وتبدلت قيم الحياة كلها منذ دخل في روعه إمكان الوجود لما لم يلمس باليد وينظر بالعين. فمن هنا كل تفرقة بين الروح والجسد، وبين العقل والمادة، وبين الحركة والجمود، وبين الخير والشر، وبين النور والظلام، وبين المعاني المجردة والأجسام المحسوسة، ومن هنا كل اتساع في أفق النظر وراء أفق الحيوان.
وإذا حسب الإنسان مكسبه من هذه الهداية فلا ينبغي أن يحسبه بما قصد بل بما وجد، ولا ينبغي أن يقيسه على خطئه في التعليل بل على صوابه بعد ذلك في التوفيق بين العلل والمعلولات.
وينفعنا هنا أن نذكر قصة الأب الذي أوصى أبناءه، وهو يودعهم ويودع الحياة أن ينبشوا الأرض عن كنز دفنه فيها ونسي مخبأه منها، فلما نبشوا الأرض لم يجدوا كنزا من الذهب والفضة، ووجدوا كنزا يساوي الذهب والفضة، ويثمر لهم في كل عام كنوزا بعد كنوز.
فلما وقع الإنسان الأول على فكرة الروح وقع عليها خطأ لا شك فيه، ولكنه خطأ توقف عليه إلهام الصواب في عالم العقل وعالم الضمير. •••
وقد امتزجت عقيدة الروح بكل عقيدة دينية بعد أطوار العقيدة البدائية وفي أثنائها فعبادة الأسلاف لا تخطر على بال ما لم تخطر معها فكرة بقاء الأرواح، وإنما تترقى الأنماط على حسب الترقي في المعارف والمعقولات، فالهمجي الذي جهل أسرار التناسل قد يتخذ له جدا معبودا يتمثله في شبح الأسد أو الكلب أو الصقر أو العقاب، ولا ينكر أن يكون أبوه من سلالة الحيوان جسدا وروحا بغير مجاز؛ لأنه لا يفقه المانع الذي يمنع الروح أن تسكن جسم حيوان كما تسكن جسم إنسان، والحضري الذي تهذب واستطلع أسرار الخليقة بعض الاستطلاع يجعل أباه روحا تتجلى في الشمس، ويفرق بين أبوة الأجساد وأبوة الأرواح، وعلى هذا المثال ولا ريب زعم الكهنة أن هذا الفرعون أو ذاك من الفراعين ابن الشمس أو ابن أوزيريس، ولم يفهموا ولا فهم أحد من ذلك أنهم ينكرون أبوته الجسدية المسجلة بالميراث، وبحقها يجلس على عرش أبيه.
ولا يرى علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة، ولكنهم يقررون أن «ديانة الشمس» لم تنتشر في تلك الأطوار؛ لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ، فلا بد قبل ذلك من نظرة فلكية عالمية تحيط بعض الشيء بنظام الأفلاك وعلاقة الشمس بالفصول ومواعيد السنين حتى تنتظم «للديانة الشمسية» مراسم ومواسم، وتقام لها معابد ومحاريب، وتنتظم لها شعائر وصلوات وقرابين، ولا بد للمتدين بالديانة الشمسية من علم بآثار الشمس في إنبات الزرع، وتسيير الرياح، وشفاء الأمراض، وتقليب الأيام والأعوام، وضبط مواقع السيارات، وما يتخيلونه بها من طوالع السعود والنحوس، ولهذا سبقت عبادة القمر عبادة الشمس في قبائل شتى؛ لأنهم ربطوا بين القمر والحيض والولادة، لانتظام الحيض في مواعيد قمرية وسهولة هذه الملاحظة من غير حاجة إلى علم الفلك والحساب.
وتستدعي ديانة الشمس غير هذا أن يرتفع العقل البشري بفكرة الخلق من أفق الأرض القريب إلى الآفاق العليا في السموات، فتتسع دنياه وتتعاظم فيها دواعي الحركة والسكون والحياة والموت، ويقترب من الأوج الذي يستوعب فيه الكون بنظرة شاملة، ويلتمس له سببا واحدا «للحصول» كما حصل بعد أن أصبح الكون كله في حاجة إلى التعليل، فإنه كان قبل ذلك يعلل حياته بهذه القوة أو بتلك من العلل الكونية، فإذا بالكون كله لا يستغني عن تعليل مريح.
فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح؛ لأنها أكبر ما تقع عليه العين وتعلل به الخليقة والحياة، فإذا دخلت هي أيضا في عداد المعلولات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلى خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار، وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق على فحوى قصة إبراهيم في القرآن الكريم
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين * وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون .
وقد وصل الإنسان إلى عبادة الشمس حين قامت له دول وحضارات، فتلاقت حوله جميع الطرق مجتمعة في طريق التوحيد الصحيح.
अज्ञात पृष्ठ