ففي الكون مجال «للوعي الكوني» أوسع من مجال الحواس والملكات، وما دامت الصلة بين الإنسان وبين الكون قائمة فلا بد من دخولها في نطاق وعيه على مثال من الأمثلة، ولا موجب لوقوفها دون غاية من الغايات التي تطيقها ملكات الجنس البشري، ومنها ملكة الاعتقاد والإيمان.
وفي الكون العظيم حقائق لم تقابلها الحواس الجسدية ولا الحواس النفسية كل المقابلة إلى الآن.
ولا يوجد عقل سليم يمنع أن تترقى المقابلة بين الحواس النفسية وبين تلك الحقائق، ما دامت قائمة، وما دام الوعي في طريق الارتفاع والاتساع.
ولا يوجد عقل سليم يمنع التفاوت في هذه الحواس النفسية - التي نسميها بالوعي الكوني - فيمتلئ بها أناس ويقفر منها أناس، ويكون الفارق فيها بين الموهوبين والمجردين كالفارق - على الأقل - بين أذن الموسيقي التي تميز مئات الألحان، وآذان السواد الذين يحسبونها كلها صوتا واحدا أو بضعة أصوات.
ونقول: «على الأقل»؛ لأن المحسوسات التي تدرك بالأذن أضيق من المحسوسات التي تدرك بالكيان كله مما يعيه وما لا يعيه.
فإذا قال لنا قائل إنني أحس «الحقيقة الكونية» أو أحس خالق الكون فلا ينبغي أن نكذبه لزعمنا أن الحقيقة الكونية مستحيلة وأن الوعي الكوني مستحيل؛ فإن الحقيقة الكونية لا شك فيها وإن الوعي الكوني لا شك فيه، ولكننا نكذبه - إن كذبناه - متى شككنا في صدقه كما نكذب من نشك في روايته لوقائع العيان، ولا شك في وقائع العيان.
ولنا أن نستبعد هذا الأصل أو ذاك من أصول العقائد الهمجية الغابرة أو الحاضرة، ولكن ليس لنا أن نستبعد «الوعي الكوني»؛ لأنه حقيقة يستلزمها العقل وتؤكدها المشاهدة في كل زمن وفي كل موطن وفي كل قبيل.
فالعقل الذي يرى للإنسان غرائز نوعية وغرائز اجتماعية يستبعد كل الاستبعاد أن يخلق الإنسان وهو ذرة من قوى الكون ومادته ثم يخلو من وعي يترجم هذه العلاقة التي هي أكثر من علاقة؛ لأنها احتواء واشتمال.
والديانات في كل قبيل تترجم هذا الوعي الكوني منذ القدم وتمثله بما تشاء من الرموز والعبارات، وهذا عدا الآحاد الممتازين الذين يبلغ فيهم هذا الوعي أقصاه ولا يسهل تفسير حالاتهم بعوارض الجنون كما يقول عنهم الجهلاء من أبناء قومهم، فإن هؤلاء الآحاد هم في الغالب من أعظم الرجال وأقدرهم على تبديل أحوال الشعوب والأجيال، ولا يسعنا أن نصرف حالاتهم بهذه السهولة أو بكلمة واحدة تسمى الجنون، وهي هي الحالات التي ترتبط بها عقائد الملايين وألوف الملايين، ونعلم أنها لازمة ومعقولة بل أعظم من اللازم والمعقول؛ لأننا إذا حذفنا تلك الحالات وما تعبر عنه من العقائد نظرنا إلى الإنسان بعدها فإذا هو أعجب من أعجب الخرافات في أسخف البدائه والعقول؛ إذ نحن نراه موجودا في عالم منبت عنه لا يحسه ولا يبالي أن يحسه ولا يربط حياته بظواهره وخوافيه ولا يقابل تلك الأسرار بسر فيه، وإن غيلان الصحراء وهامات الجاهلية وأصداءها لأقرب إلى العقل من هذا الإنسان.
أطوار العقيدة الإلهية
अज्ञात पृष्ठ