4
ولا أدل على تأثير هذه القصة في نفوس المسيحيين الأوائل، على الرغم من تعارضها مع قصة الميلاد الرسمية فيما يتعلق بعنصر المغارة، من أن الإمبراطورة هيلانة قد بنت كنيسة المهد فوق مغارة في بيت لحم كان الموروث الشعبي يعتقد أنها مغارة الميلاد، وذلك عام 330م. وما زالت هذه الكنيسة قائمة حتى الآن. وفي هذه الحادثة دلالة ذات أهمية على أن الحدود لم تكن واضحة في أذهان المسيحيين بين الأناجيل الرسمية والأخرى المنحولة حتى ذلك الوقت المتأخر. ومن الجدير بالذكر أن مشهد الولادة في مغارة بقي شائعا في الرسوم الدينية المسيحية وصولا إلى يومنا هذا؛ حيث نجد مجسمات مصغرة لهذا المشهد في واجهات المحال التجارية خلال أسبوع الميلاد في أوروبا وأميريكا.
من كل ما تقدم نخلص إلى نتيجة مفادها أن مؤلفي إنجيلي متى ولوقا لم يكن بين أيديهما معلومات بخصوص ميلاد يسوع وطفولته وشبابه، وأنهما ردما هذه الفجوة بقصة استلهمت عناصرها الرئيسية من القصص الديني الشائع شرقا وغربا عن ميلاد الطفل المؤله من عذراء. وهذا ما نجده في قصص ميلاد بوذا، والإله آتيس الذي غزا روما قادما من الشرق، والإله أدونيس السوري، والإله الفارسي ميثرا، والمخلص الزرداشتي شاوشيانط الذي سيظهر في نهاية التاريخ، عندما تحبل به عذراء تنزل للاستحمام في مياه إحدى البحيرات حيث تتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظت هناك منذ القدم. وقائمة هؤلاء المولودين من عذراء طويلة، وتتطلب بحد ذاتها دراسة مستقلة تبحث في منشئها وبواعثها الفلسفية والنفسية.
على أننا سوف نتوقف في المرحلة الثانية من هذا البحث لندقق في عنصرين من عناصر قصة الميلاد الإنجيلية؛ وهما ولادته في بيت لحم اليهودية، وحياته الأولى في مدينة الناصرة، لنرى أن ولادته في بيت لحم اليهودية مستبعدة، وأن مدينة الناصرة لم يكن لها وجود في ذلك الزمان.
مشكلة بيت لحم والناصرة
إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين هي صورة منطقة تتألف من بيئات معزولة عن بعضها البعض. وقد انعكست هذه الجغرافية المتنوعة على الحياة السياسية، فكانت فلسطين مقسمة على الدوام إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة. وتتجلى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق الهضاب، ونموذجها مرتفعات الجليل التي يفصلها وادي يزرعيل العريض والخصب عن الهضاب المركزية (أي منطقة السامرة) ومرتفعات يهوذا. وتشير الشواهد الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية والسياسية مع فينيقيا والعالم السوري الأوسع كانت أقوى من صلاته مع المنطقة الفلسطينية. فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية التي تشهد على مثل هذه الصلات، فقد ورد اسم مدينة حاصور عاصمة الجليل القديمة في أكثر من عشرين رقيما ضمن أرشيف مدينة ماري السورية على الفرات الأوسط، والذي يرجع تاريخه إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. وتكشف لنا المعلومات الواردة في هذه الرقم عن أهمية حاصور وعن علاقاتها الدولية الواسعة.
خلال عصر الحديد الأول والثاني (1200-587ق.م.) الذي شهد مولد وغياب مملكتي السامرة ويهوذا، بقيت منطقة الجليل على عزلتها عن مناطق المرتفعات الأخرى وراء وادي يزرعيل (مرجع ابن عامر)، ولا يوجد لدينا دليل على صلات ثقافية مع السامرة جارتها الجنوبية بل على العكس من ذلك؛ فالفخاريات وغيرها من اللقى المكتشفة خلال هذا العصر تشير بقوة إلى تأثيرات فينيقية وآرامية، ويبدو أن الجليل قد وقع تحت سيطرة مملكة صور آنا وتحت سيطرة مملكة دمشق آنا آخر، ولم يقع تحت سيطرة مملكة السامرة إلا خلال الهزيع الأخير من حياتها قبل دمارها على يد الآشوريين عام 721ق.م. ولهذا فقد قام الآشوريون بتهجير قسم كبير من سكانه مع من هجروا من أهل السامرة وأحلوا محلهم سكانا من مناطق أخرى.
تنقصنا المعلومات عن الجليل خلال العصر الفارسي، أما خلال العصر الهيلينستي والروماني فقد تهلين الجليل مثلما تهلينت فينيقيا والسامرة وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة بنيت وفق المفاهيم المعمارية والاجتماعية اليونانية، أهمها مدينتا تيبرياس (طبرية) وسيفوريس. وقد كان التركيب الإثني لهذه المدن متنوعا؛ فقد احتوت على ذخيرة أساسية من السكان الأصليين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى الجليل من قبل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية. أما الديانة السائدة في الجليل فقد كانت كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر يونانية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة اليونانية. ولهذا يطلق مؤلف إنجيل متى على هذه المنطقة اسم جليل الأمم (متى، 4: 15). ومتى هنا يستخدم تعبير «الأمم» بالمعنى التوراتي في الإشارة إلى الشعوب غير اليهودية.
لكل هذه الأسباب مجتمعة فإن الجليل لم يحتو حتى أواسط القرن الثاني إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء ويعتبرونهم جسما دخيلا على المجتمع الجليلي، وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي ونجح يهوذا المكابي في طرد الحامية السلوقية من أورشليم عام 164ق.م. وجد الجليليون في ذلك مناسبة للتخلص من اليهود، وهذا ما دفع بيهوذا المكابي إلى إرسال نجدة عسكرية أجلتهم عن الجليل وجاءت بهم إلى أورشليم (راجع سفر المكابين الأول في الترجمة الكاثوليكية، 5: 14-23). ولكن الوضع تغير بعد بضعة عقود عندما تحولت مقاطعة اليهودية إلى مملكة مستقلة وراح حكامها من الأسرة المكابية يوسعون مناطق نفوذهم، فقام الملك أرسطو بولس الأول بضم الجليل إلى أملاكه نحو عام 100ق.م. وفرض الدين اليهودي على سكانه بقوة السلاح. ومع ذلك فقد بقي الدين اليهودي بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع في الجليل، والمراجع اليهودية ملأى بالإشارة إلى قلة دين الجليليين وجهلهم بالطقوس والواجبات الدينية اليهودية.
بعد دخول الرومان إلى سوريا واستيلائهم على أورشليم عام 63ق.م. تفككت دولة المكابيين، وساد جو من التسامح الديني الذي شجع الكثيرين من سكان الجليل على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائهم، لا سيما في عهد هيرود الكبير (أو هيرود العربي كما كان يلقب) الذي عينه الرومان ملكا على منطقتي فلسطين وشرقي الأردن، والذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها وبنى لها معابد لآلهتها التقليدية القديمة. وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت سيطرة الثقافة اليهودية إلا لفترة قصيرة من الزمن، وأن من بقي على اليهودية في الجليل بعد الفتح الروماني لم يكن ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يعد يهوديا حقا من قبل أهل اليهودية.
अज्ञात पृष्ठ