إن التلميذ الآخر الذي تبع يسوع مع بطرس عقب القبض عليه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون يوحنا صياد السمك المتواضع الحال؛ لأن هذا التلميذ كان معروفا من قبل رئيس الكهنة، وهو الذي توسط لبطرس من أجل الدخول إلى بيت رئيس الكهنة. هذه الحظوة الخاصة التي تمتع بها التلميذ عند رئيس الكهنة الذي يبدو أنه كان على علاقة طيبة مع أسرته الغنية، هي التي شفعت للتلميذ الذي أحبه يسوع أن يشهد عملية الصلب دون خوف من الاعتقال، في الوقت الذي تفرق فيه بقية أصحاب يسوع واختبئوا.
اعتمادا على هذه المقدمات التي أجدها في غاية المنطقية، أتوصل إلى نتيجة مفادها أن التلميذ المحبوب لعازر هو مؤلف الإنجيل الرابع وليس يوحنا ابن زبدي، أو أنه كان يملي ذكرياته في أواخر حياته على ذلك المؤلف المجهول. وهذه مسألة سوف نتوسع فيها في بحث لاحق.
يسوع والنساء
لغز مريم المجدلية
يكاد قارئ كتاب العهد الجديد لا يلحظ دورا للنساء في حياة يسوع التبشيرية؛ فحواراته كانت تجري دوما مع الرسل الاثني عشر الذين اختارهم لمرافقته في حله وترحاله، وتعاليمه كانت موجهة على الدوام إليهم. ولكن مؤلفي الأناجيل، تركوا لنا إشارات عابرة هنا وهناك تكشف عن دورهن المهم في الدعوة الجديدة، وتفانيهن في تقديم الدعم المادي والمعنوي للمعلم الذي تركن من أجله بيوتهن وسرن وراءه على طريق الآلام من الجليل إلى الجلجلة حيث صلب ومجد، وكان من بينهن أول الشهود على قيامته من بين الأموات.
هذه الإشارات الغامضة التي تلفت نظرنا إلى الحضور القوي للنساء في ذلك المحيط الذكوري كما قدمه لنا الإنجيليون، تطلعنا على حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن عدد النساء في بطانة يسوع المقربة ربما كان أكثر من عدد الرجال، وأن الدعم المالي لهذه المجموعة المرتحلة مع معلمها كان يأتي من بعض أولئك النسوة المقتدرات اللواتي تركن ما كن فيه من رغد العيش وسرن وراء يسوع. ولعل من أهم هذه الإشارات ما ورد في إنجيل لوقا: «وعلى إثر ذلك كان يسير في المدن والقرى يكرز ويبشر بملكوت الله، ومعه الاثنا عشر، وبعض النساء اللواتي شفاهن من الأرواح الشريرة والأمراض، وهن مريم المعروفة بالمجدلية التي أخرج منها سبعة شياطين، وحنة (أو يونا في بعض الترجمات) امرأة خوزي وكيل هيرودوس، وسوسنة، وغيرهن كثيرات كن يخدمنه من أموالهن» (لوقا، 8: 1-3).
تدلنا هذه الإشارة المقتضبة إلى تلميذات يسوع عند لوقا على وجود عدد كبير من النساء في بطانة يسوع المقربة، وأن المصدر الأساسي لتمويل معاش يسوع وتلاميذه كان من أموال هؤلاء النسوة. وقد كان هذا المال يحفظ في صندوق خاص يحمله معه التلميذ يهوذا الإسخريوطي، على ما نفهم من إنجيل يوحنا 12: 4-6. ولكن لوقا لم يذكر لنا من أسماء هؤلاء النسوة سوى ثلاثة، هن: مريم المجدلية، ويونا (أو حنة) امرأة خوزي، وكيل هيرودوس، وسوسنة. ويكشف لنا تعريف لوقا ليونا بأنها زوجة وكيل هيرودوس أنتيباس ملك الجليل، حقيقة في غاية الأهمية وهي أن العديد من هؤلاء التلميذات كن من شرائح اجتماعية ميسورة، وكن من موقعهن المتميز هذا قادرات على دعم طبيعة حياة الترحال التي اختارها يسوع له ولجماعته. وكما سنرى فيما بعد فإن اثنتين من هؤلاء النسوة اللواتي ذكرهن لوقا، وهما مريم المجدلية ويونا، سوف تعودان إلى الظهور في أحداث الأسبوع الأخير من حياة يسوع، أما الثالثة وهي سوسنة (أو سوزان كما تدعى في اللغات الأوروبية) فسوف تختفي تماما، ولا يأتي أحد من الإنجيليين على ذكرها بما فيهم لوقا نفسه.
بعد هذه الإشارة الوحيدة والمقتضبة التي أوردها لوقا إلى وجود نساء كثيرات منذ البداية في بطانة يسوع، تصمت الأناجيل الأربعة عن هؤلاء النسوة وصولا إلى أحداث محاكمة يسوع وصلبه ودفنه. فبعد القبض على يسوع وسوقه إلى المحاكمة، انفض عنه الرسل الاثنا عشر وبقية التلاميذ واختبئوا خوفا من الاعتقال، ولم يصحبه إلى المحاكمة إلا النساء اللواتي رافقنه بعد ذلك إلى موضع الصلب. نقرأ في إنجيل متى الذي لم يعترف بوجود النساء حتى هذا الوقت المتأخر ما يلي: «وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه. وبينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متى، 27: 55-56). وابنا زبدي المذكوران هنا هما يعقوب ويوحنا الوارد ذكرهما في قائمة الرسل عند متى (راجع متى: 4). أما يعقوب ويوسي فهما ابنا حلفي. ويلقب يعقوب هذا بالصغير تمييزا له عن يعقوب الكبير ابن زبدي. وعلى الرغم من أن متى لا يذكر لنا اسم أم ابني زبدي، إلا أن المرجح أن يكون اسمها سالومة، لأن مرقس الذي يقدم لنا القائمة نفسها يقول «سالومة» في الموضع الذي قال فيه متى «أم ابني زبدي»: «وكانت أيضا نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة» (مرقس، 15: 40). فإذا جئنا إلى لوقا وجدناه يذكر من أسماء النساء الكثيرات اللواتي حضرن الصلب ثلاثة، هن: مريم المجدلية، ويونا، ومريم أم يعقوب (لوقا، 24: 10). أي أنه حافظ على قائمته التي قدمها لنا في بداية إنجيله مع استبدال سوسنة بمريم أم يعقوب.
أما يوحنا، وعلى عادته في التفرد عن بقية الإنجيليين، فيقدم لنا قائمة لا تشترك مع بقية قوائم الإنجيليين إلا باسم المجدلية: «وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه، وأخت أمه زوجة كلوبا، ومريم المجدلية» (يوحنا، 19: 25). تحتوي هذه القائمة على شخصيتين نسائيتين لم تردا في قوائم بقية الإنجيليين. فلدينا أولا أم يسوع التي كانت غائبة عن جميع الإنجيليين خلال حياة يسوع التبشيرية، ولم يرد ذكرها إلا عرضا في معرض التعريف بيسوع باعتباره ابن امرأة تدعى مريم (متى، 13: 55-56؛ ومرقس، 6: 1-3)، كما جرت الإشارة إليها على أنها أم يسوع دون ذكر اسمها عندما جاءت أسرته تطلبه وهو منشغل في التعليم: «هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك» (متى، 12: 46-50. قارن مع مرقس، 3: 35-51؛ ولوقا، 8: 19-21). أما عند يوحنا فقد ورد ذكرها مرة واحدة في مطلع حياة يسوع التبشيرية وذلك في عرس قانا عندما اجترح يسوع معجزة تحويل الماء إلى خمر، ولكن دون الإشارة إلى اسمها: «وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ... إلخ» (يوحنا: 2). وبعد ذلك تغيب مريم عن مسرح الأحداث تماما ولا نعثر لها على ذكر بين بطانة يسوع. ولذلك فمن الغريب أن نجدها فجأة تحت الصليب ومعها أخت لها لم نسمع بها من قبل اسمها مريم أيضا. ولحل هذه المفارقة فقد اقترح بعض الباحثين وجود خطأ في النسخ وأن الآية 25 من الإصحاح 19 يجب أن تقرأ: «وكانت واقفات عند صليب يسوع: أمه، وأخت أمه، ومريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية.» وبذلك يكون لدينا أربع نساء عوضا عن ثلاثة. أما عن المدعو كلوبا الذي تنسب إليه هذه المريم الأخرى، فلم يرد اسمه إلا مرة واحدة في الأناجيل باعتباره من تلاميذ يسوع ودون إعطاء أي تفصيلات بخصوصه (راجع لوقا، 24: 13-18).
بعض هؤلاء النسوة اللواتي حضرن واقعة الصلب كن أول الشهود على قيامة يسوع من بين الأموات، وهي الحدث الرئيسي في العقيدة المسيحية. ففي إنجيل متى يتراءى يسوع للمرة الأولى بعد قيامته أمام مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي (متى: 28). وفي إنجيل لوقا يتراءى لمريم المجدلية ويونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن (لوقا: 24). وفي إنجيل يوحنا يتراءى للمجدلية وحدها (يوحنا: 20)، وكذلك الأمر في إنجيل مرقس (مرقس: 16).
अज्ञात पृष्ठ