76

وكان سقوط الدول الكبيرة في عهد أشعيا الثاني مؤذنا باقتراب يوم إسرائيل الموعود، فقد تداعت بابل ومصر وآذنت فارس بالتداعي والانقسام، فتجدد رجاء إسرائيل في ملك العالم، وفسروا سقوط الدول الكبرى بغلبة «يهوا» عليها وعقوبته لها على ما أسلفت من الإساءة إلى شعبه، ولاح لهم - لأول مرة - أن ربهم يبسط ظله على الأرض بما رحبت، وأن يوم الخلاص الموعود جد قريب.

والغالب في وصفهم للإله أنه غيور شديد البطش متعطش إلى الدماء، سريع الغضب ينتقم من شعبه كما ينتقم من أعداء شعبه، ولكن موسى عليه السلام وصفه بالرحمة وفريقا من أنبيائهم وصفوه بالحب واللطف وعلموهم أنه يحب عباده ويطلب من عباده أن يحبوه، أو كما قال هوشع «إنه يريد رحمة لا ذبيحة» وأن خلائق العدل والحق والإحسان والمراحم هي خلائق الأبرار. •••

وقد شغلت العقائد الإسرائيلية حيزا كبيرا من مقارنات الأديان؛ لأنها «أولا»: نقطة التحول بين العبادات القديمة والعبادات في الديانة الكتابية، ولأنها «ثانيا»: صحبت التطور في فكرة المسيح المنتظر في مبدئها، فكانت تمهيدا متواليا للدعوة المسيحية، وهي أوسع الدعوات الكتابية انتشارا بين الأمم التي عنيت بالدراسات العلمية الحديثة في مقارنات الأديان.

ولأنها «ثالثا»: موضوع مقابلة مستفيضة بينها وبين عقائد البابليين والمصريين والفرس والهنود الأقدمين، ولها صلة قريبة بعقائد اليونان قبل عصر الفلسفة وبعدها إلى عصر السيد المسيح.

فكانت العقائد الإسرائيلية نقطة التحول؛ لأنها بدأت بتصور الإله على صورة إنسان يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويغار من منافسيه ويخص قبيلته وحدها بالبركة والتشريع، وقرنت هذه الصورة تارة بعبادة الأصنام وتارة بعبادة الموتى أو ظواهر الطبيعة وتماثيل الطواطم من الحيوان والنبات، ثم تطورت صفات الله في اعتقاد أبنائها من أعلى إلى أعلى حتى عبدوا الإله الأحد المنزه عن التجسد وعن خلائق البشر القادر على كل شيء والعليم بما كان ويكون، والرحيم الذي يحب الرحماء والودعاء والعاملين بالبر والعدل والإحسان.

ثبتت فكرة «المسيح المنتظر» في عقائد بني إسرائيل بعد زوال ملكهم وانتقالهم إلى الأسر في بابل قبل الميلاد بنيف وخمسة قرون، ومعنى كلمة المسيح «الممسوح بزيت البركة»؛ لأنهم كانوا يمسحون به الملوك والأنبياء والكهان والبطاريق، فكان شاؤل الملك يسمى بمسيح الرب كما جاء على لسان داود في كتاب صموئيل الأول: «حاشاني من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب ...» وكانوا يمسحون الأنبياء بالزيت المبارك كما جاء في كتاب الملوك الأول «وامسح أليشع بن شافاط ... نبيا عوضا عنك» ويمسحون به الكهان كما جاء في كتاب الخروج: «هذا ما نصنعه لهم لتقديسهم ... نأخذ دهن المسحة ونسكبه على رأسه ونمسحه» ويمسحون به البطارقة ويسمونهم بالمسحاء كما جاء في المزمور الخامس بعد المائة: «لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي ...» بل كانوا يمسحون به كل ما يريدون تقديسه كما جاء في كتاب اللاويين: «ثم أخذ موسى دهن المسحة ومسح المسكن وكل ما فيه وقدسه، ونضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته والمرحضة وقاعدتها لتقديسها، وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه.»

وكانوا في مبدأ الأمر ينتظرونه ملكا فاتحا مظفرا من نسل داود، ويسمونه ابنا لله كما قال ناتان لداود عليه السلام في كتاب صموئيل الثاني: «هو يبني بيتا لاسمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد ... أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا.»

ولكنهم أطلقوا اسم المسيح على كل من يعاقب أعداءهم ويفتح لهم باب الخلاص من أسرهم كما فعل كورش بالبابليين، فجاء في كتاب أشعيا: «هكذا يقول الرب لمسيحه: لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس به أمما ...»

وخطر حينا للنبيين زكريا وحجاي في أواخر القرن السادس قبل الميلاد أن زر بابل - والي يهودا - هو المسيح المنتظر؛ لأنه أعاد بناء البيت في السنة الثانية للملك داريوس.

وتهذبت هذه العقيدة مع الزمن فأصبحوا ينتظرون الخلاص على يد الهداة العادلين بعد طول انتظاره من زمرة الغزاة الفاتحين، فقال زكريا في رؤياه: «ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هو ذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع، راكب على حمار، على جحش ابن أتان.»

अज्ञात पृष्ठ