل من أجلك وينتظر إشارتك ..
إن هذا الكون يعد بمثابة شاشة عرض كبيرة ومتحركة، تعرض عروضها أمامك كل يوم وكل ليلة، وفي كل عرض تظهر لك مشاهد جديدة، وعوالم جديدة، وأبطال جدد.
فالشمس والقمر يتحركان، والليل والنهار يتقلبان .. كل ذلك يحدث أمامك أيها الإنسان، وكأنه مسرح مكشوف أمام الجميع لينظروا إلى المخلوقات المختلفة الأشكال، والألوان، والحركات، والأصوات .. كلها تهتف باسم الله، وكأنها تقول بلسان حالها:
لقد خُلِقنا من أجلك أيها الإنسان، فلا تتركنا دون أن تنتفع بنا، وتتعرف على ربك من خلالنا، وإن غفلت عنا اليوم فسنمر عليك غدًا، وبعد الغد، وكل يوم حتى تنتبه وتنتفع بنا، ولكن احذر أن تغفل عنا طويلا، فالعرض الذي نقدمه لك كل يوم وليلة قد ينتهي بمجرد موتك وفي أي لحظة، فبادر واغتنم الفرصة .. ألم يقل لك ربك: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَّذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا" [الفرقان: ٦٢].
هيا أبصر واعتبر:
ربك يحرك الكون كله من أجلك .. تتغير المشاهد، ويتغير الأبطال لكي لا تمل، ولكي تستمر في الإبصار والاعتبار "يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ" [النور: ٤٤]، فأطلق بصرك إلى الأمام وانظر في ملكوت السماوات والأرض، وكفى نظرًا إلى أسفل قدميك، فلم تُخلق للطين، بل خُلِقت لأمر عظيم آخره الخلود والنعيم "أَفَمَن يَّمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَّمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [الملك: ٢٢].
إنك -كما يقول محمد إقبال- غاية وجود هذا الكون، ولأجلك خلق الله هذا العالم، وأبرزه إلى الوجود (١).
إن هذا الكون، الذي يتركب من لون وصوت، والذي تسرح فيه العين، وتتمتع فيه الأذن ... إنه ليس وكرك الذي تستريح فيه، والغاية التي تنتهي إليها.
إن هنالك عوالم وأكوانًا لم تقع عليها عين بعد .. إن هذه العوالم متشوقة لهجومك، وغارتك، وزحفك .. متشوقة لأبكار أفكار، وبدائع أعمالك .. إن هذا العالم يدور دورته لتنكشف عليك نفسك وحقيقتك (٢).
لا تسفه نفسك فأنت (فاتح هذا العالم، ويعجز البيان عن وصفك، وتعجز الملائكة عن مرافقتك، وعن غايتك) (٣).
واعلم أنه (لا حياة لك ولا قوام، ولا شرف ولا كرامة إلا بهذه المعرفة، فإذا ملكتها ملكت العالم، وإذا فقدتها أصبحت من سقط المتاع) (٤).
إن كل ما في العالم من الظواهر الكونية، أو الأجرام الفلكية، راحل زائل، وغائب آفل .. أنت -أيها الإنسان المسلم- بطل المعركة، وقائد الجيش، وكل ما حولك من سافل وعال، ورخيص وغال، من جنودك وأتباعك (٥).
الذنب الأكبر:
إذن فالحكمة العظمى من خلق العقل هو استخدامه في التعرف على الله ﷿ من خلال التفكر في مخلوقاته والتعرف على ما تحمله من معلومات عنه -سبحانه- "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [البقرة: ١٦٤].
_________
(١) روائع إقبال ص ١٢٢ - لأبي الحسن الندوي- دار القلم.
(٢) المصدر السابق ص ١٣٩.
(٣) المصدر السابق: ص ١٤٠.
(٤) المصدر السابق: ص ٩٢.
(٥) المصدر السابق: ص ٩٣.
1 / 12
وكثيرًا ما يذكِّر القرآن بأهمية استخدام العقل في التفكر والاعتبار لفهم آيات الله المبثوثة في كونه: "وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" [النحل: ١٢].
وحين يُعطل المرء عقله، ولا يستخدمه فيما خلق من أجله فقد سفِه نفسه، وظلمها ظلمًا عظيمًا لأنه بذلك قد سار بها إلى الهاوية .. تأمل معي حال أهل النار -والعياذ بالله- وهم يتذكرون أسباب هلاكهم وضياعهم "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: ١٠] .. والملاحظ أنهم لم يذكروا كفرهم أو شركهم أو معاصيهم وهم يؤنبون أنفسهم على ما وصلوا إليه، بل ذكروا تعطيلهم لعقولهم عن الاستخدام الصحيح.
نعم، لو استخدموا عقولهم وتفكروا في آيات الله المرئية في كونه، والمقروءة في رسالاته، لتعرفوا على ربهم، ومن ثمَّ لأطاعوه وعبدوه ولما كفروا ولما أشركوا، ومن ثم لما دخلوا النار، لذلك كان التعقيب الإلهي على اعترافهم بالحقيقة "فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ" [الملك: ١١].
بالفعل: إن ذنبهم الأكبر هو هذا الذنب، وما الكفر، وما الشرك، وما الكبر، إلا توابع لتعطيل العقل، فالذي يعطل هذه النعمة العظيمة فإنما يحرم نفسه من خير عظيم كان في متناول يده، ومن ثم تنحط مرتبته، ويهبط ويهبط حتى يصبح "أَسْفَلَ سَافِلِينَ" [التين: ٥].
"أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" [الفرقان: ٤٤].
وصدق عباس العقاد حين قال: «التفكير فريضة إسلامية».
العلم الحقيقي:
إن كان العقل هو محل العلم والمعرفة، فإن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل العبد بتحصيله هو العلم بالله ﷿، وكيف لا ومن خلاله تتحقق العبودية الحقة له سبحانه، لذلك قال بعض المفسرين في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: ٥٦] أي: إلا ليعرفون.
لماذا؟!
لأنهم إذا عرفوه: أحبوه، وعظموه، وهابوه، وأطاعوه، وتوكلوا عليه ...
جاء في الأثر أن موسى ﵇ سأل ربه فقال: يا رب، أي عبادك أخشى لك؟
قال: أعلمهم بي (١).
إذن فتحصيل العلم بالله هو أهم غاية لخلق العقل، وأي علم آخر فينبغي أن يكون تابعًا له، وفرعًا منه .. ألم يقل سبحانه "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: ١٩].
فلكي يدرك المرء حقيقة التوحيد، ويوقن بها فإنه يحتاج إلى التعرف على ربه من خلال آياته الدالة عليه "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [فصلت: ٥٣].
_________
(١) أخرجه الدارمي (٣٦٦).
1 / 13
لذلك نجد جواب موسى ﵇ عندما سأله فرعون عن الله، أنه ذكر بعضًا من المعلومات عنه -سبحانه- من خلال آثار أسمائه وصفاته المتجلية في مخلوقاته "قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى - كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُولِي النُّهَى" [طه: ٤٩ - ٥٤] وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن رجب:
أخبر سبحانه أنه ما خلق السماوات والأرض ونزل الأمر إلا لنعلم بذلك قدرته وعلمه، فيكون دليلًا على معرفته ومعرفة صفاته، كما قال تعالى: "اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" [الطلاق: ١٢].
وأخبر أنه إنما يخشاه من عباده العلماء، وهم العلماء «به».
قال ابن عباس في قوله: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: ٢٨].
قال: أي إنما يخافني من عبادي من عرف جلالي وكبريائي وعظمتي.
فأفضل العلم العلم بالله، وهو العلم بأسمائه وصفاته، وأفعاله التي توجب لصاحبها معرفة الله وخشيته ومحبته وهيبته وإجلاله وعظمته، والتبتل إليه، والتوكل عليه، والرضا عنه، والاشتغال به دون خلقه.
ويتبع ذلك العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك، والعلم بأوامر الله ونواهيه وشرائعه وأحكامه، وما يحبه من عباده من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، وما يكرهه من عباده من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة (١).
العلم النافع:
من هنا يتأكد لدينا أن العلم النافع هو الذي يؤدي إلى تحقيق التوحيد قولا وعملا، أو بمعنى آخر: هو الذي يؤدي إلى تحسين المعاملة مع الله ﷿ فيزداد المرء له خشية وطاعة ومحبة وإنابة واستقامة على صراطه المستقيم، فإن لم يُؤدِّ العلم الذي يتعلمه المرء إلى ذلك صار علما غير نافع.
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه كان يقول: «أعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع»، وفي حديث آخر قال: «سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع» (٢)، وهذا يدل -كما يقول ابن رجب- على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع في القلب فهو علم غير نافع (٣).
ويقول سفيان الثوري: إنما فُضِّل العلم لأنه يُتَّقى الله به، وإلا كان كسائر الأشياء.
وكان الإمام أحمد يقول: أصل العلم خشية الله، وقال كثير من السلف: ليس العلم كثرة الرواية وإنما العلم الخشية (٤).
وفي حكم ابن عطاء: «العلم إن قَارَنْته الخشية فلك، وإلا فعليك».
وعندما سئل الإمام أحمد عن معروف الكرخي، وقيل له: هل كان معه علم؟ فقال: كان معه أصل العلم، خشية الله ﷿ (٥).
ومن الملاحظ أن كلمة العلم في القرآن كثيرًا ما تدور حول هذا المعنى كقوله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: ٢٨].
_________
(١) مجموع رسائل ابن رجب ١/ ٤٠، ٤١ - الفاروق الحديثة للطباعة والنشر - القاهرة.
(٢) صحيح الجامع الصغير (٣٦٣٥).
(٣) شرح حديث أبي الدرداء (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا) لابن رحب الحنبلي.
(٤) المصدر السابق.
(٥) مجموع رسائل ابن رجب ٢/ ٧٨٧.
1 / 14
وقوله: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ" [الزمر: ٩].
غاية العلم:
لكي ندرك أكثر وأكثر غاية العلم علينا أن نتذكر غاية وجود الإنسان على الأرض والتي تتمثل في تحقيق العبودية الحقة لله ﷿ وما تشمله من معان مختلفة يقف على رأسها: طاعته سبحانه، وخشيته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والأنس به، ودوام الإنابة إليه، والاستسلام له، والاستعانة به، والتضحية من أجله، وإقرار شرعه.
ولأن هذه المعاني لا يمكن تحقيقها إلا من خلال المرور من باب «المعرفة» بالله ﷿ -كما أسلفنا- كانت غاية العلم هي: «التعرف على الحقائق التي تصل بالمرء إلى تحقيق العبودية لله ﷿ بمعانيها المختلفة».
بهذا ندرك مفهوم العلم النافع ومدى ارتباطه بتحسين المعاملة مع الله ﷿، وبهذا المفهوم -أيضًا- يمكننا التعرف على مدى قُرب أو بعد العلوم المختلفة من العلم النافع، مع الأخذ في الاعتبار أن معرفة الأحكام الشرعية، وما يرضي الله ﷿ وما يبغضه من الأهمية بمكان، وهي تحتل المرتبة التالية للعلم بالله ﷿ وآياته وأفعاله في خلقه، وذلك لضرورتها في تحقيق العبودية الحقة له سبحانه، فالذي امتلأ قلبه خشية لله ﷿ يحتاج أن يعرف ما الذي يُرضي ربه فيفعله، وما الذي يبغضه فيتجنبه.
لذلك فإن من جمع العِلمين (العلم بالله، والعلم بأحكامه) فقد حاز قصب السبق في ركب العلماء، ويلي ذلك العلم بالله دون العلم بجميع أحكامه، أما الصنف الثالث والذي يتمثل فيمن يعلم الأحكام وليس لديه علم حقيقي بالله، فهذا الصنف مذموم لأنه قد يُطَوِّع هذا العلم في اتجاه هواه وكل ما يجعله محل رضى الناس فيكون ذلك سببًا في هلاكه والعياذ بالله.
قال سفيان الثوري: «كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله وليس بعالم بأمر الله، وعالم بالله عالم بأمر الله يخشى الله فذلك العالم الكامل، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله لا يخشى الله فذلك العالم الفاجر» (١).
الباب الأعظم:
من هنا نقول أن العلم الحقيقي الذي ينبغي أن ينشغل به العقل -أول ما ينشغل- هو العلم بالله ﷿، وأن أي علم آخر ينبغي أن يكون تاليا له، منطلقًا منه.
إن علم التوحيد الحقيقي هو «الباب الأعظم» الذي ينبغي أن ندخل منه جميعًا، وبعد ذلك ندخل إلى العلوم المختلفة حتى نتمكن من الاستفادة الحقيقية منها في تحقيق العبودية لله ﷿، فإن لم يحدث هذا، وبدأ المرء في تعلم العلوم المختلفة متجاوزًا العلم بالله ﷿ فإن مقصود هذه العلوم لن يتحقق بالصورة المطلوبة.
فعلى سبيل المثال: عندما يتعلم المرء العلوم الكونية قبل تعلمه العلم بالله ﷿ فإنه لن يستطيع -بتلقائية- أن يربطها بالله ﷿، ومن ثم لن تزيده معرفة به سبحانه، وإن تكلف ذلك.
أما إذا تعلمها بعد دخوله من «الباب الأعظم» للعلم فإنه سيستفيد بها استفادة عظيمة في الاستدلال على الله ﷿ وأسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة عليه، فيزداد بهذه العلوم معرفة بربه ومن ثم خشيته وهذا ما يؤكده قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ - وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" [فاطر: ٢٧، ٢٨].
_________
(١) أخرجه الدارمي (٣٦٧) المقدمة.
1 / 15
وما ينطبق على العلوم الكونية ينطبق على العلوم الأخرى، فالعلم بالتاريخ علم مهم ولكن ينبغي أن يكون تاليًا ومنطلقًا من العلم بالله ﷿، فنرى من خلاله أفعاله سبحانه، وسنته في خلقه عبر الحقب والأزمنة السابقة فيزداد تعرُّفنا عليه، وخشيتنا له، وتعلقنا به.
العقل المُعطَّل:
خلصنا مما سبق إلى أن وظيفة العقل الأولى هي التعرف على الله ﷿، لذلك فإن المطلوب من المسلم دومًا أن يقوم بتنمية عقله، وتوسيع مداركه، وفتح نوافذه لتحصيل هذه المعرفة.
إن العقل البشري به كم هائل من النوافذ والخلايا التي تقوم باستقبال وتخزين المعلومات، ويكفي أن تعرف أن بعض الأبحاث العلمية أثبتت أن عدد خلايا المخ يصل إلى ما يقارب ٢٠٠ بليون خلية .. هذه الخلايا لديها من الكفاءة ما يمكنها - بإذن الله- من تخزين حوالي ١٠٠ بليون معلومة، وأن أقصى ما يستخدمه الإنسان من هذه الكفاءة لم يتجاوز العشرة بالمائة (١٠%) .. والسبب الرئيس في ذلك هو ابتعاده عن أداء الوظيفة التي خلق من أجلها، والتي تستلزم منه التفكر فيما يراه من أحداث، وما يتجدد من مشاهد لمخلوقات متنوعة، وأحداث متقلبة، والاستدلال من خلال هذا التفكر على صفات خالقه.
ومهما نجح الإنسان في اكتشاف الجديد، ومهما استخدم عقله في الاختراعات المبهرة النافعة إلا أن هذا كله - مع أهميته وضرورته- لا يستهلك سوى قدر محدود من إمكانات العقل، في حين تظل أغلب نوافذ هذا العقل مغلقة، لأنه - في الأساس- قد خُلق لوظيفة عظيمة تستلزم منه أن يُطل على العوالم المختلفة المحيطة به، وعلى ذاته التي تحتوي على صورة مصغرة من كتاب الكون، فيتعرف من خلالها على ربه.
من هذا التصور لوظيفة العقل الأولى نُدرك أن الاهتمامات العلمية في العصور الأخيرة للبشرية -مع أهمية الكثير منها في نفع حياة الإنسان «الطينية» - تنحصر في قشرة صغيرة، وسطور قليلة من كتاب الكون العظيم، وصدق الله العظيم "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ - أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ" [الروم: ٧، ٨].
فلننتبه قبل فوات الأوان:
فإن كان الأمر كذلك، وإن استمرت غفلتنا عن حقيقة وجودنا، وعن أهمية استخدام العقل في الاتجاه الصحيح، فمن المتوقع أن مشاعر الحسرة والندم ستتملكنا عند الموت، وبعد انكشاف الغطاء الذي يفصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة .. سيشتد الندم على تضييع العمر وعدم الانتفاع بالعقل في الوصول إلى معرفة الله ﷿ "لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" [ق: ٢٢].
ويكفيك تأكيدًا لهذا المعنى قوله ﷺ بعد نزول الآيات: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ" [آل عمران: ١٩٠]: «ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر بها» (١).
ولعل المثال التالي يقرب لنا المعنى أكثر وأكثر:
_________
(١) رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحهما.
1 / 16
لو أن رجلًا سافر إلى مكان ما للنزهة والاستجمام، وأقام في حجرة بأجمل فندق في هذا المكان .. هذه الحجرة تطل على مناظر ساحرة خلابة ما بين نهر جار، وحدائق غناء، ومناظر مبهرة تخطف بالأبصار ..، وكل جهة من جهاتها بها عدد كبير من النوافذ المغلقة والمغُطاة بالسُتُر، فما كان من هذا الرجل إلا أن سأل عن النافذة التي تطل على مدخل الفندق، والساحة المحيطة به حيث تقبع سيارته، وظل طيلة وجوده ينظر من هذه النافذة فقط ويراقب حركة القادمين والمغادرين، ويطمئن على سيارته، وبعد انتهاء مدة إقامته، وبينما هو يغادر الفندق إذا به يلتقي بصديق له كان يقيم في نفس المكان، وإذا بحالة من الانبهار تسيطر على هذا الصديق والتي ترجمتها كثرة حديثه لصاحبنا عن المناظر الخلابة التي رآها، وأشعة الشمس وهي تتعانق مع صفحة الماء، وألوان الأزهار التي تسر الناظرين و..، ويستمر حديث الصديق وصاحبنا يقف مذهولًا، فهو لم يرَ أي شيء من هذا لأنه لم يحاول فتح النوافذ التي تمتلئ بها حجرته، واكتفى بفتح واحدة منها لم تنقل له عُشر معشار ما رآه صديقه!!
بلا شك ستتملك صاحبنا مشاعر الحسرة والندم على ما فاته من متعة، وسيظل يقول في نفسه: يا ليتني حاولت فتح النوافذ الأخرى، يا حسرتي على الإجازة التي لم أستفد بها إلا يسيرًا.
هذا الحسرة لا ترقى بأي حال من الأحوال إلى جانب حسرة من ينشغل طيلة حياته بطين الأرض، ويستخدم جزءًا يسيرًا من عقله للحفاظ على حياته الطينية دون أن يحاول فتح نوافذه ليطل من خلالها على العالم الكبير الذي خُلق لأجله.
فضيلة التفكر:
من هنا ندرك أهمية التفكر، وكيف أنه عبادة عظيمة ينبغي علينا أن نمارسها باستمرار لنفتح من خلالها نوافذ العقل، فتزداد مساحة الرؤية، وتتسع تبعًا لها درجة المعرفة بالله ﷿ .. قال ﷺ: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله» (١).
وقال الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وكان سفيان بن عيينة كثيرًا ما يتمثل بقول القائل:
إذ المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة
فبالتفكر لا يترك المسلم (مسارح النظر ترقد ولا تكرى إلا وهو يقظان الفكر .. نهار يحول، وليل يزول، وشمس تجري، وقمر يسري، وسحاب مكفهر، وبحر مستطر، ووالد يتلف وولد يَخلُف، ما خلق الله هذا باطلا، وإن بعد ذلك ثوابًا وعقابًا) (٢).
علم اليقين:
ليس المقصد من تحصيل العلم بالله ﷿ هو المعرفة العابرة التي تختلط بالمعارف المختلفة ولا تشكل يقين الإنسان، بل المقصد معرفة ترسخ في العقل الباطن، وتشكل اليقين، فتتداخل وتتشابك وتصوغ تصوراته ومفاهيمه، فيصبح صاحبها من الراسخين في العلم بالله ﷿ "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا" [آل عمران: ٧].
_________
(١) صحيح الجامع الصغير (٣٩٧٦).
(٢) فيض القدير للمناوي ٣/ ٣٤٧ - دار الكتب العلمية- بيروت.
1 / 17
ولكي نصل إلى هذه الدرجة لابد من كثرة عرض المعلومات عن الله ﷿ على العقل بأساليب مختلفة حتى لا يألفها فتنتقل تلك المعلومات من منطقة الشعور إلى منطقة اللاشعور أو (العقل الباطن)، ومن ثم تشكل بمرور الوقت جزءًا من اليقين (١).
مستهدف التربية المعرفية:
بعد أن تعرفنا على الوظيفة الأساسية للعقل، والحكمة من خلقه يمكننا القول بأن هدف التربية المعرفية هو: إنماء العقل وتوسيع مداركه، وفتح نوافذه، وإكسابه التلقائية في التفكير في كل شيء يحدث حوله والاعتبار به، والتعرف من خلاله على الله ﷿ وعلى حتمية العودة إليه "أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَّكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ" [الأعراف: ١٨٥].
أو بعبارة أخرى:
المطلوب من المسلم إنماء عقله من خلال تحصيل العلم الراسخ النافع بالله ﷿ والذي يؤدي إلى تحسين المعاملة معه -سبحانه-، وأي علم آخر يريد أن يتعلمه الإنسان ينبغي أن يتم الدخول إليه من هذا الباب .. «باب التوحيد» "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد: ١٩].
* * *
المحور الثاني
القلب والتربية الإيمانية
يحكي أحد الأصدقاء أنه في يوم من الأيام استقل سيارة (أجرة)، وفي الطريق بدأ يتجاذب أطراف الحديث مع سائقها الشاب، وتطرق حديثه معه عن الصلاة ثم سأله: هل تواظب على أداء الصلاة؟! فكانت إجابته بالنفي، وما إن بدأ صاحبنا يحدثه عن الله ﷿ وعن نعمه المتوالية علينا وأن شكر هذه النعم يستوجب طاعته و...، إذا بالسائق يقاطعه بحديث عظيم عن الله ﷿ ونعمه السابغة، وقيوميته، وحفظه، وأنه لولا الله ما أبصر أو سمع أو تكلم أو تحرك ..، واستمر السائق في حديثه عن الله حتى وصل صاحبنا إلى المكان الذي يريده، وهبط من السيارة وهو يسأل نفسه: إن كان هذا الرجل يعرف عن الله ﷿ كل هذه المعرفة فلماذا لم ينعكس أثر هذه المعرفة على سلوكه فيطيع ربه ويحافظ على أداء الصلاة؟!
الإجابة عن هذا السؤال تستدعي التعرف على الفارق بين العقل والقلب ..
مركز الإرادة:
لو كان العقل هو الذي يحرك الإنسان، لكانت المعرفة العقلية وحدها تكفي كدافع للسلوك إلا أن الأمر ليس كذلك، فمع أهمية المعرفة وضرورتها كبوابة أساسية لتحقيق العبودية ومن ثم الاستقامة؛ إلا أنها لا تكفي لتغيير السلوك .. لماذا؟!
لأن الذي يصدر الأوامر بالحركة الإرادية داخل الإنسان هو القلب وليس العقل.
_________
(١) أي معلومة يتلقاها الإنسان من خلال سمعه أو بصره أو حواسه المختلفة تذهب إلى جزء في العقل يسمى (العقل المدرك) أو (الشعور)، فإذا قبلها العقل المدرك انتقلت إلى الجزء الآخر من العقل وهو (الغير مدرك) أو (اللاشعور)، والذي يشكل منطقة العلم الراسخ، أو اليقين، أو المعتقدات، سواء كانت صحيحة أو فاسدة، ولكي يستقر مدلول المعلومة في منطقة اللاشعور لابد من تكرار مرورها على العقل المدرك مرات ومرات فيمررها إلى (اللاشعور) حتى تستقر فيه .. مثال: تعلم قيادة السيارة: في البداية يتم تحصيل المعلومات بالعقل المدرك، واستخدامها به كذلك وهذا يظهر من خلال تركيز السائق الشديد في القيادة وعدم التجاوب مع أي أحداث تحدث حوله، وبعد تكرار وتكرار مرور معلومات القيادة إلى العقل غير المدرك يحدث استقرار لمدلولها فيه، ومن ثم يمكن للسائق أن يقود السيارة بلا تفكير، بل إنه يمكنه الحديث مع من حوله وهو يقود السيارة، ومثال آخر: تعلم أحكام التجويد وممارستها: في البداية يكون بالعقل المدرك وبعد ذلك يكون بالعقل غير المدرك، وينطق القارئ الآيات بترتيل دون تفكير في مواضع أحكام التجويد.
1 / 18
فالقلب يعد بمثابة مركز الإرادة واتخاذ القرار، ومنه تنطلق الأوامر بالأفعال الإرادية وما على الجميع إلا التنفيذ .. قال ﷺ: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب» (١).
هذا القلب تتجاذبه قوتان: «قوة الهوى» وما تميل إليه النفس وتشتهي، وقوة «الإيمان» (أو التصديق والاطمئنان) بما في العقل من أفكار وقناعات، والأقوى منهما وقت اتخاذ القرار هو الذي يستولي على الإرادة، ويوجه القرار لصالحه.
فعندما يسمع المسلم أذان الفجر ويريد أن ينهض من نومه للصلاة فإن صراعًا ينشب داخله، بين إيمانه بأهمية ضرورة القيام لصلاة الفجر وبين هوى نفسه وحبها للراحة والنوم وعدم التعرض للمشقة، فإن استيقظ فإنما أيقظه إيمانه الذي كان أقوى من الهوى في هذه اللحظة، وإن نام فإنما أنامه هواه الذي كان أقوى من إيمانه في هذه اللحظة.
وعندما تقع عين المسلم على وجه امرأة أجنبية عنه، فعليه أن يغض بصره، فإن لم يفعل، فذلك معناه أن هوى نفسه في إطلاق البصر والنظر إلى المرأة في هذه اللحظة كان أقوى من إيمانه بالله، وضرورة طاعة أوامره بغض البصر.
* * فالإيمان هو الدافع للسلوك الإيجابي "وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" [الحج: ٣٢].
* * والهوى هو الدافع للسلوك السلبي "فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ" [القصص: ٥٠].
معنى ذلك أنه إن لم يحدث للمعارف والقناعات الموجودة بالعقل اطمئنان وتصديق قلبي بالقدر الذي يقاوم الهوى المضاد لهذه القناعات وينتصر عليه؛ فإن هذه القناعات لن تترجم إلى سلوك عملي، ومن ثم يصبح كلام المرء وقناعاته في جانب، وسلوكه في جانب آخر.
فلا يكفي المرء اقتناعه بالفكرة لكي يمارس مقتضاها في واقعه العملي، بل لابد من تحويل هذه الفكرة إلى إيمان عميق في القلب ينتصر على الهوى.
ولا يكفي كذلك وجود إيمان بالفكرة في القلب لكي يثمر السلوك المترِجم لها، بل لابد وأن يكون الإيمان أقوى من الهوى المضاد لهذه الفكرة حتى يستطيع الانتصار عليه وقت اتخاذ القرار.
فعلى سبيل المثال: لكي يصبح الإنفاق في سبيل الله سلوكًا دائمًا للعبد؛ لابد من تمكن الإيمان والتصديق والاطمئنان القلبي بأهميته، وفضله حتى يستطيع المرء -بإذن الله- مواجهة قوة هواه الشديدة لحب المال والحرص عليه والشح به.
مع الأخذ في الاعتبار ضرورة التغذية الدائمة لهذا الإيمان حتى يتمكن المسلم من المقاومة المستمرة لهوى نفسه وشحها.
المعرفة وحدها لا تكفي:
المعرفة العقلية -إذن- لا تكفي لحدوث الاستقامة والقيام بواجبات العبودية لله ﷿، بل لابد وأن تتحول هذه المعرفة إلى إيمان عميق يرسخ مدلوله في القلب وينتصر على الهوى لينعكس أثره على السلوك.
لابد من تعانق الفكر بالعاطفة لينشأ الإيمان بإذن الله، ويتجلى هذا الأمر في قوله تعالى: "وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ" [الحج: ٥٤].
ولابد كذلك من استمرار هذا التعانق حتى يرسخ الإيمان في القلب ومن ثم يتمكن من الانتصار على الهوى، ويظهر أثره على السلوك، وهذا يستلزم تغذية دائمة لهذا الإيمان.
قال ﷺ: «إن الإيمان ليخلق (٢) في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (٣).
_________
(١) متفق عليه.
(٢) يخلق: أي يبلى.
(٣) صحيح، رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (١٠٩٠).
1 / 19