الحب في الله

الحب في الله

प्रकाशक

مكتبة المغني

संस्करण संख्या

الأولى

प्रकाशन वर्ष

١٤١٣ هـ - ١٩٩٢ م

प्रकाशक स्थान

الرياض

शैलियों

الحب في الله عبد الكريم بن صالح الحميد مكتبة المغني

अज्ञात पृष्ठ

الحب في الله عبد الكريم بن صالح الحميد حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى ١٤١٣ هـ - ١٩٩٢ م مكتبة المغني ص. ب ٥٧٤٧ الرياض ١١٤٣٢ هاتف: ٤٢٥٧٠١٩

1 / 2

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمد لله رب الْعَالمين، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه أَجْمَعِينَ. فطر الله الإنسان على محبته وطلبه وإرادته، وأنزل الشرائع على رسله لتكميل ما في الفطرة من هذه المحبة والطلب والإرادة. فما دامت الفطرة سليمة فلا بد أن تعمل عملها بأن نتعلق بمُتعلقها، كما يعمل السمع والبصر عملهما ما داما على سلامة الخلقة بتعلقهما بالمسموع والمبصَر. وإنه لمن عظيم عناية الله ولطفه بهذا المخلوق أن فطره على محبته؛ لأنه ليس في المخلوقات بأسرها ما يسد فاقته وفقره الذاتي حتى ولا نعيم الجنة المخلوق فمهما يحصل له من ذلك فحاجته إلى ربه أجل من أن يبلغها الوصف أو يحيط بها الخيال.

1 / 5

وهذا والله غاية التكريم ونهاية التشريف، أن يكون متعلق روح الإنسان إلهه الحق ﷾ .. فتأمل كيف لم يجعل لك إلهك غاية سواه ولا محبوبًا دونه. والحاجة والفاقة والفقر الذي في المخلوق لخالقه ليس فقط لأنه خلقه وهو الذي يرزقه، بل وهو القيوم بشأنه كله، وتأمل هذا الأثر «لو لم أخلق جنة ولا نارًا ألم أكن أهلًا أن أعبد» (١). قال ابن القيم ﵀: «فأخبر سبحانه أنه إنما فطر عباده على الحنيفية المتضمنة لكمال حبه والخضوع له، والذل له وكمال طاعته وحده دون غيره، وهذا من الحق الذي خلقت له وبه قامت السماوات والأرض وما بينهما، وعليه قام

(١) ذكره ابن القيم في مفتاح دار السعادة ج٢ ص٨٧.

1 / 6

العالم ولأجله خلقت الجنة والنار، ولأجله أرسل رسله وأنزل كتبه، ولأجله أهلك القرون التي خرجت عنه وآثرت غيره». فكونه سبحانه أهلًا لأن يُعبد ويُحب ويُحمد ويُثني عليه أمر ثابت له لذاته، فلا يكون إلا كذلك، كما أنه الغني القادر الحي القيوم السميع البصير، فهو سبحانه الإله الحق المبين .. والإله هو الذي يستحق أن يؤله محبة وتعظيمًا وخشيةً وخضوعًا وتذللًا وعبادة، فهو الإله الحق ولو لم يخلق خلقه، وهو الإله الحق ولو لم يعبدوه، فهو المعبود حقًّا الإله حقًّا المحمود حقًّا، ولو قدر أن خلقه لم يعبدوه ولم يحمدوه ولم يألهوه، فهو الله الذي لا إله إلا هو قبل أن يخلقهم وبعد أن خلقهم، وبعد أن يفنيهم لم يَستحدث بخلقه لهم لا بأمره إياهم استحقاق الإلهية والحمد، بل الإلهية وحمده ومجده وغناه أوصاف ذاتية له، يستحيل مفارقتها له، كحياته ووجوده وقدرته وعلمه وسائر صفات كماله .. فأولياؤه وخاصته وحزبه لما شهدت

1 / 7

عقولهم وفطرهم أنه أهل أن يعبد وإن لم يرسل إليهم رسولًا، ولم ينزل عليه كتابًا، ولو لم يخلق جنة ولا نارًا، علموا أنه لا شيء في العقول والفطر أحسن من عبادته ولا أقبح من الإعراض عنه. وجاءت الرسل، وأنزلت الكتب لتقرير ما استودع سبحانه في الفطر والعقول من ذلك وتكميله وتفصيله وزيادته حسنًا إلى حسنه. فاتفقت شريعته وفطرته وتطابقًا وتوافقًا، وظهر أنهما من مشكاة واحدة، فعبدوه وأحبوه ومجَّدوه وحمدوه بداعي الفطرة وداعي الشرع وداعي العقل، فاجتمعت لهم الدواعي، ونادتهم من كل جهة، ودعتهم إلى وليهم وإلههم وفاطرهم، فأقبلوا إليه بقلوب سليمة، لم يعارض خبره عندها شبهة توجب ريبًا وشكًّا، ولا أمره شهوة توجب رغبتها عنه وإيثارها سواه، فأجابوا دواعي المحبة والطاعة إذ نادت بهم حي على الفلاح. وبذلوا أنفسهم في مرضاة مولاهم

1 / 8

الحق بذل أخي السماح. وحملوا عند الوصول إليه مسراهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. فدينهم دين الحب وهو الدين الذي لا إكراه فيه. وسيرهم سير المحبين وهو الذي لا وقفة تعتريه. إني أدين بدين الحب ويحكموا ... فذاك ديني ولا إكراه في الدين ومن يكن دينه كرهًا فليس له ... إلا العناء وإلا السير في الطين وما استوى سير عبد في محبته ... وسير خال من الأشواق في دين فقل لغير أخي الأشواق ويحك قد ... غبنت حظك لا تغتر بالدون نجائب الحب تعلو بالمحب إلى ... أعلى المراتب فوق السلاطين وأطيب العيش في الدارين قد رغبت ... عنه التجار فباعت بيع مغبون

1 / 9

فإن ترد علمه فاقرأه ويحك في ... آيات طه وفي آيات ياسين انتهى (١). إذا تبين هذا وأن أصل العبادة هو المحبة، وأن محبوب أولياء الله لا يشبه غيره ولا يماثله، بل ولا يدانيه ولا يقاربه، مهما كان ذلك الغير، علم أن الحب فيه لا يشابهه غيره ولا يماثله كذلك البغض فيه .. وهذا لابد فيه من معرفة بالله خاصة تثمر الشعور به حيث أن المحبة تابعة للشعور بالمحبوب. وليس الكلام في هذا وإنما في فروعه التي تتفرع منه مثل المحبة في الله، فما دامت الفطرة سليمة قد كملت بالشرعة المستقيمة، فلابد من وجود الحب في الله فيها لا يتصور خلوها منه .. لكن الفساد يعرض للفطرة

(١) مفتاح دار السعادة ج٢ ص٨٧.

1 / 10

فيحرفها عما جُبِلَت عليه، فتحب وتبغض على مقتضى الهوى الذي انحرفتا معه ومالت. والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان كما أخبر النبي ﷺ بذلك .. وإنما صار ذلك أوثق عرى الإيمان لأنه من أصح علامات وجوده في القلب، وبقدر قوته وضعفه تكون قوة الحب في الله والبغض فيه. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: «مَا تَحَابَّ رَجُلَانِ فِي اللَّهِ ﷿ إِلَّا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ» (١). وإنما صار الأشد محبة هو الأفضل؛ لأنه أفضل في الإيمان الذي تفرعت منه هذه المحبة .. وقد قيل في المحبة في الله أنه لا يزيدها البر ولا ينقصها الجفاء. هذه حقيقتها فتأمل.

(١) الزهد للإمام أحمد ص٣٧٩.

1 / 11

وهذا مما يدل على صدقها وسلامتها من الشوائب .. ولقد كثر في وقتنا المدَّعون للمحبة في الله. والناس لا يعطون بدعواهم فحتى لا تخدع وتغتر انظر في حبهم في الله، فإن كان كالثمرة والنتيجة للبغض فيه فنعم، وإلا فهو دعوى لا يغتر بها بصير بدينه لكنها تروج على العميان؛ لأنه لا ولاء إلا ببراء .. وتأمل كلمة التوحيد فالنفي فيها قبل الإثبات وهو متضمن للبغض والمعاداة .. فإياك أن تصدق من ادعى المحبة في الله وهو لا يبغض فيه، فملة إبراهيم لا تقوم على ساق واحدة ولا تنظر بعين واحدة. وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فانظر في الأصل وهو أن الأمر بالمعاصي والكفر هو الشيطان، والإنسان العاصي أطاع أمره فصار فيه من موالاته بحسبه، فإن كان كافرًا فموالاته للشيطان كاملة، وإن كان عاصيًا فبقدر معصيته تكون موالاته له.

1 / 12

والله ﷿ أمرنا باتخاذ الشيطان عدوًّا بعد أن أخبرنا بعداوته لنا فقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فلابد من بغضه في القلب ومعاداته عبودية لله، ويتبع ذلك بغض كل ما يأمر به وهو لا يأمر إلا بما يستحق أن يبغض حتى ولو لم يأمر به لأنه في نفسه بغيض. كذلك فقد أخبرنا ربنا بعداوته له. والعاصي أطاع الشيطان في أمره فيبغض لأجل هذا النصيب الذي أطاعه فيه. كذلك فإنه لابد من المعرفة بحقيقة المحبة، وأنها موافقة الحبيب. ومعلوم أنه حتى في المحبة الباطلة بين الناس لابد من ذلك يعني الموافقة، ولذلك فإن الإنسان إذا رأى من يدعي محبته يوالي عدوه عرف أن محبته كاذبة، هذا يعرفه كل أحد. قال ابن القيم ﵀: أتحب أعداء الحبيب وتدّعي ... حبًّا له ما ذاك في الإمكان

1 / 13

فتأمل ما تجده في نفسك من النفرة والبغض لمن عادى صاحبك وأبغضه «والله ورسوله أحق أن يرضوه». والرب سبحانه تعالى، كما أنه يحب من أطاعه فهو يبغض من عصاه، فلماذا نعطل هذا الجانب والموافق فيه إذا أقررنا بالجانب الأول والموافقة فيه؟. أو نقول: إن الرب يحب ولا يبغض أو نقول: يبغض ولكن لا نوافقه في بغضه. فقد علمنا أن هذا ايصلح حتى مع الخلق كما تقدم. ويكفي في هذا كله قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية. فالآية تشمل الكفار والعصاة فيما دون الكفر لكن للكفار أعظم المعاداة والبغض وللعصاة نصيبهم بقدر محاداتهم لله ولرسوله. قال ابن عباس ﵄: «من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن

1 / 14

كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا» (١). قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ﵀ على كلام ابن عباس قوله: «من أحب في الله» أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك .. قوله: «وأبغض في الله» أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه كما قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية .. قوله: «ووالى في الله» هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب الله تعالى أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أهل معصيته وأبغضهم وجاهد أعداءه ونصر أنصاره، وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة

(١) فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص ٣٤٤.

1 / 15

عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل ومستكثر ومحروم». تأمل قول الشيخ عبد الرحمن ﵀: «ولما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها إلى قوله: ومحروم. فهو يقصد بالأعمال المترتبة عليها الحب في الله والموالاة فيه، والبغض في الله والمعاداة فيه، بخلاف كثير من أهل الوقت حيث يصفون من قام بشيء من المعاداة في الله والبغض فيه بأشنع الأوصاف». ثم قال الشيخ عبد الرحمن ﵀ على قول ابن عباس ﵄: «وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا» قال: أي لا ينفعهم بل يضرهم كما قال تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا من زمن ابن عباس خير

1 / 16

القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان. وقد وقع ما أخبر به ﷺ بقوله: «بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» وقد كان الصحابة ﵃ من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم ﷺ، وعهد أبي بكر وعمر ﵄، يؤثر بعضهم بعضًا على نفسه محبة في الله وتقربًا إليه كما قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ وعن ابن عمر ﵄ قال: «لقد رأيتنا على عهد رسول الله ﷺ وما من أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم» رواه ابن ماجة انتهى المطلوب. فقد تبين أن دعوى المحبة بلا بغض خداع وغرور من الشيطان، والصحيح أنه لو كان في قلب مدعي المحبة بغض لمعصية العاصي ونفره منها لأبغضه ونفر منه، ووجد وحشة بينه وبينه. لكن في الغالب تجده

1 / 17

مشاركًا له في مثل معصيته بالمقدار أو يزيد عليه، لكن تكون معصيته من نوع آخر، ولو لم يكن فيه إلا تركه بغض ما يبغض الله. قال يوسف بن أسباط: «وسمعت سفيان الثوري يقول: إذا أحببت الرجل في الله ثم أحدث حدثًا في الإسلام فلم تبغضه عليه فلم تحبه في الله .. وهذا مما توزن به المحبة في الله، فهو ميزان صادق لا الدعاوي العارية من الحقائق، ولا الآراء الفاسدة والشقائق. فرحم الله سلفنا الصالحين كم خلّفوا لنا من فوائد جليلة وآثار جميلة، لو عرفنا قدرها ما احتجنا إلى رأي فلان وفلان. ومن ليس على طريقهم في الهدى والإيمان والمتابعة والإحسان». وقال عثمان بن أبي صفية: «إذا واخيت الرجل في الله فأحدث حدثًا فلم أجانبه لم تكن مؤاخاتي في الله». تأمل بأي شيء وزن محبته.

1 / 18

ومن كيد الشيطان ومكره لإبطال الغضب لله أن يصوره للإنسان بصورة منفرة للغاية، ويصور من قام به بأشنع الصور، وأنه جاف جاهل مفرق بين الناس، وأنه سيء الخلق ضيق العقل، ونحو ذلك من التشنيع وقد قال تعالى: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ فإذا لم تكن المحبة والموالاة لأولياء الله والبغض والمعاداة لأعداء الله وقعت الفتنة والفساد الكبير، كما ذكرنا ربنا ﷿، فهذا لابد منه ولاشك فيه ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾. وتارك البغض في الله أتاه الشيطان من جهة حسن الخلق. وحسن الخلق والرحمة ونحو ذلك هو بغض ما يبغضه الله ورسوله، ومن آثار ذلك الطيبة أن يستشعر العاصي بمخالفته، وإلا كيف يستشعر بذلك إذا لم ير جفوة من صديق، وتغيرًا من صاحب وحبيب. فهذا كالمنبه والمحذر له. قال السفاريني: «وكم إمام هجر لله خدنا كان أعز

1 / 19

عليه لولا انتهاكه لمحارم مولاه من روحه فصار بذلك كالجماد» (١). وهذا هو حسن الخلق المقتبس من مشكاة النبوة لا الآراء والأهواء التي يظنها صاحبها عقلًا ودينًا وهي ظلم وجهل. ولو رأيت شخصًا عزيزًا عليك يسير في طريق محفوظة بالمخاوف والمخاطر، وهو قد يعرف أن الطريق كذلك، وقد لا يعرف، وقد تكون معرفته بذلك ضعيفة فهو إذا لم ير الجد منك والتغير يتساهل ولا يبالي؛ حيث لم يشعر منك بتغير يناسب الحال. فهل نصحته أو غششته ببرودة قلبك؟. ومعلوم أن العاصي مطيع للشيطان وهو أعدى أعدائه يقوده إلى كل هلكة وعطب بزمام هواه

(١) غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب ج١ ص ٢٢١.

1 / 20

ومغضب للرحمن، وقد توعده إذا أغضبه بعذاب لا يطاق، وأنت أسير عدوه صريع هواه، وأنت بارد القلب، فهل يدل هذا على شفقة ورحمة أو حسن خلق بوجه من الوجوه أو يدل على ضد ذلك فهو رأي فاسد طلب صاحبه السلامة فوقع في موجب العتب والملامة. فتأمل حكمة الحكيم ورحمة الرحيم، وأن وزن أمور الشريعة بالرأي والعقل مزلة ومضلة، ورضي الله عن أمير المؤمنين علي حيث قال: «لو أن الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه ..» يقصد ﵁ أن أسفل الخف هو الذي يباشر الأرض فيعلق به ما يُستقذر فيكون مسحه أولى من أعلاه الذي لا يباشر الأرض، ومع هذا أمر الشارع بمسح أعلاه دون أسفله؛ لأن الدين ليس بالرأي. وكما صوّر الشيطان البغض في الله والغيرة إذا انتهكت محارمه بتلك الصورة الشنيعة، فإنه يصور

1 / 21

المداهنة بحسن الخلق واللطافة والأدب وتأليف الناس ونحو ذلك من العبارات الخادعة. قال سفيان الثوري: «إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء قالوا له: كيف ذلك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم ويلقاهم بوجه طليق» (١). وهذا أيضًا مما يبين أن الدين ليس بالرأي؛ لأن رأي أكثر الخلق أن ثناء الجيران كلهم على جارهم مطلوب ومرغوب فيه، بل ومن الصفات الحميدة في الرجل وهو كما ترى في كلام العلماء، وتأمل قوله: يلقاهم بوجه طلق فإنه من المتقرر عند السلف أنه لا يلقى العاصي بوجه طلق ولا يفعل ذلك إلا المداهن. وقد فهم أهل الوقت حسن الخلق بمفهوم يناسب

(١) الحلية لأبي نعيم.

1 / 22