بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
حين أعارتني جامعة القاهرة في العام الدراسي ١٩٦٥-١٩٦٦ لشقيقتها الجامعة الأردنية، حاضرتُ طلاب قسم اللغة العربية بها في تاريخ المدارس النحوية. ولما رجعت إلى المكتبة العربية الحديثة لم أجد فيها كتابا يُغنِي في هذا الموضوع غناء محمودا، وقد مضيت أحاضر الطلاب فيه محاولا -بقدر جهدي- أن أبلغ حاجتهم بترتيب مقدماته وتوفير الأسباب المعينة على صحة نتائجه، حتى استقامت لي هذه الصورة لمدارسنا النحوية على مرّ التاريخ.
ولعل هذه أول مرة تُبحَث فيها المدارس النحوية بحثا جامعا، وهو بحث يرسم في إجمالٍ الجهود الخصبة لكل مدرسة، وكل شخصية نابهة فيها. وكان طبيعيا أن أبدأ بالمدرسة البصرية؛ لأنها هي التي وضعت أصول نحونا وقواعده ومكنت له من هذه الحياة المتصلة التي لا يزال يحياها إلى اليوم، وكل مدرسة سواها فإنما هي فرع لها وثمرة تالية من ثمارها. وقد تقدمت البحث فيها بتصحيح خطأ شاع وذاع قديما وحديثا، وهو ما ينسب إلى أبي الأسود الدؤلي وتلاميذه من وضع بعض مبادئ النحو، وهي إنما بدأت توضع مع الجيل التالي عند ابن أبي إسحاق الحضرمي. وأوضحت الأسباب التي جعلت عقل البصرة أدق وأعمق من عقل الكوفة وأكثر استعدادا لتسجيل ظواهر النحو العربي ووضع قواعده وقوانينه.
وقد ذهبت إلى أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو المؤسس الحقيقي لمدرسة البصرة النحوية ولعلم النحو العربي بمعناه الدقيق، وصورت في تضاعيف ذلك إقامته لصرح النحو بكل ما يتصل به من نظرية العوامل والمعمولات، وبكل ما يسنده من سماع وتعليل وقياس سديد، مع بيان ما امتاز به من علم بأسرار العربية
1 / 5
وتذوق لخصائصها التركيبية. وخلفه على تراثه تلميذه سيبويه الذي تمثل آراءه النحوية تمثلا غريبا رائعا، نافذا منها إلى ما لا يكاد يحصى من الآراء، فإذا هو يسوي من ذلك "الكتاب" آيته الكبرى، وقد بلغ من إعجاب الأسلاف به أن سموه "قرآن النحو" وكأنما أحسوا فيه ضربا من الإعجاز، لا لتسجيله فيه أصول النحو وقواعده تسجيلا تاما فحسب، بل أيضا لأنه لم يكد يترك ظاهرة من ظواهر التعبير العربي إلا أتقنها، فقها وعلما وتحليلا.
وحمل "الكتاب" عن سيبويه تلميذه الأخفش الأوسط، وأقرأه تلاميذ بصريين في مقدمتهم المازني، وتلاميذ كوفيين في مقدمتهم الكسائي، وكان لهِجا بالاعتراض على سيبويه والخليل، مما جعله ينفذ إلى كثير من الآراء، وخاصة أنه كان يفسح للغات الشاذة، هو بذلك يعد الإمام الحقيقي للكسائي وغيره من أئمة المدرسة الكوفية. وكان يعنى بالدفاع عن القراءات المشتملة على بعض الشذوذ والاحتجاج لها بأشعار العرب الفصحاء. وقد بينت في مواطن أخرى أن الفراء إمام المدرسة الكوفية بعد الكسائي، هو أول من تعرض للقراءات الشاذة بالإنكار العنيف، وتابعه في ذلك المازني وتلميذه المبرد آخر أئمة المدرسة البصرية النابهين.
وأخذت أبحث في نشاط المدرسة الكوفية، ولاحظت أنه بدأ متأخرا عند الكسائي، وقد استطاع هو وتلميذه الفراء أن يستحدثا في الكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع في الرواية، ومن حيث بسط القياس وقبضه، ومن حيث وضع بعض المصطلحات الجديدة، ومن حيث رسم العوامل والمعمولات. وتوسع الفراء خاصة في تخطئة بعض العرب وإنكار بعض القراءات الشاذة، وكان ينفذ أحيانا إلى أحكام لا تسندها الشواهد والأمثلة، وهو يعد بحق إمام الكوفيين، فثعلب وغير ثعلب إنما كانوا شارحين لآرائه ومفسرين.
ومضيت أبحث في المدرسة البغدادية وكانت قد ترامت عليها ظلال خدع كثيرة، وخاصة أن عَلَمَيها الفذين: أبا علي الفارسي وابن جني، كثيرا ما يَكْنيان عن البصريين في مصنفاتهما باسم "أصحابنا" مما جعل كثرة المعاصرين تظن
1 / 6
أنهما بصريان حقا، وهما إنما يصوران بذلك نزوعهما الشديد تلقاء البصريين، أما بعد ذلك فإنهما ينهجان النهج القويم للمدرسة البغدادية القائم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية، مع فتح الأبواب للاجتهاد والخلوص إلى الآراء المبتكرة. وقد تداول هذه المدرسة جيلان: جيل أول كانت تغلب عليه النزعة الكوفية، وهو الذي يدور في كتابات ابن جني باسم البغداديين، من أمثال ابن كيسان، ثم جيل ثانٍ خَلَفَ هذا الجيل كانت تغلب عليه النزعة البصرية على نحو ما يلقانا عند الزجاجي، ثم أبي علي الفارسي، وابن جني مؤصل علم التصريف وواضع قوانينه الكلية.
وانتقلت أبحث في المدرسة الأندلسية، متتبعا نشاطها النحوي طوال العصور المتعاقبة، ولاحظت استظهار نحاتها منذ القرن الخامس الهجري لآراء أئمة النحو السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، مع الاجتهاد الواسع في الفروع ومع وفرة الاستنباطات وكثرة التعليلات والاحتجاجات. ولا نكاد ننتقل من جيل إلى جيل حتى تلقانا مجموعة من الأئمة، وكل إمام منهم يثير من الخواطر والآراء ما لم يسبقه إليه سابق من النحاة المجلين، حتى لنرى ابن مضاء القرطبي يريد أن يصوغ النحو صياغة جديدة تخلو من نظرية العوامل والمعمولات المذكورة والمقدرة ومن العلل والأقيسة المعقدة. وأكبر أئمتهم -على الإطلاق- ابن مالك، وقد رسمت في إجمالٍ آراءه ومنهجه، وعرضت لخالفيه من نحاة الأندلس وخاصة أبا حيان.
وبحثت أخيرا في المدرسة المصرية، ملاحظا أنها كانت في أول نشأتها شديدة الاقتداء بالمدرسة البصرية، ثم أخذت تمزج -منذ القرن الرابع الهجري- بين آراء البصريين والكوفيين، وضمت سريعا إلى تلك الآراء آراء البغداديين، غير أنها لم تونق ولم تزدهر إلا منذ العصر الأيوبي، وسرعان ما تكامل ازدهارها في العصر المملوكي بما أتاحه لها ابن هشام من مَلَكاَته العقلية النادرة ومن إحاطته بآراء النحاة السالفين له، على اختلاف مدارسهم وأعصارهم وبلدانهم، ومن قدرته البارعة في مناقشة تلك الآراء، مع ما امتاز به من طرافة التحليل والاستنباط
1 / 7
وجمال العَرْض والأداء. وظلت الدراسات النحوية ناشطة بعده في مصر حتى العصر الحديث.
ولم أتابع البحث في الجهود الخصبة التي بُذلت في عصرنا لتجديد النحو وتيسيره؛ لأنه إنما قصد بها إلى غايات تربوية في تعليم الناشئة، وهي حرية بكتاب مستقل. والله أسأل أن يلهمني السداد والإخلاص في الفكر والقول والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
القاهرة في أول يناير سنة ١٩٦٨م.
شوقي ضيف
1 / 8
القسم الأول: المدرسة البصرية
الفصل الأول: البصرة واضعة النحو
١- أسباب وضع النحو:
يمكن أن نرد أسباب وضع النحو العربي إلى بواعث مختلفة، منها الديني ومنها غير الديني، أما البواعث الدينية فترجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص الذكر الحكيم أداء فصيحا سليما إلى أبعد حدود السلامة والفصاحة، وخاصة بعد أن أخذ اللحن يشيع على الألسنة، وكان قد أخذ في الظهور منذ حياة الرسول ﷺ، فقد روى بعض الرواة أنه سمع رجلا يلحن في كلامه فقال: "أرشدوا أخاكم؛ فإنه قد ضل" ١، ورووا أن أحد ولاة عمر بن الخطاب كتب إليه كتابا به بعض اللحن، فكتب إليه عمر: "أَنْ قَنِّعْ كاتبك سوطا"٢.
غير أن اللحن في صدر الإسلام كان لا يزال قليلا بل نادرا، وكلما تقدمنا منحدرين مع الزمن اتسع شيوعه على الألسنة، وخاصة بعد تعرب الشعوب المغلوبة التي كانت تحتفظ ألسنتها بكثير من عاداتها اللغوية، مما فسح للتحريف في عربيتهم التي كانوا ينطقون بها، كما فسح اللحن وشيوعه. ونفس نازلة العرب في الأمصار الإسلامية أخذت سلائقهم تضعف لبعدهم عن ينابيع اللغة الفصيحة، حتى عند بلغائهم وخطبائهم المفوهين، ويكفي أن نضرب مثلا لذلك ما يروى عن الحجاج من أنه سأل يحيى بن يعمر هل يلحن في بعض نطقه؟ وسؤاله ذاته يدل على ما استقر في نفسه من أن اللحن أصبح بلاء عاما، وصارحه يحيى بأنه
_________
١ كنز العمال ١/ ١٥١.
٢ الخصائص لابن جني "طبعة دار الكتب المصرية" ٢/ ٨.
1 / 11
يلحن في حرف من القرآن الكريم، إذ كان يقرأ قوله ﷿: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿أَحَبَّ﴾ بضم أحبّ، والوجه أن تقرأ بالنصب خبرا لكان لا بالرفع١. وإذا كان الحجاج وهو في الذروة من الخطابة والبيان والفصاحة والبلاغة يلحن في حرف من القرآن، فمَنْ وراءه من العرب نازلة المدن الذين لا يرقون إلى منزلته البيانية كان لحنهم أكثر. وازداد اللحن فشوّا وانتشارا على ألسنة أبنائهم الذين لم ينشئوا في البادية مثلهم ولا تغذوا من ينابيعها الفصيحة، إنما نشئوا في الحاضرة واختلطوا بالأعاجم اختلاطا أدخل الضيم والوهن على ألسنتهم وفصاحتهم على نحو ما هو معروف عن الوليد بن عبد الملك وكثرة ما كان يجري على لسانه من لحن٢. وكان كثيرون من أبناء العرب وُلدوا لأمهات أجنبيات أو أعجميات، فكانوا يتأثرون بهن في نطقهن لبعض الحروف وفي تعبيرهن ببعض الأساليب الأعجمية٣. وكل ذلك جعل الحاجة تمس في وضوح إلى وضع رسوم يعرف بها الصواب من الخطأ في الكلام؛ خشية دخول اللحن وشيوعه في تلاوة آيات الذكر الحكيم.
وانضمت إلى ذلك بواعث أخرى، بعضها قومي عربي، يرجع إلى أن العرب يعتزون بلغتهم اعتزازا شديدا، وهو اعتزاز جعلهم يخشون عليها من الفساد حين امتزجوا بالأعاجم، مما جعلهم يحرصون على رسم أوضاعها؛ خوفا عليها من الفناء والذوبان في اللغات الأعجمية. وبجانب ذلك كانت هناك بواعث اجتماعية ترجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست الحاجة الشديدة لمن يرسم لها أوضاع العربية في إعرابها وتصريفها حتى تتمثّلها تمثلا مستقيما، وتتقن النطق بأساليبها نطقا سليما. وكل ذلك معناه أن بواعث متشابكة دفعت دفعا إلى التفكير في وضع النحو، ولا بد أن نضيف إلى ذلك رقيّ العقل العربي ونمو طاقته الذهنية نموا أعده للنهوض برصد الظواهر اللغوية وتسجيل الرسوم النحوية تسجيلا تطّرد فيه القواعد وتنتظم الأقيسة انتظاما يهيئ لنشوء علم النحو ووضع قوانينه الجامعة المشتقة من
_________
١ طبقات النحويين واللغويين للزبيدي "طبعة الخانجي" ص٢٢. وانظر البيان والتبيين "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" ٢/ ٢١٨.
٢ البيان والتبيين ٢/ ٢٠٤، وانظر عيون الأخبار لابن قتيبة ٢/ ١٥٨، ١٦٧.
٣ البيان والتبيين ١/ ٧٢، ٢/ ٢١٠.
1 / 12
الاستقصاء الدقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة، ومن المعرفة التامة بخواصها وأوضاعها الإعرابية.
٢- صنيع أبي الأسود ١ الدؤلي وتلاميذه: لما كانت العلوم في الأمم لا تظهر فجأة، بل تأخذ في الظهور رويدا رويدا حتى تستوي على سوقها، كان ذلك مدعاة في كثير من الأمر لأن تغمض نشأة بعض العلوم، وأن يختلط على الناس واضعوها المبكرون. وهذا نفسه ما حدث فيمن نسبت إليهم الخطوات الأولى في وضع النحو العربي، وفي ذلك يقول السيرافي: اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو نصر٢ بن عاصم، وقيل: بل هو عبد الرحمن٣ بن هرمز، وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي٤. وتضطرب الروايات في وضع أبي الأسود للنحو، فمنها ما يجعل ذلك من عمله وحده، ومنها ما يصعد به إلى علي بن أبي طالب، إذ يروون عن أبي الأسود نفسه أنه دخل عليه وهو بالعراق، فرآه مطرقا مفكرا، فسأله فيم يفكر؟ فقال له: سمعت ببلدكم لحنا، فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية، وأتاه بعد أيام فألقى إليه _________ ١ انظر في ترجمة أبي الأسود المتوفى سنة ٦٩ للهجرة الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبع دار المعارف" ص٧٠٧، ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي "طبع مكتبة نهضة مصر" ص٦، وأخبار النحويين البصريين للسيرافي "طبع بيروت" ص١٣، وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي "طبعة الخانجي" ص١٣، وأسد الغابة ٣/ ٦٩، والإصابة ٢/ ٢٣٢، والأغاني "طبع دار الكتب المصرية" ١٢/ ٢٩٧، ونزهة الألباء لابن الأنباري "طبع دار نهضة مصر بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم" ص٦، ومعجم الأدباء "طبعة فريد رفاعي" ١٢/ ٣٤، وإنباه الرواة للقفطي "طبعة دار الكتب المصرية" ١/ ١٣ وما به من مراجع. ٢ انظر في ترجمة نصر المتوفى سنة ٨٩ الزبيدي ص٢١، والسيرافي ص٢٠، وابن الأنباري ص١٤، وأبا الطيب اللغوي ص١٣، ومعجم الأدباء ١٩/ ٢٢٤، والقفطي ٣/ ٣٤٣، وما به من مراجع. ٣ راجع في ترجمة ابن هرمز المتوفى بالإسكندرية سنة ١١٧ طبقات ابن سعد ٥/ ٢٠٩، والزبيدي ص١٩، والسيرافي ص٢١، وابن الأنباري ص١٥، وإنباه الرواة للقفطي ٢/ ١٧٢ وما به من مراجع. ٤ السيرافي ص١٣.
٢- صنيع أبي الأسود ١ الدؤلي وتلاميذه: لما كانت العلوم في الأمم لا تظهر فجأة، بل تأخذ في الظهور رويدا رويدا حتى تستوي على سوقها، كان ذلك مدعاة في كثير من الأمر لأن تغمض نشأة بعض العلوم، وأن يختلط على الناس واضعوها المبكرون. وهذا نفسه ما حدث فيمن نسبت إليهم الخطوات الأولى في وضع النحو العربي، وفي ذلك يقول السيرافي: اختلف الناس في أول من رسم النحو، فقال قائلون: أبو الأسود الدؤلي، وقيل: هو نصر٢ بن عاصم، وقيل: بل هو عبد الرحمن٣ بن هرمز، وأكثر الناس على أنه أبو الأسود الدؤلي٤. وتضطرب الروايات في وضع أبي الأسود للنحو، فمنها ما يجعل ذلك من عمله وحده، ومنها ما يصعد به إلى علي بن أبي طالب، إذ يروون عن أبي الأسود نفسه أنه دخل عليه وهو بالعراق، فرآه مطرقا مفكرا، فسأله فيم يفكر؟ فقال له: سمعت ببلدكم لحنا، فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية، وأتاه بعد أيام فألقى إليه _________ ١ انظر في ترجمة أبي الأسود المتوفى سنة ٦٩ للهجرة الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبع دار المعارف" ص٧٠٧، ومراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي "طبع مكتبة نهضة مصر" ص٦، وأخبار النحويين البصريين للسيرافي "طبع بيروت" ص١٣، وطبقات النحويين واللغويين للزبيدي "طبعة الخانجي" ص١٣، وأسد الغابة ٣/ ٦٩، والإصابة ٢/ ٢٣٢، والأغاني "طبع دار الكتب المصرية" ١٢/ ٢٩٧، ونزهة الألباء لابن الأنباري "طبع دار نهضة مصر بتحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم" ص٦، ومعجم الأدباء "طبعة فريد رفاعي" ١٢/ ٣٤، وإنباه الرواة للقفطي "طبعة دار الكتب المصرية" ١/ ١٣ وما به من مراجع. ٢ انظر في ترجمة نصر المتوفى سنة ٨٩ الزبيدي ص٢١، والسيرافي ص٢٠، وابن الأنباري ص١٤، وأبا الطيب اللغوي ص١٣، ومعجم الأدباء ١٩/ ٢٢٤، والقفطي ٣/ ٣٤٣، وما به من مراجع. ٣ راجع في ترجمة ابن هرمز المتوفى بالإسكندرية سنة ١١٧ طبقات ابن سعد ٥/ ٢٠٩، والزبيدي ص١٩، والسيرافي ص٢١، وابن الأنباري ص١٥، وإنباه الرواة للقفطي ٢/ ١٧٢ وما به من مراجع. ٤ السيرافي ص١٣.
1 / 13
صحيفة فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل" ثم قال له: "اعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر". وتمضي هذه الرواية فتذكر أن أبا الأسود جمع لعلي أشياء وعرضها عليه، كان منها حروف النصب: إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم يذكر أبو الأسود: لكن، فقال له علي: لم تركتها؟ فقال: لم أحسبها منها، فقال: بل هي منها، فزدها فيها١. ولهذه الرواية صور أخرى٢ تلتقي بها. ويقول القفطي المتوفى سنة ٦٤٦ للهجرة: "رأيت بمصر في زمن الطلب بأيدي الورّاقين جزءا فيه أبواب من النحو يُجمعون على أنها مقدمة علي بن أبي طالب التي أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي"٣. فالمسألة لم تقف عند سطور أو بعض أبواب نحوية تذكر مجملة، بل اتسعت لتصبح مقدمة أو رسالة صنّفها علي بن أبي طالب، وكأنه لم يكن مشغولا حين ذهب إلى العراق والكوفة بإعداد الجيوش لحرب معاوية، ولا كان مشغولا بحروب الخوارج، إنما كان مشغولا بالنحو ووضع رسومه وأصوله وفصوله. وطبائع الأشياء تنفي أن يكون قد وضع ذلك، ونفس الرواية السالفة وما أشبهها من الروايات تحمل في تضاعيفها ما يقطع بانتحالها لما يجري فيها من تعريفات وتقسيمات منطقية لا يعقل أن تصدر عن علي بن أبي طالب أو عن أحد من معاصريه، ولعل الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم للنحو الذي لا يتفق في شيء وأولية هذا العلم ونشأته الأولى.
وقد تقف الروايات في الواضع الأول للنحو عند أبي الأسود، غير أنها تعود فتضطرب في السبب الذي جعله يرسمه وفي حاكم البصرة موطنه الذي بعثه على هذا الرسم والأبواب الأولى التي رسمها فيه. فمن قائل: إنه سمع قارئا يقرأ الآية الكريمة:
_________
١ القفطي ١/ ٤.
٢ انظر ترجمة أبي الأسود في ابن الأنباري ص٦ وما بعدها، ومعجم الأدباء لياقوت ١٤/ ٤٩. وعند ابن الأنباري أن أبا الأسود كان كلما وضع بابا من أبواب النحو، عرضه على إمامه علي بن أبي طالب.
٣ القفطي ١/ ٥.
1 / 14
﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بكسر اللام في رسوله، فقال: ما ظننت أمر الناس يصل إلى هذا واستأذن زياد بن أبيه والي البصرة "٤٥-٥٣هـ"، وقيل: بل استأذن ابنه عبيد الله واليها من بعده "٥٥-٦٤هـ" في أن يضع للناس رسم العربية. وقيل: بل وفد على زياد، فقال له: إني أرى العرب قد خالطت الأعاجم وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع للعرب كلاما يعرفون -أو يقيمون- به كلامهم. وقيل: بل إن رجلا لحن أمام زياد أو أمام ابنه عبيد الله، فطلب زياد أو ابنه منه أن يرسم للناس العربية. وقيل: إنه رسمها حين سمع ابنته تقول: ما أحسنُ السماء وهي لا تريد الاستفهام وإنما تريد التعجب، فقال لها قولي: "ما أحسنَ السماءَ". وفي رواية أنه شكا فساد لسانها لابن أبي طالب، فوضع له بعض أبواب النحو وقال له: انحُ هذا النحو، ومن أجل ذلك سمي العلم باسم النحو. ويقول بعض الرواة: إنه وضع أبواب التعجب والفاعل والمفعول به وغير ذلك من الأبواب، ويقول آخرون: إنه وضع أبواب التعجب والاستفهام والعطف والنعت وإن وأخواتها. وقد يكون ذلك من صنع الشيعة، وكأنهم رأوا أن يضيفوا النحو إلى شيعي قديم، فارتفع به بعضهم إلى علي بن أبي طالب، ووقف به آخرون عند أبي الأسود صاحبه الذي كان يتشيع له، ويظهر أن نحلهم إياه وضع النحو قديم، إذ نجد ابن النديم يقول: إنه رأى عند بعض الوراقين أربعة أوراق عن أبي الأسود كتبها يحيى١ بن يعمر المتوفى سنة ١٢٩ للهجرة وفيها كلام في الفاعل والمفعول٢. وأقدم من ذلك ما جاء عند ابن سلام إذ يقول: "كان أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي، وإنما قال ذلك حين اضطرب لسان العرب وغلبت السليقة وكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم"٣. وقد يُشرك بعض الرواة معه في هذا الصنيع تلميذيه نصر بن عاصم
_________
١ انظر في ترجمة ابن يعمر أبا الطيب اللغوي ص٢٥، والزبيدي ص٢٢، وابن الأنباري ص١٦، والسيرافي ص٢٢، والبيان والتبيين ١/ ٣٧٧، ومعجم الأدباء ٢٠/ ٤٢، وبغية الوعاة للسيوطي "طبع مطبعة السعادة" ص٤١٧.
٢ الفهرست لابن النديم "النشرة الثانية للمكتبة التجارية" ص٦٦.
٣ طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبع دار المعارف" ص١٢.
1 / 15
وابن هرمز، إذ يقول الزبيدي: "أول من أصّل النحو وأعمل فكره فيه أبو الأسود ظالم بن عمرو الدولي ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، فوضعوا للنحو أبوابا وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف"١.
وكل ذلك من عبث الرواة الوضاعين المتزيدين، وهو عبث جاء من أن أبا الأسود نسب إليه حقا أنه وضع العربية، فظن بعض الرواة أنه وضع النحو، وهو إنما وضع أول نقط يحرر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم بأمر من زياد بن أبيه أو ابنه عبيد الله، وقد اتخذ لذلك كاتبا فطنا حاذقا من بني عبد القيس، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت شفتي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت شفتي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت شفتي فاجعل النقطة من تحت الحرف، فإن أتبعت شيئا من ذلك غنة "تنوينا" فاجعل مكان النقطة نقطتين. وابتدأ أبو الأسود المصحف حتى أتى على آخره، بينما كان الكاتب يضع النقط بصبغ يخالف لونه لون المداد الذي كتبت به الآيات٢.
وكان هذا الصنيع الخطير الذي سمي باسم رسم العربية سببا في أن يختلط الأمر فيما بعد على الرواة، فتظن طائفة منهم أن أبا الأسود رسم النحو وشيئا من أبوابه، وهو إنما رسم إعراب القرآن الكريم عن طريق نقط أواخر الكلمات فيه.
وحمل هذا الصنيع عن أبي الأسود تلاميذه من قراء الذكر الحكيم، وفي مقدمتهم نصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز ويحيى ين يعمر وعنبسة٣ الفيل وميمون٤ الأقرن، فكل هؤلاء "نقطوا المصحف وأُخذ عنهم النقط وحُفظ وضُبط وقُيِّد وعُمل به واتُّبع فيه سنتهم واقتُدي فيه بمذاهبهم"٥ وأضافوا إلى ذلك عملا جليلا هو اتخاذ نقط جديد للحروف المعجمة في المصاحف تمييزا لها
_________
١ الزبيدي ص٢.
٢ راجع كتاب المحكم في نقط المصاحف للداني "طبع دمشق" ص٣ وما بعدها، والقفطي ١/ ٥.
٣ انظر في ترجمة عنبسة أبا الطيب اللغوي ص١١، والزبيدي ص٢٤، والسيرافي ص٢٣، وابن الأنباري ص١٢، ومعجم الأدباء ١٦/ ١٣٣، وإنباه الرواة ٢/ ٣٨١، وبغية الوعاة ص٣٦٨.
٤ راجع في ترجمة ميمون أبا الطيب اللغوي ص١١، والزبيدي ص٢٤، والسيرافي ص٢٢، ومعجم الأدباء ١٩/ ٢٠٩، وإنباه الرواة ٣/ ٣٣٧، وبغية الوعاة ص٤٠١.
٥ المحكم في نقط المصاحف ص٦.
1 / 16
من الحروف المهملة، فقد ذكر الرواة أن الحجاج في ولايته على العرق "٧٤-٩٥هـ" أمر نصر بن عاصم أو يحيى بن يعمر بإعجام حروف المصحف لتمييز الحروف بعضها من بعض١. ويروى أن ابن عاصم كان أول من عشَّر المصاحف وخمَّسها، وبعبارة أخرى: كان أول من قسم آيات المصحف أقساما.
وكل من ذكرناهم من تلاميذ أبي الأسود كانوا من قراء الذكر الحكيم، وكان يؤخذ عنهم النقطان جميعا؛ نقط الإعراب ونقط الإعجام. وكان ذلك عملا خطيرا حقا، فقد أحاطوا لفظ القرآن الكريم بسياج يمنع اللحن فيه، مما جعل بعض القدماء يظن أنهم وضعوا قواعد الإعراب أو أطرافا منها، وهم إنما رسموا في دقة نقط الإعراب لا قواعده، كما رسموا نقط الحروف المعجمة من مثل الباء التاء والثاء والنون.
_________
١ التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري ص١٠.
٣- البصرة تضع النحو: رأينا البصرة تضع على يد أبي الأسود الدؤلي نقط الإعراب، وقد مضى الناس يأخذونه عن تلاميذه. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن ذلك كان باعثا لهم ولمعاصريهم على التساؤل عن أسباب هذا الإعراب، وتفسير ظواهره مما هيأ لبعض أنظار نحوية بسيطة. وكان طبيعيا بعد أن رسموا نقط الإعجام أن يضعوا له هذا الاسم وأن يضعوا لنقط أبي الأسود اسم نقط الإعراب تمييزا لهما بعضهما عن بعض، كما كان طبيعيا أيضا أن يطلقوا على علامات النقط الخاصة بالإعراب أسماء تفرق بينها، وقد اشتقوها من كلماته لكاتبه "فتحت شفتي وضممتهما وكسرتهما" فسموه على التوالي نقط الفتحة ونقط الضمة ونقط الكسرة. ولا بد أنهم لاحظوا اختلافا في إعراب الأسماء حسب مواضعها من الكلام،
٣- البصرة تضع النحو: رأينا البصرة تضع على يد أبي الأسود الدؤلي نقط الإعراب، وقد مضى الناس يأخذونه عن تلاميذه. ولعلنا لا نبعد إذا قلنا: إن ذلك كان باعثا لهم ولمعاصريهم على التساؤل عن أسباب هذا الإعراب، وتفسير ظواهره مما هيأ لبعض أنظار نحوية بسيطة. وكان طبيعيا بعد أن رسموا نقط الإعجام أن يضعوا له هذا الاسم وأن يضعوا لنقط أبي الأسود اسم نقط الإعراب تمييزا لهما بعضهما عن بعض، كما كان طبيعيا أيضا أن يطلقوا على علامات النقط الخاصة بالإعراب أسماء تفرق بينها، وقد اشتقوها من كلماته لكاتبه "فتحت شفتي وضممتهما وكسرتهما" فسموه على التوالي نقط الفتحة ونقط الضمة ونقط الكسرة. ولا بد أنهم لاحظوا اختلافا في إعراب الأسماء حسب مواضعها من الكلام،
1 / 17
فهي إذا ابتدأ بها المتكلم في العبارة لزمها الرفع إلا إذا تقدمتها إن وأخواتها، وإذا تلت فعلا كانت إما مرفوعة وإما منصوبة. ولا يبعد أن يكونوا قد وضعوا لذلك "مصطلحات المبتدأ والفاعل والمفعول"، ولا يبعد أيضا أن يكونوا لاحظوا اختلافا في كلمات اللغة وأن منها ما يقبل الحركات الثلاث: الضمة والكسرة والفتحة، وهو الأسماء المعربة، وأن منها ما يلزم حركة واحدة وقد يلزم السكون، وسموا الأولى معربة والثانية مبنية. كل ذلك من الممكن وقوعه، ولكن ليس بين أيدينا ما يثبته إثباتا قاطعا سوى ما تمدنا به طبائع الأشياء، فالأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك، ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطوى فيها من أقيسة وعلل. وأول نحوي بصري حقيقي نجد عنده طلائع ذلك هو ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ١١٧ للهجرة، وهو ليس من تلاميذ أبي الأسود، ولكنه من القراء، ومن الملاحظ أن جميع نحاة البصرة الذين خلفوه يسلكون في القراء، فتلميذاه عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وتلميذا عيسى: الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب كل هؤلاء من القراء. ويكثر سيبويه في كتابه من التعرض للقراءات، وكأن ما كان بينها من خلافات في الإعراب هو الذي أضرم الرغبة في نفوس قراء البصرة كي يضعوا النحو وقواعده وأصوله، حتى يتبين القارئ مواقع الكلم في آي الذكر الحكيم من الإعراب المضبوط الدقيق.
ومعروف أنه لكي يصاغ علم صياغة دقيقة لا بد له من اطراد قواعده، وأن تقوم على الاستقراء الدقيق، وأن يكفل لها التعليل وأن تصبح كل قاعدة أصلا مضبوطا تقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به ابن أبي إسحاق وتلاميذه البصريون، أما من حيث الاطراد في القواعد فقد تشددوا فيه تشددا جعلهم يطرحون الشاذ ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطئوه أو أولوه. وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة، وبعبارة أخرى: رحلوا إلى القبائل المتبدية المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة، وهي قبائل تميم وقيس وأسد
1 / 18
وطيئ وهذيل وبعض عشائر كنانة١. وأضافوا إلى هذا الينبوع الأساسي ينبوعا بدويا زحف إلى بلدتهم من بوادي نجد، وهو نفر من الأعراب الكاتبين قدم إلى البصرة واحترف تعليم شبابها الفصحى السليمة وأشعارها وأخبار أهلها. وفي الفهرست لابن النديم ثبت طويل بأسماء هؤلاء المعلمين٢ من الإعراب الذين وثَّقهم علماء البصرة وأخذوا عنهم كثيرا من المادة اللغوية والنحوية سجلوها في مصنفاتهم. وكان القرآن الكريم وقراءاته مددا لا ينضب لقواعدهم، وتوقف نفر منهم إزاء أحرف قليلة في القراءات لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وجدوها لا تطرد مع قواعدهم، بينما تطرد معها قراءات أخرى آثروها، وتوسع في وصف ذلك بعض المعاصرين، فقالوا: إنهم كانوا يردون بعض القراءات ويضعفونها، كأن ذلك كان ظاهرة عامة عند نحاة البصرة مع أنه لا يوجد في كتاب سيبويه نصوص صريحة مختلفة تشهد لهذه التهمة الكبيرة. وسنرى الأخفش الأوسط يسبق الكوفيين المتأخرين إلى التمسك بشواذ القراءات والاستدلال عليها من كلام العرب وأشعارهم. وفي الحق، إن بصريي القرن الثالث هم الذين طعنوا في بعض القراءات، وهي أمثلة قليلة لا يصح أن تتخذ منها ظاهرة ولا خاصة عامة، وقد كانوا يصفونها بالشذوذ ويؤولونها ما وجدوا إلى التأويل سبيلا. وكانوا لا يحتجون بالحديث النبوي ولا يتخذونه إماما لشواهدهم وأمثلتهم؛ لأنه روي بالمعنى إذ لم يكتب ولم يدون إلا في المائة الثانية للهجرة، ودخلت في روايته كثرة من الأعاجم، فكان طبيعيا أن لا يحتجوا بلفظه وما يجري فيه من إعراب، وتبعهم نحاة الكوفة، وفي ذلك يقول أبو حيان: إن الواضعين الأولين لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمرو والخليل بن أحمد وسيبويه من أئمة البصريين والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يحتجوا بالحديث، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين٣. وأما من حيث القياس والتعليل فقد توسعوا فيهما، إذ طلبوا لكل قاعدة علة، ولم يكتفوا بالعلة التي هي مدار الحكم فقد التمسوا
_________
١ المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي" ١/ ٢١١.
٢ الفهرست ص٧١ وما بعدها.
٣ الاقتراح للسيوطي "طبعة حيدر آباد" ص٧١، والهمع ١/ ١٠٥.
1 / 19
عِلَلا وراءها. وقانون القياس عام، وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذا، وبحيث تفتح الأبواب على مصاريعها ليقاس على القاعدة ما لم يسمع عن العرب ويحمل عليها حملا، فهي المعيار المحكم السديد.
وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه، بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله، على الأقل حتى منتصف القرن الثاني للهجرة، بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار، وقلما نظرت في قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة إذ كانوا يتتلمذون لهم ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم وإملاءاتهم. وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة دقيقة، فنصوا عليه بعبارات مختلفة، من ذلك قول ابن سلام: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية"١، ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة: "إنما قدمنا البصريين أولا؛ لأن علم العربية عنهم أخذ"٢. وحاول بعض المستشرقين أن يصلوا بين نشوء النحو في البصرة والنحو السرياني واليوناني الهندي، غير أنه لا يمكن إثبات شيء من ذلك إثباتا علميا وخاصة أن النحو العربي يدور على نظرية العامل وهي لا توجد في أي نحو أجنبي، وكل ما يمكن أن يقال: إنه ربما عرف نحاة البصرة الأولون أن لبعض اللغات الأجنبية نحوا، فحاولوا أن يضعوا نحوا للعربية راجعين في ذلك إلى ملكاتهم العقلية التي كانت قد رقيت رقيا بعيدا بتأثير ما وقفوا عليه من الثقافات الأجنبية، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من المنطق، مما دعم عقولهم دعما قويا، وجعلها مستعدة لأن تستنبط قواعد النحو وعلله وأقيسته.
ويظهر أنه كُفل للبصرة من الصلة بهذه الثقافات في القرن الثاني للهجرة ما لم يكفل للكوفة، فقد كانت مرفأ تجاريا للعراق على خليج العرب. فنزلتها
_________
١ ابن سلام ص١٢.
٢ الفهرست ص١٠٢.
1 / 20
عناصر أجنبية كثيرة أعدت في سرعة لوصلها بثقافاتها المختلفة، وأيضا فإنها كانت أقرب من الكوفة إلى مدرسة جُنْدَيْسابور الفارسية التي كانت تدرس فيها الثقافات اليونانية والفارسية والهندية، مما جعل جداول من تلك الثقافات تصب فيها؛ ولذلك كان طبيعيا أن نجد بها أقدم المترجمين، ونقصد ماسرجويه الذي عهد إليه عمر بن عبد العزيز بترجمة كتيب في الطب، ولا نلبث أن نلتقي بابن المقفع الذي نشأ بها وتوفي سنة ١٤٣ للهجرة وكان يتقن الفارسية، ويحذق العربية فترجم إليها أروع ما في الفارسية من كنوز تاريخية وأدبية، كما ترجم كليلة ودمنة الهندية منها، وكذلك منطق أرسططاليس.
وبذلك نفهم السر في أن عقل البصرة كان أدق وأعمق من عقل الكوفة وكان أكثر استعدادا لوضع العلوم، إذ سبقتها إلى الاتصال بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليوناني وما وضعه أرسططاليس من المنطق وحدوده وأقيسته. ويمكن أن نلاحظ آثار ذلك في نشاط المباحث الدينية في البلدتين، فقد عُنيت الكوفة بالفقه بينما عُنيت البصرة بعلم الكلام، وحقا أشاع أبو حنيفة في الفقه القياس والرأي أو الاجتهاد، ولكن من يرجع إلى كتب الفقه الحنفي حتى في العصور المتأخرة يلاحظ أنه ينقصها دائما شيء من التعميم والتعريف ووضع القواعد الكلية، فباب البيع مثلا يفتح، ولا يصاغ له تعريف محدد، ولا تذكر له أركان وشروط، وإنما مسائل متناثرة يتوالى بعضها في إثر بعض. وهكذا دائما في الفقه الحنفي يغلب أن يفتح الباب على فروع دون أصول عقلية تضم شعبها الكثيرة. بينما علم الكلام يناقش مسائل كلية، وهي مسائل ميتافيزيقية، والمسألة تثار في ضوء تفكير فلسفي معقد، مما يدل على صلة المتكلمين العميقة بالفلسفة اليونانية، حتى لنرى الجاحظ يقول: "لا يكون المتكلم جامعا لأقطار الكلام، متمكنا في الصناعة، يصلح للرياسة حتى يكون الذي يحسن من كلام الدين في وزن الذي يحسن من كلام الفلسفة"١.
فعقل كل من البلدتين كان مختلفا: عقل مصبوغ بالصبغة الفلسفية المنطقية،
_________
١ الحيوان "طبعة الحلبي" ٢/ ١٣٤.
1 / 21
وعقل لا يرتفع إلى هذه المنزلة إلا في حدود ضيقة؛ لذلك كان طبيعيا أن لا يصاغ الفقه الحنفي الكوفي صياغة علمية دقيقة، بينما يصاغ النحو في أدق صورة علمية ممكنة على نحو ما سنرى في كتاب سيبويه، وهي صياغة لم تستطع العصور التالية أن تضيف إليها إلا بعض تعريفات وبعض تسميات، أما الأصول وأما القواعد والضوابط والأسس فإنها ظلت قائمة كالأطواد الراسخة.
٤- أوائل النحاة: يعد ابن أبي إسحاق الحضرمي أول النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويتبعه في هذه الأولية المبكرة جيل من تلاميذه في مقدمتهم عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وتذكر كتب طبقات النحاة طائفة ممن عنوا بالعربية من معاصري تلاميذه، لعل أشهرهم حماد١ بن سلمة بن دينار البصري، وكانت رواية الحديث تغلب عليه، غير أنه كان عالما بالنحو، ويروى أن يونس بن حبيب تتلمذ عليه وكذلك سيبويه، ولم ترو له كتب النحو أنظارا نحوية، ولذلك ينبغي أن نخرجه من دائرة النحاة الحقيقيين، ومثله معاصره الأخفش الأكبر٢ شيخ يونس وسيبويه جميعا، وكانت تغلب عليه رواية اللغة وليست له في النحو آراء موروثة، وقد أكثر سيبويه من الرواية اللغوية عنه في كتابه. أما الأربعة الأولون فتتردد أسماؤهم عند النحاة وتتردد لهم آراء تجعلهم خليقين بالوقوف قليلا عندهم، ونبدأ بابن أبي إسحاق الذي يعد بحق أستاذ المدرسة البصرية. _________ ١ انظر ترجمة حماد في الزبيدي ص٤٧، ونزهة الألباء ص٤٠، ومعجم الأدباء ١٠/ ٢٥٤، والسيرافي ص٤٢، وإنباه الرواة ١/ ٣٢٩، وتذكرة الحفاظ ١/ ١٨٩، وطبقات القراء لابن الجزري ١/ ٢٥٨، وبغية الوعاة ص٢٤٠. ٢ انظر ترجمته في الزبيدي ص٣٥، ونزهة الألباء ص٤٣، وإنباه الرواة ٢/ ١٥٧.
٤- أوائل النحاة: يعد ابن أبي إسحاق الحضرمي أول النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ويتبعه في هذه الأولية المبكرة جيل من تلاميذه في مقدمتهم عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وتذكر كتب طبقات النحاة طائفة ممن عنوا بالعربية من معاصري تلاميذه، لعل أشهرهم حماد١ بن سلمة بن دينار البصري، وكانت رواية الحديث تغلب عليه، غير أنه كان عالما بالنحو، ويروى أن يونس بن حبيب تتلمذ عليه وكذلك سيبويه، ولم ترو له كتب النحو أنظارا نحوية، ولذلك ينبغي أن نخرجه من دائرة النحاة الحقيقيين، ومثله معاصره الأخفش الأكبر٢ شيخ يونس وسيبويه جميعا، وكانت تغلب عليه رواية اللغة وليست له في النحو آراء موروثة، وقد أكثر سيبويه من الرواية اللغوية عنه في كتابه. أما الأربعة الأولون فتتردد أسماؤهم عند النحاة وتتردد لهم آراء تجعلهم خليقين بالوقوف قليلا عندهم، ونبدأ بابن أبي إسحاق الذي يعد بحق أستاذ المدرسة البصرية. _________ ١ انظر ترجمة حماد في الزبيدي ص٤٧، ونزهة الألباء ص٤٠، ومعجم الأدباء ١٠/ ٢٥٤، والسيرافي ص٤٢، وإنباه الرواة ١/ ٣٢٩، وتذكرة الحفاظ ١/ ١٨٩، وطبقات القراء لابن الجزري ١/ ٢٥٨، وبغية الوعاة ص٢٤٠. ٢ انظر ترجمته في الزبيدي ص٣٥، ونزهة الألباء ص٤٣، وإنباه الرواة ٢/ ١٥٧.
1 / 22
ابن ١ أبي إسحاق:
هو عبد الله بن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي المتوفى سنة ١١٧ للهجرة، وفيه يقول ابن سلام: "كان أول من بَعَجَ "فتق" النحو ومد القياس وشرح العلل". وبذلك يجعله الواضع الأول لعلم النحو، إذ يجعله أول من اشتق قواعده وأول من طرد فيها القياس، بحيث يحمل ما لم يسمع عن العرب على ما سمع عنهم، ويقول أبو الطيب اللغوي: "فرع عبد الله بن أبي إسحاق النحو وقام وتكلم في الهمز، حتى عُمل فيه كتاب مما أملاه". ويروى أن يونس بن حبيب سأله عن كلمة "السويق"، وهو الناعم من دقيق الحنطة، هل ينطقها أحد من العرب "الصويق" بالصاد؟ فأجابه: نعم قبيلة عمرو بن تميم تقولها، ثم قال له: وما تريد إلى هذا؟ عليك بباب من النحو يطرد وينقاس. وهو لم يُعْنَ بالقياس على قواعد النحو فحسب، بل عُني أيضا بالتعليل للقواعد تعليلا يمكِّن لها في ذهن تلاميذه. وجعله تمسكه الشديد بتلك القواعد المعللة والقياس عليها قياسا دقيقا بحيث لا يصح الخروج عليها، يخطئ كل من ينحرف في تعبيره عنها، وكان لذلك كثير التعرض للفرزدق لما كان يورد في أشعاره من بعض الشواذ النحوية، ويذكر الرواة أنه حين سمعه ينشد قوله في مديحه لبعض بني مروان:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجرفُ٢
اعترضه؛ لرفعه قافية البيت وكان حقها النصب لأنها معطوفة -كما يتبادر- على كلمة "مسحتا" المنصوبة، أو بعبارة أدق: لأن القياس النحوي يحتم ذلك ويوجبه. ويظهر أن الفرزدق قصد إلى الاستئناف حتى لا يحدث في البيت إقواء يخالف به حركة الروي في القصيدة. وسمعه مرة يصف رحلته إلى الشام في
_________
١ راجع ترجمة ابن أبي إسحاق في أبي الطيب اللغوي ص١٢، والزبيدي ص٢٥، والسيرافي ص٢٥، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام ص١٤، ونزهة الألباء ص١٨، وإنباه الرواة ٢/ ١٠٤، وطبقات القراء لابن الجزري ١/ ٤١٠، وتهذيب التهذيب ٥/ ١٤٨، وخزانة الأدب للبغدادي ١/ ١١٥، وبغية الوعاة ص٢٨٢.
٢ مسحت ومجرف: مستأصل.
1 / 23
قصيدة مدح بها يزيد بن عبد الملك على هذا النمط:
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور١
على عمائمنا يلقى، وأرحلنا ... على زواحف تزجى، مخها رِير٢
فقال له: أسأت، إنما هو "مخها رير" مشيرا بذلك إلى قياس النحو في هذا التعبير؛ لأنه يتألف من مبتدأ وخبر. وما زال ينحي على الفرزدق باللائمة حتى جعل الشطر:
على زواحف نزجيها محاسير
وكانت مراجعته المستمرة له تغضبه، فهجاه بقصيدة يقول في تضاعيفها هذا البيت:
فلو كان عبد الله مولى هجرته ... ولكن عبد الله مولى مواليا٣
وما كاد يسمعه منه حتى قال له: "أخطأت أخطأت، إنما هو مولى موالٍ" يريد أنه أخطأ في إجرائه كلمة موال المضافة مجرى الممنوع من الصرف، إذ جرها بالفتحة وكان ينبغي أن يصرفها قياسا على ما نطق به العرب في مثل جوار وغواش، إذ يحذفون الياء منونين في الجر والرفع٤. وواضح من كل هذه المحاورات بينه وبين الفرزدق مدى احتكامه للقياس وما ينبغي للقاعدة من الاطراد، بحيث لا يجوز للشاعر مهما كان فصيحا أن يخرج عليها. وكان لا يرى بأسا في أن يخالف أحيانا جمهور القراء في بعض قراءاتهم لآي الذكر الحكيم تمسكا بالقياس النحوي، ومن ذلك أنه كان يخالفهم في قراءة آية المائدة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ فقد كانوا يقرءون: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ بالرفع على الابتداء، بينما الخبر فعل أمر، وجعله ذلك يقرؤهما بالنصب٥ على المفعولية.
وواضح أنه فتح لنحاة البصرة من بعده تلاميذه وغير تلاميذه بمراجعاته للفرزدق أن يخطئوا الشعراء الفصحاء لا من الإسلاميين مثل الفرزدق فحسب،
_________
١ الشمال: الريح. الحاصب: الريح التي تحمل الحصباء.
٢ الزواحف: الإبل العجفاء التي أعيت فجرت خفافها. تزجى: تساق. رير: ذائب.
٣ كان ابن أبي إسحاق مولى آل الحضرمي، وكانوا بدورهم موالي لبني عبد شمس القرشيين.
٤ الكتاب لسيبويه "طبعة بولاق" ٢/ ٥٨، وانظر خزانة الأدب ١/ ١١٥.
٥ شواذ القراءات لابن خالويه ص٣٢.
1 / 24
بل أيضا من الجاهليين على نحو ما سنرى عند تلميذه عيسى بن عمر. ولم يؤثر عنه كتاب في النحو، وكأنه كان يكتفي بمحاضراته وإملاءاته على تلاميذه، وكل ما أثر عنه كتاب في الهمز كما أسلفنا، ويبدو أنه عالج فيه مسألة رسمها حين توصل وحين تقطع وحين تسهل وحين تدخل على همزة أخرى وحين تتصل بحروف العلة، مما يتصل بالدقة في كتابة الذكر الحكيم، إذ كان من القراء النابهين في موطنه.
عيسى ١ بن عمر الثقفي:
بصري من موالي آل خالد بن الوليد، نزل في ثقيف فنُسب إليها، وهو أهم تلاميذ ابن أبي إسحاق، وقد مضى على هديه يطرد القياس ويعمّمه، ومن أقيسته ما حكاه سيبويه عنه من أنه كان يقيس النصب في كلمة "يا مطرا" في قول الأحوص:
سلام الله يا مطرا عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
على النصب في كلمة "يا رجلا" وكأنه يجعل مطرا في تنوينها ونصبها كالنكرة غير المقصودة٢. وكان مثل ابن أبي إسحاق يطعن على العرب الفصحاء إذا خالفوا القياس، وكان يصعد في هذا الطعن حتى العصر الجاهلي، من ذلك تخطئته النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع٣
إذ جعل القافية مرفوعة، وحقها أن تنصب على الحال؛ لأن المبتدأ قبلها
_________
١ انظر في ترجمة عيسى أبا الطيب اللغوي ص٢١، والزبيدي ص٣٥، والسيرافي ص٣١، والفهرست ص٦٨، ونزهة الألباء ص٢١، ومعجم الأدباء ١٦/ ١٤٦، وابن الجزري ١/ ٦١٣، وإنباه الرواة ٢/ ٣٧٤، ومرآة الجنان لليافعي ١/ ٣٠٧، وشذرات الذهب لابن العماد ١/ ٢٢٤، وبغية الوعاة ص٢٧٠.
٢ كتاب سيبويه ١/ ٣١٣، وانظر الموشح للمرزباني ص٤١.
٣ ساورتني: واثبتني. ضئيلة: دقيقة، ويريد أفعوانا. الرقش: الأفاعي التي تختلط في جلدها نقط سوداء وبيضاء. ناقع: قاتل.
1 / 25
تقدمه الخبر وهو الجار والمجرور، وكأنه النابغة ألغاهما لتقدمهما وجعل ناقعا الخبر١. ومن أقيسته في القراءات أنه كان يقرأ الآية الكريمة: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ بنصب كلمة الطير، وكان يقول هو على النداء كما تقول: "يا زيد والحارث" ولما لم يكن القائل: "ويا الحارث" نصب الكلمة، لأن يا لا تدخل في النداء على المعرف بالألف واللام. ويروى أنه كان يخالف جمهور القراء في قراءة الآية الكريمة: ﴿هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ إذ كان يقرؤها بنصب أطهر على الحال وجعل هن ضمير فصل. ويبدو أنه كان يلفظ في تقدير العومل المحذوفة، ومن ذلك ما رواه سيبويه عنه من أنه كان يلفظ قولهم:"ادخلوا الأول فالأول" برفع الكلمتين الأخيرتين على تقدير أنهما مرفوعتان بفعل مضارع محذوف تقديره: "ليدخل"٢. وكأنه لقن تلميذه الخليل والنحاة من بعده فكرة تقدير العوامل المحذوفة التي عمومها في كثير من العبارات. ووضع أصلا مهما يدل على دقة حسه اللغوي هو اختيار النصب في الألفاظ التي جاءت عن العرب في بعض العبارات مرفوعة ومنصوبة٣، وكأنه أحس في وضوح أن العرب تنزع إلى النصب أكثر مما تنزع إلى الرفع لخفته، فجعل النصب فوق الرفع وعده الأساس. وليس ذلك كل ما تحقق للنحو عنده من رقي، فقد خطا به خطوة كبيرة، إذ ألف فيه رسائل ومصنفات مختلفة، اشتهر منها لعصره مصنفان مهمان هما: "الجامع" و"الإكمال" وكأنه جمع مسائل النحو وقواعده في أولهما ثم رأى إكمال تلك القواعد والمسائل في الكتاب الثاني. وقد أقام قواعده في الجامع على الأكثر في كلام العرب وسمي ما شذ عن ذلك لغات، ويقال إن سيبويه لما أحضره ليقرأه على الخليل أنشد تنويها به وبالإكمال:
بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فيهما للناس شمس وقمر
وزعم بعض القدماء أن الجامع هو أصل كتاب سيبويه زاد فيه وحشاه بأقوال الخليل، ولم يصل إلينا الكتاب للنناقش هذا الزعم ونتبين صحته أو فساده.
_________
١ كتاب سيبويه ١/ ٢٦١.
٢ الكتاب ١/ ١٩٩.
٣ ابن سلام ص١٨؟
1 / 26