المستشرقون والسنة
المستشرقون والسنة
प्रकाशक
مكتبة المنار الإسلامية ومؤسسة الريَّان
संस्करण संख्या
بدون تاريخ
प्रकाशक स्थान
بيروت - لبنان
शैलियों
دفاع عن الحديث النبوي
[١]
المُسْتَشْرِقُونَ والسُنَّةُ
تأليف الدكتور سعد المرصفي
مكتبة المنار الإسلامية ومؤسسة الريَّان، بيروت - لبنان.
الطبعة: بدون تاريخ.
عدد الأجزاء: ١.
أعده للمكتبة الشاملة / توفيق بن محمد القريشي، غفر الله له ولوالديه.
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
1 / 3
دفاع عن الحديث النبوي في ضوء أصول التحديث رواية ودراية ورد الشبهات ودحض المفتريات
[١]
المستشرقون والسُنَّة
تأليف الدكتور سعد المرصفي
مكتبة المنار الإسلامية ومؤسسة الريَّان، بيروت - لبنان
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)
1 / 4
مقدمة:
الحياة صراع بين الحق والباطل .. وشاءت إرادة الله أنْ يُبتلَى المؤمنون، وأنْ تتنوَّع صُنُوف الابتلاء، وأنْ تكون الغلبة للذين يثبتون ويصمدون، وهذا الثبات يَهِبُ النفوسَ قوَّةً، ويرفعها عن ذواتها، فيصفو عنصرها ويضيء، ويَهِبُ العقيدة عُمقًا وحيويَّة، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها!
وقد ابتُلِيَ المسلمون من قديم الزمان بأعداء ألدَّاء، كادوا ما وسعهم الكيدُ، وحاكوا المؤامرات والدسائس للقضاء على الإسلام، وذهاب دولته. حينما تلألأت في أعينهم عقيدة هذه الأمَّة، لا يألون في ذلك جهدًا، ولا يدَّخرون وسعًا!
وجاهروا بالعداء والمعالنة بالخصومة أحيانًا، واستعملوا أساليب الدَسِّ والخديعة أحيانًا أخرى، ووجَّهُوا سهامهم أولًا إلى التشكيك في القرآن الكريم، وفاتهم أنه قد روعي في تسميته قرآنا كونه متلوًا بالألسن، وفي تسميته كتابًا كونه مُدَوَّنًا بالأقلام، وأنَّ كلتا التسميتين - كما يقول المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز (١) من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أنَّ من حَقِّهِ العناية بحفظه في موضعين، لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور معًا، أنْ تضلَّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ..
وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمَّة اقتداء بنبيِّها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفَّل بحفظه، حيث يقول:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٢).
_________
(١) " النبأ العظيم ": ص ١٢ - ١٤ بتصرف.
(٢) [الحجر: ٩].
1 / 5
ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفَّل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى:
﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾ (١).
والسِرُّ في هذه التفرقة أنَّ سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأنَّ هذا القرآن جيء به مُصَدِّقًا لما بين يديه من الكتب ومُهيمنًا عليها، فكان جامعًا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدًا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادًا مسدها، فقضى أنْ يبقى حُجَّة إلى قيام الساعة.
ولكن أتباع الكتب الماضية، وغيرهم مِمَّن هم أشد عداء وانحرافًا، قد حاولوا معًا جاهدين التشكيك في هذا الكتاب حقدًا وحسدًا، وقدروا على تزوير بعض الأحداث، وتقديم العملاء في صور برَّاقة أخَّاذة، ولكنها لم تلبث أنْ تكشف زيفها، ومع كل هذا لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه، حين بعدوا عنه، وأصبحوا بعد أنْ نبذوا تحكيمه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل، لا يدفع ولا يمنع ولا ينفع، فدلَّ هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهد هذا الواقع بأنه حقًا تنزيل من عزيز حكيم.
ومن ثم توجَّهُوا إلى السُنَّة النبوية واتَّخذوا للوصول إلى غايتهم الدنيئة أساليب متعددة!، وجاء المُبَشِّرُون والمستشرقون فأخذوا طُعُونَ هؤلاء وأولئك ونفخوا فيها، وزادوا ما شاء لهم هواهم أنْ يزيدوا، مع الاستمرار في محاولاتهم الفاشلة في اتجاهات متوازية، تتمثل فيما يأتي (٢):
١ - محاربة الإسلام والبحث عن نقاط ضعف متوهِّمة فيه، وإبرازها والزعم بأنه دين مأخوذ من اليهودية والنصرانية .. !
٢ - حَجْبُ حقائق الإسلام عن غير المسلمين، ومحاولة تحذيرهم من معرفته .. !
٣ - التبشير ومحاولة إخراج المسلمين عن دينهم .. !
_________
(١) [المائدة: ٤٤]
(٢) انظر " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص ٧٢، و" دائرة المعارف الإسلامية ": ١٣/ ٣٩٠ وما بعدها.
1 / 6
ولعل أشدَّ المُسْتَشْرِقِينَ خطرًا، وأطولهم باعًا (١)، وأكثرهم خُبثًا وإفسادًا في هذا الميدان، هو المُسْتَشْرِقُ اليهودي المَجَرِي «جُولْدْتسِيهِرْ» الذي عُدَّ شيخ المُسْتَشْرِقِينَ في الجيل الماضي، ولا تزال كُتُبُهُ وبُحُوثُهُ مرجعًا خصبًا وهَامًّا للمستشرقين في هذا العصر، يقول عنه كاتب مادة «الحديث» في " دائرة المعارف الإسلامية " للمستشرقين: «إنَّ العلم مَدِينٌ دَيْنًا كبيرًا لما كتبه «جُولْدْتسِيهِرْ» في موضوع الحديث، وقد كان تأثير «جُولْدْتسِيهِرْ» على مسار الدراسات الإسلامية والاستشراقية أعظم مِمَّا كان لأيٍّ من معاصريه من المُسْتَشْرِقِينَ، فقد حَدَّدَ تحديدًا حاسمًا اتجاه وتطور البحث في هذه الدراسات» (٢) ويلخِّصُ «بغانموللر» عمل «جُولْدْتسِيهِرْ» في هذا المجال فيقول: «كان «جُولْدْتسِيهِرْ» أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي!، وقد تناول في القسم الثاني من كتابه: " دِرَاسَاتٌ مُحَمَّدِيَّةٌ " موضوع تطوُّر الحديث تناولًا عميقًا، وراح بما له في علم عميق واطِّلاَعٍ يفوق كل وصف! - يبحث التطور الداخلي والخارجي للحديث من كل النواحي .. ! وقد قادته المُعَايَشَةُ العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشَكِّ في الحديث!، ولم يَعُدْ يثق فيه مثلما كان «دُوزِي» لا يزال يفعل ذلك في كتابه " مقال في تاريخ الإسلام " وبالأحرى كان «جُولْدْتسِيهِرْ» يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني؟!، فالحديث بالنسبة له لا يُعَدُّ وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة، لتطوُّر الإسلام! ويُصَوِّرُ «جُولْدْتسِيهِرْ» التطور التدريجي للحديث .. وكيف كان انعكاسًا لروح العصر؟! وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة ..؟! وقد وَجَّهُوا شُبُهاتهم حول مفهوم السُنَّة وتدوينها، وجهالاتهم حول السند والمتن!.
ومن هذا وجدت أنَّ موقف المُسْتَشْرِقِينَ من السُنَّةِ النبوية - رغم الجهود الكثيرة التي سبقت في هذا الميدان كما سيأتي - يفرض نفسه بإلحاح، ويتطلَّبُ مواجهة جَادَّة، وِفْقَ أصول التحديث رواية ودراية، وإنْ كان يعتري ذلك كثير من
_________
(١) انظر " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص ١٨٩.
(٢) انطر: " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص ١٠٠ - ١٠١، و" دائرة المعارف الإسلامية ": ١٣/ ٣٩١.
1 / 7
الصعاب التي يشفق منها بعض الباحثين، ويتراجع أمامها كثير من الدَّارسين، فإنَّ أوجب ما يفرضه الحَقُّ علينا أنْ نَرُدَّ هذه الشُبُهَات، ونُبيِّنَ تهافتَ تلك المُفتريات، ونُواجه هذه الأباطيل بعوامل البناء، لِنَدْحَضَ معاول الهدم والفناء، ونرفع صَرْحَ الدِّينِ، لنُجَدِّدَ عهد السَّلَفِ الصالحين.
واقتضت مَنْهَجِيَّةُ البحث أنْ يشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: أضواء على الاسْتِشْرَاق والمُسْتَشْرِقِينَ.
الفصل الثاني: شُبُهَاتٌ حول مفهوم السُنَّة وتدوينها.
الفصل الثالث: جهالات حول السند والمَتْنِ.
واللهَ أسأل: التوفيق والسداد. والعون والرشاد.
إنه سميع مجيب.
الكويت في: ٢١/ ٩ / ١٤٠٠ هـ - ١٤/ ٤ / ١٩٩٠ م
سعد محمد محمد الشيخ (المرصفي)
1 / 8
الفصل الأول: أضواء على الاسْتِشْرَاق والمُسْتَشْرِقِينَ:
مفهوم الاسْتِشْرَاق ونشأته:
يطلق لفظ الاسْتِشْرَاق على طلب معرفة ودراسة اللغات والآداب الشرقية، ويطلق لفظ المُسْتَشْرِقِ على الدارس للغات الشرق وفنونه وحضارته، وعليه فَالاسْتِشْرَاقُ دراسة يقوم بها غير الشَرْقِيِّينَ لتُراث الشرق، هذا من حيث المفهوم الواسع.
والذي يعنينا كما يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق (١) -: هو «المعنى الخاص لمفهوم الاسْتِشْرَاق الذي يعني الدراسات الغربية المتعلِّقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام، وهذا هو المعنى الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي والإسلامي، عندما يطلق لفظ استشراق أو مستشرق، وهو الشائع أيضًا في كتابات المُسْتَشْرِقِينَ المَعْنِيِّينَ».
وقد حظي الإسلام واللغة العربية باهتمام المُسْتَشْرِقِينَ الذين أَوْلَوْا هذين الموضوعين عنايتهم أَيَّمَا عناية، وشملوهما باهتمام دون غيرهما من سائر الموضوعات، وهذا مِمَّا يلفت النظر في - المقدمة - إلى معرفة أسباب هذه العناية - كما سيأتي - وحسبنا هنا أنْ نذكر قول «جون تاكلي»: «يجب أنْ نستخدم كتابهم - أي القرآن الكريم - وهوأمضى سلاح في الإسلام، ضِدَّ الإسلام نفسه، لنقضي عليه تمامًا، يجب أنْ نُري هؤلاء الناس أنَّ الصحيح في القرآن ليس جديدًا، وأنَّ الجديد فيه ليس صحيحًا!» ويقول «جِبْ»: «إنَّ الاسلام مَبْنِيٌّ على الأحاديث أكثر مِمَّا هو مَبْنِيٌّ على القرآن، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شيء» (٢)!.
_________
(١) " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص ١٨.
(٢) " التبشير والاستعمار ": ص ٤٠ نقلًا عن المرْجِعَيْنِ الأَصْلِيَيْنِ.
1 / 9
ولخَّصَ «بلغراف» عداءهم للقرآن في كلمته المشهورة: «متى توارى القرآنُ، ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أنْ نرى العربي يتدرَّج في سبل الحضارة التي لم يبعده عنها إلاَّ محمد وكتابه (١).
ولقد قُدِّرَ للقرآن الكريم أنْ يحتضن الإسلام واللغة العربية، كما قُدِّرَ للحديث النبوي ذلك، ومن ثم أصبحا أغنى المواضيع عند المُسْتَشْرِقِينَ على الإطلاق، واستأثرا باهتمامهم، فتوفَّروا عليهما، وبحثوا في كل ما قدروا عليه من علومهما، ودارت حولهما بحوثهم الأكاديمية بصورة تلفت النظر، وتسترعي الانتباه، وتستوقف الباحث المتأمل، ولا نكون غالين ولا مُتزيِّدين إذا قلنا: إنَّ القرآن والسُنَّة هما المحور الذي تدور حوله الدراسات الاستشراقية.
يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق (١): «ومن الصعب تحديد تاريخ مُعَيَّنٍ لبداية الاسْتِشْرَاق وإذا كان بعض الباحثين يشير إلى أنَّ الغرب النصراني يؤرِّخ لبدء وجود الاسْتِشْرَاق الرسمي بصدور قرار مجمع فيِنَّا الكَنَسِي في عام ١٣١٢ هـ بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوربية (٣)، ولكن الإشارة هنا إلى «الاسْتِشْرَاق الكَنَسِي» تدل على أنه كان هناك اسْتِشْرَاق غير رسمي قبل هذا التاريخ، فضلًا عن أنَّ هناك باحثين أُورُوبيِّينَ لا يعتمدون التاريخ المُشار إليه بداية للاِسْتِشْرَاقِ، ولذلك تتَّجه المحاولات في هذا الصدد لا إلى تحديد سَنَةٍ مُعَيَّنة لبداية الاسْتِشْرَاق، وإنما إلى تحديد فترة زمنية مُعَيَّنة على وجه التقريب، يمكن أنْ تُعَدَّ بدايةً للاِسْتِشْرَاقِ، وليس هناك شك في أنَّ الانتشار السريع للإسلام في المشرق والمغرب قد لفت بقوة أنظار رجالات اللاَّهوت النصراني إلى هذا الدين، ومن هنا بدأ اهتمامهم بالإسلام ودراسته .. وعلى الرغم من أنَّ الاسْتِشْرَاقَ يمتدُّ بجذوره إلى ما يقرب من ألف عام مضت، فإنَّ مفهوم مُسْتَشْرِق لم يظهر في أوربا إلاَّ في نهاية القرن الثامن عشر .. وأدرج مفهوم الاسْتِشْرَاق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام ١٨٣٨ م ... وعلى أية حال فإنَّ الدافع لهذه البدايات المُبَكِّرَةِ للاِسْتِشْرَاقِ كان
_________
(١) " لمحات في الثقافة الإسلامية ": ص ١٧٤.
(٢) " الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص ١٨ وما بعدها بتصرف.
(٣) انظر: " الاسْتِشْرَاق " إدوارد سعيد: ص ٨٠.
1 / 10
يتمثل في ذلك الصراع الذي دار بين العالمين: الإسلامي والنصراني في الأندلس وصقليَّة، كما دفعت الحروب الصليبية بصفة خاصة إلى اشتغال الأوربيين بتعاليم الإسلام وعاداته، ولهذا يمكن القول بأنَّ تاريخ الاسْتِشْرَاق في مراحله الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين: الديني والأيدلوجي ..
وقد نشأت الصلة بين الغرب خاصة والمسلمين عامة - كما يقول الدكتور عجيل النشمي (١) - منذ أنْ كان المسلمون في أسبانيا، وكانت أوثق الصلات بالمسلمين من فرنسا وإيطاليا وانجلترا، حيث إنَّ فرنسا عرفت المسلمين منذ أنْ اجتاح عبد الرحمن الغافقي بجيوشه جبال البرانس، واستولى على مدن كثيرة، إلى أنْ كانت موقعة بواتييه سنة ٧٧٢.
وكانت هناك صلة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد ٨٠٩ ومراسلاته وهداياه مع الإمبراطور شارلمان ٨١٤ كان لها دور في توثيق الصِلاَتِ، ثم جاءت مرحلة الحروب الصليبية!
وهناك دوافع الحروب الصليبية التي يطول الحديث فيها، وكذلك الظواهر التي تَتَّسِمُ بها بحوث المُسْتَشْرِقِينَ، فنَّدَهَا المرحوم الدكتور مصطفى السباعي، فليرجع إليها من شاء (١).
وسارت فرنسا خطوات في احتلال شمال أفريقيا، وحملة نابليون على مصر، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، وكل ذلك أثمر نتائج متعدِّدة متنوِّعة حضارية وثقافية وفكرية وعقائدية، ومن ثم كانت مدارس للدراسات الشرقية ومعاهد وجامعات ومجلاَّت.
ومعلوم أنَّ إيطاليا أعرق دول الغرب اتصالًا بالمسلمين وحضارتهم اتصالًا قويًا، ومن ثم عنيت جامعة بولونيا ١٠٧٦ بعلوم العرب، وجامعة نابولي ١٢٢٤ بثقافتهم، وجامعة روما ١٢٤٨ بالآثار واللغة والآداب العربية والألسنة السامية،
_________
(١) " المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلاَمِي ": ص ٧ وما بعدها بتصرف.
(٢) انظر: " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص ١٨٧ - ١٨٩.
1 / 11
وجامعة فلورنسا ١٣٢١ باللغات الشرقية، والجامعة الغريغورية ١٥٥٣ باللاَّهوت، والحق والقانون الشرقي والدراسات الإسلامية (١) .. وأصبح الرُهبان يُشَكِّلُونَ طلائع الاسْتِشْرَاق بصفة عامَّة.
وأما إنجلترا فقد تهيَّأَ لِلْمُسْتَشْرِقِينَ فيها ما لم يتهيَّأ لغيرهم، حيث امتدَّت الاتصالات العلميَّة والاقتصاديَّة، ثم الاستعماريَّة في الأندلس، ثم الهند والعراق ومصر وفلسطين، فكانت سبيلًا للاتصالات الثقافية والاحتكاك المباشر بالمسلمين وعلومهم (٢). ومن ثم نشأت حركة استشراقية واسعة، تتمثَّل في إنشاء كراسي للعربية والدراسات الشرقية في جامعاتها، مثل جامعة أُكسفورد ١١٦٧ وجامعة كمبريدج ١٢٥٧ وجامعة لندن ١٨٢٨ وجامعة درهام ١٨٣٨وجامعة فكتوريا ١٨٨٠ وجامعة ليدز ١٨٨٤ وجامعة ويلز ١٨٩٣ وجامعة ليفربول ١٩٠٣وجامعة بريستول ١٩٠٩، كما أنشأت المكتبات والمجلاَّت الشرقية المُتَخصِّصَة.
وهكذا كانت نشأةُ الاسْتِشْرَاقِ.
مراحل كتابة المُسْتَشْرِقِينَ:
وأما عن مراحل كتابة المُسْتَشْرِقِينَ فهي ترجع في عمومها إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الطلائع.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد سقوط غرناطة.
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد سقوط الخلافة الإسلامية.
ويطول بنا الحديث لو حاولنا ذكر معالم كل مرحلة (٣).
الغارة على المخطوطات والكتب العربية:
وبحلول القرن الثامن عشر بدأ الغرب في استعمار العالم الإسلامي،
_________
(١) انظر: " المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلاَمِي ": ص ٧ - ٨. و" المستشرقون "للعقيقي: ١/ ٣٤٧ ط. ثالثة دار المعارف بمصر ١٩٦٤.
(٢) انظر: " المستشرقون " للعقيقي: ٧: ٠٤٤ ا - ١٠٨٠.
(٣) انظر: " المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلاَمِي ": ص ١٠ وما بعدها.
1 / 12
والاستيلاء على ممتلكاته، واستباحة مُقَدَّسَاتِهِ وذخائره ونفائسه، فأخذ نفر من علماء الغرب ينبغون في الاسْتِشْرَاق، ويُصْدِرُونَ المجلاَّت في عواصم الغرب، وطَفِقُوا يُغِيرُونَ على المخطوطات العربية في البلاد الإسلامية التي أصبحت نهبًا مباحًا لهؤلاء الطامعين، بعد أنْ استعمرتها دولُهم وقهرتها، وبشتى الطرق ومختلف الأساليب أخذوا يجمعون هذه المخطوطات وتلك النفائس والذخائر من تراثنا العربي والإسلامي، إمَّا بشرائها من أصحابها الجَهَلَة، أو بسرقتها من المكتبات العامة التي كانت حينذاك في غاية الفوضى، وأخذوا ينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم ومتاحفهم!.
وإذا بأعداد من نوادر المخطوطات تنقل إلى مكتبات أوروبا ومتاحفها (١).
وإذا بنا نرى أنه قد بلغ عددها في أوائل القرن التاسع عشر (٢٥٠٠٠٠) خمسين ومائتي ألف مجلد، وما زال هذا العدد في زيادة مطردة حتى يومنا هذا!.
عقد المؤتمرات:
ويعتمد المُسْتَشْرِقُونَ - فيما يعتمدون - على عقد المؤتمرات العامة، من وقت لآخر، لتنظيم نشاطهم.
ويرجع تاريخ أول مؤتمر عقدوه إلى سنة ١٧٨٣ م وما زالت مؤتمراتهم تتكرَّر حتى اليوم.
مرحلة جديدة:
ثم مَرَّ الاسْتِشْرَاق بمرحلة جديدة، ففي القرن الثامن عشر أنشىء كُرْسِيَانِ جديدان للغة العربية في جامعتي أُكسفور وكمبردج، ثم اختتم هذا القرن بحملة نابليون على مصر وبلاد الشام، تلك الحملة التي صحبها عدد كبير من العلماء، كان أغلبهم من المُسْتَشْرِقِينَ.
وفي القرن التاسع عشر ازدهر الاسْتِشْرَاق، لما حدث من تطور كبير في الدراسات العربية، وما نشره علماء حملة نابليون، وتخريج مدرسة «دي ساس»
_________
(١) انظر: " الاسْتِشْرَاق والمستشرقون مالهم وما عليهم ": ص ١٤، و" المستشرقون ": ١/ ١١٣، وكتابنا " الفهارس ومكانتها عند المحدثين ": ص ١٣ وما بعدها.
1 / 13
الفرنسية عددًا كبيرًا من المُسْتَشْرِقِينَ الأوروبيِّين، وإنشاء كراسي للغة العربية في كثير من جامعات أوروبا، وتأسيس الجمعيات الآسيوية، وإصدار مجلاَّتها، وإتاحة الفرصة لمعظم المُسْتَشْرِقِينَ لزيارة بلاد الشام، فتوافدوا عليها من مختلف الجامعات والبلدان الأوروبية.
وهكذا اقترن ازدهار الاسْتِشْرَاق بضعف الدولة العثمانية، وظهور أطماع الدول الأوروبية في الاستحواذ على أملاكها وعلومها المتنوعة.
وفي هذه المرحلة عمد المُسْتَشْرِقُونَ إلى تغيير أساليبهم ٠ وحاولوا أنْ يظهروا بمظهر جديد، هو ما زعموه - كذبًا وزُورًا - من تحرير الاسْتِشْرَاق من الأغراض التبشيرية، والاتجاه به وجهة البحث العلمي البحت!
مواكبة الاسْتِشْرَاق للغزو الاستعماري:
وقد واكب الاسْتِشْرَاق الغزو الاستعماري، ومَضَيَا معًا في طريق واحد، فإذا كان الغربيون قد غزوا البلاد الإسلامية تلك الغزوات الاستعمارية التي نعرفها، فإنَّ المُسْتَشْرِقِينَ منهم قد غزوا التراث الإسلامي، فأخذوا يقلبون وجوه البحث فيه، وألَّفوا فيه كثيرًا من الكتب، وساعدوا على تحقيق كثير من المخطوطات التي نقلوها إلى مكتبات بلادهم، أو أخذوا صورها من مكتبات الشرق، أو استنسخوها على ذمة نشرها محققة، وقامت من أجل ذلك صناعة نشر التراث الإسلامي في عدد من العواصم والمُدن الكبرى في أوروبا.
وعلى الرغم مِمَّا يزعمه المستشرقون في هذه المرحلة من أنَّ دراساتهم تقوم على أسس علمية وطيدة، فإنَّ الكثيرين منهم - مع الأسف - لم يَحِيدُوا عن الروح الصليبية التعصبية، وبخاصة الذين استعانت بهم دولهم لأغراض استعمارية، فكان هؤلاء يضعون الاتهام أولًا، ثم يبحثون عن الأدلة التي تقوي هذا الاتهام!
تسلل المُسْتَشْرِقِينَ إلى الدوائر العلمية واستعانتهم ببعض نصارى العرب:
ومِمَّا زاد الطين بلة أنَّ كثيرًا من طلبة العلم المسلمين وَلَّوْا وُجُوهَهُمْ شطر جامعات الغرب، وأخذوا يَؤُمُّونَهَا للدراسة فيها، وقد تأثر الكثيرون بما كان يلقيه أساتذتهم من المُسْتَشْرِقِينَ في أذهانهم!
1 / 14
كما أنَّ الغَرْبِيِّينَ استعانوا ببعض نصارى العرب في نشر أفكارهم وترويجها، وبَثِّ سمومهم ضد الإسلام والمسلمين!
هذا بالإضافة إلى أنَّ بعض المُسْتَشْرِقِينَ تسلَّلُوا الى الدوائر العلمية والجامعات في الدول الإسلامية، بل إلى المجامع العلميَّة في القاهرة ودمشق وبغداد!
دور الصهيونية في الاسْتِشْرَاق:
ولا ننسى دور الصهيونية التي دخلت ميدان الاسْتِشْرَاقِ لِتَحُولَ دون اجتماع المسلمين في وحدة تقاوم اليهودية العالميَّة، وتواجه دولة اليهود الباغية (إسرائيل) وفي مقدمة هؤلاء: «جُولْدْتسِيهِرْ» و«بندلي» و«جوزي» وغيرهم!
الغارة مستمرة:
وعلى الرغم من تحرُّر البلاد الإسلامية من ربقة الاستعمار، وجلاء المستعمرين عنها، وتطوُّر علاقاتها بدول الغرب، فضلًا عمَّا قام به أبناؤها من دراسات متعمقة في شتى المجالات أغنت أبناء وطنهم عن الكتابات الاستشراقية المغرضة التي ما فتىء البحث الموضوعي يكشف عمَّا تنطوي عليه من التواء ومغالطات، ومن ثَمَّ أخذ الكثير من المسلمين في الشرق يتعاملون مع هذه الكتب بِحَذَرٍ، فإنَّ الاسْتِشْرَاق ما زال يُصَوِّبُ سهامه إلينا، وما زلنا بحاجة إلى مزيد مِنَ الجُهود، لِرَدِّ كيد المُسْتَشْرِقِينَ إلى نُحورهم.
معاول هدم:
وها هي ذي معاول الهدم، تُرِيبُنَا في الاسْتِشْرَاق والمُسْتَشْرِقِينَ، وتدفعنا إلى أنْ نَتَوَجَّسَ خِيفَةً منهم ومن دراساتهم المُغرضة:
أولًا: استمرار بقاء كثير من المؤسسات التبشيرية الاستعمارية بين ظَهْرَانِينَا، ولا ريب في أنَّ كثيرًا من المُسْتَشْرِقِينَ يتعاونون على تحقيق أهداف هذه المؤسسات، لأَنَّ الاسْتِشْرَاق ارتبط منذ نشأته بالتبشير والاستعمار، فالجامعة الأمريكية - على سبيل المثال - لا تزال موجودةً في كل من القاهرة وبيروت واستانبول، وبناء على ذلك يجب ألاَّ نتوقَّع من هؤلاء في الوقت الحاضر الإنصاف
1 / 15
والموضوعية، وألاَّ نُضْفِي على كتاباتهم الصِّفَةَ العلميَّة الأكاديمية، باستثناء طائفة قليلة منهم.
ثانيًا: عدم قيام الدليل على أنَّ الاسْتِشْرَاق انفصل عن الطريق السياسي الاستعماري في تاريخنا المعاصر، فالمُسْتَشْرِقُونَ في كل البلاد الاستعمارية يتَّبعون وزارة الخارجية، مِمَّا يدل على أنَّ مُهمَّتَهُمْ سياسية وليست علميَّة، «فأنتوني إيدن» رئيس وزراء بريطانيا السابق لم يكن يتَّخذ قرارًا سياسيًا يتصل بالشرق الأوسط إلاَّ بعد الرجوع إلى المُسْتَشْرِقِينَ، أمثال «مرجيليوث»، كما أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ اليهود لا يزالون يعملون على تحقيق أهداف الصهيونية العالمية!
ثالثًا: استمرار ابتعاث الدول الإسلامية لِبَنِيهَا إلى الغرب للحصول على درجات علميَّة في مجال التربية وعلم النفس والدراسات الفكرية، بل الإسلامية!
رابعًا: امتلاء كثير من كتب المُسْتَشْرِقِينَ التي بين أيدينا بالمُغالطات والتحريف والالتواء، وهي - كسابقتها - تحتاج إلى بذل جهود مشتركة من علماء المسلمين، كُلٌّ في تَخَصُّصِهِ، لتوضيح مُعْوَجِّهَا أمام القارىء المسلم وغير المسلم، وحتى تلك التي يكتبونها لمواطنيهم تحتاج إلى تجلية، كي لا يُفْهَمَ الإسلام فهمًا خاطئًا!.
خامسًا: لا يزال بعض تلاميذ المُسْتَشْرِقِينَ، والضَّالِعِينَ معهم من نصارى العرب، يثيرون النزعات الشعوبية بين المسلمين بقصد تفتيت وحدتهم، مثل: «الفِرْعَوْنِيَّةِ» في مصر و«البَرْبَرِيَّةِ» في شمال أفريقيا و«الكُرْدِيَّةِ» في كُلٍّ من العراق وإيران!.
سادسًا: اعتراف كثير من المُسْتَشْرِقِينَ المُعاصرين - صِدْقًا أو تمويهًا - بأنَّ التعصب الديني لا يزال باقيًا في كتابات عدد منهم، يقول برنارد لويس: «لا تزال آثار التعصُّب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المُعاصرين، ومُسْتَتِرَةً وراء الحواشي المرصوصة في كتابات البعض الآخر منهم «كما يقول نورمان دانيل: «على رغم المحاولات التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرُّر من المواقف التقليدية للكُتَّاب المسيحيين عن الإسلام، فإنهم لم يتمكَّنوا من أنْ يَتَجَرَّدُوا منها تَجَرُّدًا تامًا كما يتوهَّمون» (١).
_________
(١) انظر " التبشر والاستعمار ": ٤٥ وما بعدها.
1 / 16
هذه هي أهم معاول الهدم التي تدفعنا إلى أنْ نرتاب في دراسات المُسْتَشْرِقِينَ، ونتوجَّسُ منها خِيفَةً!.
إنكار نزول القرآن من عند الله:
وهم ينكرون أنْ يكون القرآن مُنَزَّلًا من عند الله، وحين يفحمهم ما ورد فيه من حقائق تاريخية عن الأمم الماضية، مِمَّا يستحيل صدوره عن النبي الأُمِيِّ محمد ﷺ، وتبطل دعواهم ببشرية القرآن الكريم، وزعمهم بأنه ليس أكثر من تعبير عن انطباع البيئة العربية في نفس الرسول!.
حين تبطل دعواهم التافهة هذه، يزعمون ما زعمه المُشركون الجَاهِلِيُّونَ في عهد الرسول ﷺ من أنه اسْتَمَدَّ ذلك من أناس، ويتخبَّطون في ذلك تَخَبُّطًا عجيبًا!.
وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تُعْرَفْ وَتُشْكَفْ إلاَّ في هذا العصر، يُرْجِعُونَ ذلك إلى ذكاء النبي ﷺ، ويقعون في تخبُّط أشدَّ غرابة مِمَّا سبق!.
وعلى الرغم من أنَّ بعض تلاميذ المُسْتَشْرِقِينَ من العرب والمسلمين يقولون عن القرآن الكريم كلامًا يدل على اعتقادهم أنه فِكْرٌ تَأَثَّرَ ببيئة عربية مُعيَّنة، فإنَّ هناك عددًا من علماء المسلمين المعاصرين قد أعدُّوا دراسات علميَّة وافية في دحض تلك المزاعم الباطلة، والافتراءات المتهافتة (١).
التشكيك في صحة رسالة النبي ﷺ -:
والمعتدلون منهم في كتاباتهم، يُشَكِّكُونَ في صِحَّةِ رسالة النبي ﷺ، لأنهم ينكرون أنْ يكون مُحَمَّدٌ نبيًا، ويتخبَّطون في تفسير مظاهر الوحي، كأنَّ الله لم يرسل نبيًا قبله، حتى يصعب عليهم تفسير الوحي!.
ولما كانوا يهودًا أو نصارى - في معظمهم - يعترفون بأنبياء، كان إنكارهم
_________
(١) انظر: " في الشعر الجاهلي " للدكتور طه حسين، والردود عليه في نقض كتاب " في الشعر الجاهلي " للشيخ محمد الخضر حسين، وفي " النقد التحليلي لكتاب في الشعر الجاهلي " للدكتور أحمد محمد الغمراوي.
1 / 17
لنبوة خاتم النبيِّين تعنُّتًا مبعثه التعصُّب الديني الذي يملأ نفوس أكثرهم كأحبار ورُهبان وقسس ومُبشِّرين (١).
إنكار كون الإسلام دينًا من عند الله:
ويَتْبَعُ إنكارهم لنبوَّة الرسول ﷺ ونزول القرآن الكريم، إنكارهم أنْ يكون الإسلام دينًا من عند الله، وإنما هو - في زعمهم - مُلَفَّقٌ من اليهودية والمسيحية وليس لهم في ذلك مستند يؤيِّدُهُ البحث العلمي البَتَّةَ!.
ويلاحظ أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ اليهود أمثال: «جُولْدْتسِيهِرْ» و«شَاخْتْ» هم أشد حِرْصًا على ادِّعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه!
أما المُسْتَشْرِقُونَ المسيحيون فَيَجْرُونَ وراءهم في هذه الدعوى المتهافتة، إذ ليس في المسيحية تشريع يستطيعون أنْ يزعموا تأثُّر الإسلام به، وَأَخْذِهِ عنه، وإنما فيها مبادئ أخلاقية، زعموا أنها أثَّرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، كأنَّ المفروض في الرسالات الإلهية أنْ تتعارض مبادؤُها الأخلاقية، وكأنَّ الذي أوحى من قبل هو غير الذي أوحى بعده، فتعالى الله عَمَّا يقولون علوًا كبيرًا!.
والظاهر أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ اليهود أقبلوا على الاسْتِشْرَاق لأسباب دينية، ترمي إلى التشكيك في قِيَمِ الإسلام، بدعوى فضل اليهود عليه وكأنَّ اليهودية مصدره الأول، ولأسباب سياسية تتَّصل بخدمة الصهيونية فكرة أولًا، ثم دولة ثانيًا!.
وحول ما يتعلق بالإسلام يَدَّعِي المُسْتَشْرِقُونَ أنَّ المجتمع الإسلامي في صلته بالإسلام لم يكن على نحو قوي إلاَّ في فترة قصيرة، هي الفترة الأولى، التي يطلقون عليها: عهد ابتدائية المجتمع الإسلامي، التي وجدت نوعًا من التلازم بين الحياة وتعاليم الإسلام، ويزعمون أنه كلما تطوَّر المجتمع ازدادت الفجوة، لأَنَّ الإسلام لا يوافق التطور!.
ومن هنا يسارعون إلى تقرير أنَّ التخلُّف عن تعاليم الإسلام تمليه الضرورة الاجتماعية، تحت ضغط ظروف الحياة المُتجدِّدَةَ، التي لا يستطيع الإسلام - كما
_________
(١) انظر " الاستشراق والمستشرقون ": ص ٢٠.
1 / 18
يزعمون - أنْ يكيفها في تعاليمه، وعلى هذا فإنَّ تطبيق الإسلام في نظرهم، إنما يعني العُزلة والتخلُّف، ويرون أنَّ الحل هو في الخضوع لما يسمُّونه «قانون التطور» ولا يتمُّ ذلك كما ينادون إلاَّ بالسير وفق المُثُلِ الغربية والتفاعل معها!
التشكيك في صِحَّةِ الحديث النبوي:
ويتذرَّعُ هؤلاء المُسْتَشْرِقِينَ - أحيانًا - بما دخل على الحديث من وَضْعٍ ودَسٍّ، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماؤنا لتنقية الحديث الصحيح من غيره، مستندين إلى قواعد بالغة الدِقَّةِ في التثبُّتِ والتحرِّي، مِمَّا لم يعهد عُشْرَ مِعْشَارِهِ في التأكد من صِحَّةِ الكتب المقدَّسة عندهم!
والذي حملهم على ركوب متن الشطط في دعواهم هذه ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا من ثروة فكرية وتشريعية مُدْهِشَةٍ، وهم لا يعتقدون بنبوَّة خاتم النبيّين - كما أسلفنا - فادَّعُوا أنَّ هذا لا يعقل أنْ يصدر كله عن النبي الأميِّ، بل هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسية عندهم هي عدم تصديقهم بنبوَّةِ خاتم النبيِّين ﷺ ومنها تنبعث كل تخبُّطاتهم ومُفترياتهم وجهالاتهم!.
التشكيك في قيمة الفقه الإسلامي:
ومن ثم شكَّك المُسْتَشْرِقُونَ في قيمة الفقه الإسلامي، ذلك التشريع الهائل الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور، لقد أسقط في أيديهم حين اطِّلاعهم على عظمته، وهم لا يؤمنون بنبوَّة خاتم النبيين، ومن ثم فلم يجدوا بُدًّا من الزعم بأنَّ هذا الفقه العظيم مُسْتَمَدٌّ من الفقه الروماني، أي أنه مُسْتَمَدٌّ منهم هُمْ، وقد بيَّنَ علماؤنا تهافت هذه الدعوى، وأيَّدَ ذلك ما قرَّرَهُ " مؤتمر القانون المقارن " المنعقد بلاهاي من أنَّ الفقه الإسلامي فِقْهٌ مُسْتَقِلٌّ بذاته، وليس مُسْتَمَدًّا من أي فِقْهٍ آخر!
التشكيك في قُدرة اللغة العربية:
وشكَّكُوا في قدرة لغتنا على مسايرة التطور العلمي، لنظلَّ عالة على مصطلحاتهم التي تُنادي بفضلهم وسلطانهم العلمي علينا، وشكَّكُوا كذلك في غنى
1 / 19
الأدب العربي، وحاولوا إظهاره مُجدبًا فقيرًا، لنتجه إلى آدابهم، وذلك هو الاستعمار الأدبي، الذي يبغونه مع الاستعمار الفكري الذي يرتكبونه!.
ومن المُبَشِّرِينَ نفر يشتغلون بالآداب العربية، والعلوم الإسلامية، أو يستخدمون غيرهم في سبيل ذلك، ثم يرمون كلهم بما يكتبونه إلى أنْ يوازنوا بين الآداب العربية والآداب الأجنبية، أو بين العلوم الإسلامية والعلوم الغربية التي يعُدُّونها نصرانية، لأنّض أمم الغرب تدين بها، ليخرجوا بتفضيل الآداب الغربية على الآداب العربية والإسلامية، وبالتالي إلى إبراز نواحي النشاط الثقافي في الغرب، وتفضيلها على أمثالها في تاريخ العرب والإسلام، وما غايتهم في ذلك إلاَّ تخاذل روحي، وشعور بالنقص في نفوس الشرقيين، وحملهم من هذا الطريق على الرضا بالخضوع للمدنية المادية الغربية (١)!
تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري:
وبتذرَّعُون لذلك بدعوى أنَّ الحضارة الإسلامية منقولة من حضارة الرومان، ولم يكن العرب والمسلمون إلاَّ نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها، ولم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكاري حضاري، وكان في حضارتهم كل النقائص، وإذا تحدَّثُوا بشيء عن حسناتها - وقليلًا ما يفعلون - يذكرونها على مضض، مع انتقاص كبير!.
إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم:
وذلك ببث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قيم ومُثُلٍ عليا، ليسهل على الاستعمار تشديد وطأته عليهم، ونشر ثقافته فيما بينهم، فيكونوا عبيدًا لها، أو على الأقل تضعف روح المقاومة في نفوسهم!
أخطاء سببها الجهل بالعربية والبعد عن الحياة الإسلامية:
وقد تَرَدَّى كثير من المُسْتَشْرِقِينَ في أخطاء كان سببها جهلُهُم بأساليب اللغة العربية، وجهْلِهِمْ بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، حيث يتصوَّرُونها كما
_________
(١) انظر: " التبشير والاستعمار ": ص ٢٤.
1 / 20
يتصوَّرون مجتمعاتهم، ناسين الفروق الطبيعية والنفسية والزمنية التي تفرِّقُ بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها!
تلك نبذة مُختصرة عن الاسْتِشْرَاق والمُسْتَشْرِقِينَ، تضع يَدَنَا على معاول الهدم التي تنطق بها أعمالُهم التي حاولنا في هذه العُجالة كشفها، رجاء أنْ تكون في ذلك ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين!
دوافع الإحن والعصبية:
وإليك هذا المثال لدوافع الإحن والعصبية، فقد روى أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة ﵁: دخل أعرابي المسجد، فصلى ركعتين ثم قال: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا».
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ! فَأَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فقال لهم رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ، أَهْرِيقُوا عَلَيْهِ دَلْوًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» (١).
وهو حديث واضح المعنى في وصف هذا الأعرابي البادي الجافي - كما يقول الشيخ أحمد شاكر (٢) - جاء من البادية بجفائه وجهله، فصنع ما يصنع الأحمق الجاهل، حتى علَّمَهُ معلِّمُ الخير ﷺ، لا يرتاب في معرفة جفاء الرجل وجهله من قرأ الحديث أو سمعه، أيًا كان القارئ أو السامع عالمًا أو جاهلًا وذكيًا أو غبيًّا، عربيًا أو أعجميًا.
أفليس عجبًا - بعد هذا - أنْ يغلب الهوى وبُغْضُ الإسلام، رَجُلًا مُسْتَشْرِقًا كنا نظنُّ أنه من أبعد المُسْتَشْرِقِينَ عن أهواء المُبَشِّرِينَ، ودناءات المُنْحَرِفِينَ! هو المُسْتَشْرِقُ بروكلمان، صاحب كتاب " تاريخ الأدب العربي " الذي حاول فيه
_________
(١) " مسند أحمد ": ١٢/ ٢٤٤ - ٢٤٧ (٧٢٥٤) تحقيق أحمد شاكر، وأبو داود. الطهارة (٣٧٦) " عون المعبود "، و" سُنن الترمذي ". الطهارة (١٤٧) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(٢) " مسند أحمد ": ١٢/ ٢٤٥ - ٢٤٧ بتصرف.
1 / 21
استقصاء المؤلفات العربية، والقديم منها خاصة، مع الإشارة الى مكان النادر والمخطوط منها.
ذلك المُسْتَشْرِق، الذي كنا نتوهَّمه مُتساميًا على ما يرتكس فيه إخوانه علماء المشرقيات، ألَّف كتابًا آخر في " تاريخ الشعوب الإسلامية " ترجمه أستاذان من بيروت، هُمَا الدكتور نبيه أمين فارس، والأستاذ منير البَعْلَبَكِي، في خمسة أجزاء، وطبع ببيروت، وجزؤه الأول طبع سنة ١٩٤٩ م.
هذا الرجل الذي كنا نظنُّهُ عاقلًا! يقول في الجزء الأول من كتابه (١)، حين يتحدَّثُ عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أحوالهم الاجتماعية في شمالي الجزيرة، يقول بالحرف الواحد:
«والبَدَوِيُّ كائن فردي النزعة، مُفْرطُ الأنانية قبل كل شيء، ولا تزال بعض الأحاديث تسمح للعربي الداخل في الإسلام، أنْ يقول في صلاته: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا»!
هكذا يقول هذا الرجل الواسع الاطلاع على الكتب العربية، والمؤلفات الإسلامية! غير الجاهل بكلام العرب، ولا الغافل عن معنى ما يقرأ، والحديث أمامه في كتب السُنَّة كاملًا، ينقل منه حرفًا واحدًا، وَيَدَعُ ما قبله وما بعده! هذا الرجل الذي أظهرت كلمته أنَّ الإحن والعصبية الصليبية تملأ صدره، وتغطي على بصره وعقله!.
حادث فردي، من بدوي جاهل، لم يمر دون أنْ ينكر عليه الناس، ودون أنْ يعلمه المُعَلِّمُ الرفيق، ﷺ: يجعله هذا المُفتري الكذَّاب، قاعدة عامة لخُلُقِ أهل البادية! يجعل الحادثة الجزئية قاعدة كلية، وهذا آعجب أنواع الاستنباط فيما رأينا وعلمنا!
ولستُ أدري لماذا لم يستنبط أيضًا من هذه الحادثة الفردية قاعدة كلية أخرى: أنَّ من خُلُقِ أهل البادية إذا دخلوا مسجدًا، أو حضروا جمعًا عظيمًا من الناس أنْ يُبادروا إلى البول في المسجد، أو في حضرة الناس! حتى يكون هذا المُسْتَشْرِق منطقيًا مع نفسه، والأعرابي صاحب الحادثة صنع الأمرين!.
_________
(١) الترجمة العربية: ١٦.
1 / 22