82

فلما جاءت الفلسفة وتناولت هذه الفكرة الكبرى لم تصل إلى شوط أبعد من شوطها ولكنها وصلت إلى بداءة أقوم من بداءتها، فكان مثلها في هذا كمثل من وجد الكنز ورسم الدروب التي تتأدى إليه، وكان مثل الأسبقين كمثل من عثر بالكنز فوقع فيه، وبقي الكنز بجوهره ونفاسته لمن يسلك إليه منهجه القويم.

وسنرى للفلسفة - كما رأينا العقيدة - بدايات كثيرة كهذه البداية وتوفيقات كثيرة كهذا التوفيق.

بل سنرى أن بداية الفلسفة نفسها لم تخل من توفيق بين لا يد فيه لتدبير ذويه. •••

فقد كان للتوفيق يد ملحوظة في زمان الفلسفة ومكانها، فبدأت حوالي القرن السادس قبل الميلاد في العصر الذي بلغت فيه الديانات القديمة أقصى آمادها من تصور الفكرة الإلهية والعقيدة الروحية، وكان ذلك العصر هو عصر النضج والتمام في الديانة الإسرائيلية، وهي آخر الحلقات في السلسلة القديمة وأول الحلقات في سلسلة جديدة من ديانات الوحي والأنبياء، أو الديانات الكتابية.

أما مكان الفلسفة اليونانية فهو رقعة من الأرض على اتصال بأبناء كل دين قديم من تخوم الهند إلى ضفاف النيل، وزاد اتصالها بتلك الأمم زحوف الفاتحين وجموع المهاجرين، تارة من الشرق إلى الغرب وتارة من الغرب إلى المشرق، فكان اليونان في آسيا الصغرى يعرفون عبادات المجوس والبابليين والمصريين واليهود وكان روادهم ورحالوهم يتنقلون بين الأقطار فيعرفون فيها ما لا يعرف في بلادهم من الخفايا والأسرار، وساعدهم الحظ فخلت بلادهم من الكهانات الراسخة التي تستأثر بالتفكير في مسائل الكون ومسائل العقيدة؛ لأن الكهانات الراسخة إنما تقوم مع العروش العريقة على أودية الأنهار الكبار، كمصر والعراق وبعض الأقاليم الهندية، ولم يكن في أرض يونان كلها نهر تتأثل عليه دولة شامخة وكهانة مستقرة، فطرقوا أبواب الفكر أحرارا غير محجمين عن معضلة معقدة ولا منقادين لإمامة متحكمة، فاختاروا فيما أخذوه واختاروا فيما نبذوه، وتزودوا من رسالة الإيمان لرسالة البحث في الحكمة والعلوم.

وهم - على إعفائهم من سلطان الهياكل العريقة - لم تخل فلسفة لهم قط من فكرة دينية في أساسها أو في مضامينها، ولا استثناء في ذلك لأكبرهم وأقدرهم، وهم سقراط وأفلاطون وأرسطو. فإن طلاقة أرسطو في مباحثه العلمية والفلسفية لم تخرجه من سلطان الفكرة الدينية في القول بالهيولى والحركة الأولى، فلولا الإيمان بالخالق والمخلوق والروح والجسد لما خلص أرسطو إلى الصورة والمادة والتفرقة بين العقل والهيولى.

وأول المشهورين من فلاسفة اليونان طاليس المليطي الملقب بأبي الحكماء، كان يقول - كما قالت الأديان - من قبله إن الماء أصل كل شيء، وإن الروح تحرك المادة، فما من متحرك إلا وهو ذو روح أو منقاد لذي روح، ولا يستطيع المغناطيس مثلا أن يجذب الحديد إلا بروح فيه.

ويظن شارحوه أنه قال بأصالة الماء لأنه رأى النطفة سائلة ورأى النبات الرطب يدخل الجسم فينقلب فيه إلى حرارة حيوانية، ووهم أن الأرض سابحة على الماء ، وأن الشمس تخرج منه وتعود إليه، فإذا غلظ فهو أرض وإذا رق فهو بخار أو نار أو هواء.

والعالم على زعمه مملوء بالأرباب، وهي التي تحرك فيه كل متحرك من الحي والجماد.

وجاء بعده أنكسماندر - ولعله أكبر الحكماء من هذا الطراز - فقال إن الأشياء كلها تخرج من مادة أولية، ولكنها ليست الماء ولا النار ولا الهواء ولا التراب؛ لأن الماء لو كان أصلا لهذه العناصر لغلب عليها وطردها، وكذلك التراب والهواء والنار فهي إذن سواء كلها في الانتساب إلى أصل أقدم منها، وهي تتزاوج وتتمازج ويود كل عنصر منها أن يجور على حصة غيره في الوجود، فإذا خرج بها الشطط عن سواء الاعتدال عادت كلها إلى معدنها الأول وزالت الفوارق بين الأجسام والأحياء لتعود إلى الوجود من جديد، وهكذا دواليك في حركة دائمة لا انقطاع لها منذ القدم إلى غير نهاية، فهي على هذا دورات كونية كالدورات التي قال بها الهنود البابليون.

अज्ञात पृष्ठ