وقد أسفر علم المقابلة بين الأديان عن كثير من الضلالات والأساطير التي آمن بها الإنسان الأول، ولا تزال لها بقية شائعة بين القبائل البدائية، أو بين أمم الحضارة العريقة، ولم يكن من المنظور أن يسفر هذا العلم عن شيء غير ذلك، ولا أن تكون الديانات الأولى على غير ما كانت عليه من الضلالة والجهالة؛ فهذه هي وحدها النتيجة المعقولة التي لا يترقب العقل نتيجة غيرها، وليس في هذه النتيجة جديد يستغربه العلماء، أو يبنون عليه جديدا في الحكم على جوهر الدين. فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء إنما يبحث عن محال.
فأيا كان الرأي في جوهر الدين فالنقص في العبادات الهمجية أمر مفروغ منه لا يستدل به على نفي ولا إثبات، وإنما يصح أن يوصف بالغرابة لسبب واحد، وهو هذا الإجماع على الاعتقاد أيا كان موضوع الاعتقاد، كأنما يوجد الاستعداد للعقيدة أولا ثم توجد العقيدة على اختلاف نصيبها من الرشد والضلال، أو توجد الملكة أولا ثم يوجد موضوع الاعتقاد، ولا تتوقف صحة الملكة على صحة الموضوع.
ففي الطبع الإنساني جوع إلى الاعتقاد كجوع المعدة إلى الطعام.
ولنا أن نقول: إن «الروح» تجوع كما يجوع الجسد، وإن طلب الروح لطعامها كطلب الجسد لطعامه، لا يتوقف على جودة الغذاء ولا على حلاوة المذاق، بل يتوقف على شعور الغريزة بالحاجة إليه.
ونخال أننا لا نخرج بالمشابهة عن مداها إذا قلنا: إن إنكار الحاسة الدينية لرداءة العقيدة الأولى أو سخف موضوعها كإنكار المعدة في الجوف لرداءة المأكول وسخافة الغذاء؛ فإنما المرجع إلى بنية الروح وبنية الجسد في الحالتين، وكلتاهما حق لا يقبل المراء.
حق لا يقبل المراء أن الحاسة الدينية بعيدة الغور في طبيعة الإنسان.
وحق لا يقبل المراء أن الإنسان يجب أن يؤمن ولا يستقر في وسط هذه العوالم بغير إيمان.
وهو قد وجد في وسط هذه العوالم لا مراء ، فإذا كان الإيمان هو الحالة التي يتطلبها منه وجوده - فضعف الإيمان شذوذ يناقض طبيعة التكوين ويدل على خلل في الكيان.
وقد اتفق علماء المقابلة بين الأديان على تأصل العقيدة الدينية في طبائع بني الإنسان من أقدم أزمنة التاريخ، ولكنهم لم يتفقوا على أصل العقيدة أو أصل الباعث عليها، ولا بد لها من باعث، فلن يكون الوقوف على باعثها دليلا على بطلانها؛ لأنها لا تأتي بغير باعث يؤدي إليها كائنا ما كان.
نعم، هي ترجع إلى باعث يحفز الطبيعة الإنسانية إلى البحث عنها، وكذلك نبحث عن الطب إذا مرضنا، ونبحث عن الملجأ الأمين إذا فزعنا، ونبحث عن المال إذا افتقرنا، ولا يقدح ذلك بحال من الأحوال في صحة الطب أو الأمن أو المال.
अज्ञात पृष्ठ