قبل أن يباشر بولس مهامه التبشيرية اعتكف في الصحراء في ديار الأنباط مدة من الزمن يتأمل في رسالة يسوع وفي برنامجه التبشيري المقبل، الذي سيقوده منفردا ومن دون التنسيق مع كنيسة أورشليم، أو استشارة بقية الرسل. يقول في رسالته إلى أهالي غلاطية: «ولكن لما شاء ذاك الذي اصطفاني مذ كنت في بطن أمي فدعاني بنعمته، وكشف ابنه في لأبشر به بين الوثنيين، لم أستشر الدم واللحم (= الرسل) ولا صعدت إلى أورشليم لألقى من تقدمني من الرسل، بل ذهبت من ساعتي إلى ديار العرب، ثم عدت إلى دمشق. وبعد ثلاث سنوات صعدت إلى أورشليم لألقى صخرا (= بطرس)، فأقمت عنده خمسة عشر يوما ولم أر غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب. وأشهد الله وأنا أكتب إليكم بذلك على أني لا أكذب. ثم أتيت بلاد سوريا وكيليكيا» (غلاطية، 1: 15-21).
ويبدو أنه خلال اعتكافه في الصحراء حصلت له التجربة الروحية العنيفة التي يصفها في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة، عندما عرج به إلى السماء وسمع ما لا يحق له أن ينطق به: «وإن كان لا بد من الافتخار مع أنه لا خير فيه، فإني أنتقل إلى رؤى الرب ومكاشفاته. أعرف رجلا مؤمنا بالمسيح اختطف إلى السماء الثالثة منذ أربع عشرة سنة. أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم، الله أعلم. وإنما أعلم أن هذا الرجل اختطف إلى الفردوس. أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله أعلم. وسمع كلمات لا تلفظ ولا يحل لإنسان أن يذكرها. أما ذلك الرجل فإني أفخر به، وأما أنا فلا أفتخر إلا بحالات ضعفي ... ومخافة أن أتكبر بسمو المكاشفات أوتيت شوكة في جسدي، رسول الشيطان وكل إليه بأن يلطمني لئلا أتكبر» (2 كورنثة، 12: 1-7).
وهكذا، فمع بولس نحن أمام ظاهرة نبوة حقيقة. فهو قد اختير بسابق علم الله من بطن أمه ليبشر بين الوثنيين باسم يسوع، ونزل عليه وحي من الآب ومن الابن وسمع منهما ما يتوجب عليه القيام به، وعرج إلى السماء الثالثة؛ حيث زار الفردوس وسمع وحيا آخر لا يستطيع الإفضاء به. ومن كان هذا شأنه فقد تجاوز المرتبة الرسولية؛ لأن الرسل قد عرفوا يسوع بحسب الجسد أما هو فقد عرفه بحسب الروح بعد أن تمجد مسيحا وجلس عن يمين الآب. ولكن هذا المنطق لم يكن مقبولا من ناحية الرسل، لأن للمرتبة الرسولية عندهم متطلباتها التي لا تنطبق على بولس. فعندما اجتمعوا لاختيار خلف ليهوذا الخائن، على ما يورده سفر أعمال الرسل، حددوا الشروط الواجب توفرها في الرسول: «فيجب إذن اختيار واحد من هؤلاء الرجال الذين صحبونا طوال المدة التي قضاها الرب يسوع بيننا، منذ أن عمده يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا، ليكون شاهدا معنا على قيامته» (أعمال، 1: 21-22). وبعد إلقاء القرعة على كل من يوسف الذي يقال له برسابا، ومتيا، أصابت القرعة متيا فضم إلى الرسل الأحد عشر.
من هنا فقد كان على بولس، مع اقتناعه بنبوته، أن يسعى للاعتراف به رسولا من قبل الجماعات التي راح يبشر بينها. وها هو يقول بمرارة لأهالي كورنثة: «ألست حرا؟ ألست رسولا؟ أما رأيت ربنا يسوع؟ ألستم أنتم صنائعي في الرب؟ إن لم أكن رسولا عند غيركم فأنا رسول عندكم. لأنكم أنتم خاتم رسالتي في الرب» (1 كورنثة، 9: 1-2). وعلى الرغم من أنه عمل منفردا في بداية الأمر ودون تنسيق مع كنيسة أورشليم، إلا أنه سعى فيما بعد للاعتراف به كرسول إلى الوثنيين، وحصل على هذا الاعتراف من خلال صدقه في الدعوة وقوة شخصيته وتفوقه الفكري. وهو يروي في الرسالة إلى أهالي غلاطية عن اتفاق جرى بينه وبين بطرس ويعقوب ويوحنا، يعهدون إليه بموجبه التبشير بين القلف (الوثنيين غير المختونين). وقد جرى هذا الاتفاق خلال الزيارة الثانية التي قام بها بولس إلى أورشليم بعد مرور نحو إحدى عشرة سنة على زيارته الأولى: «وبعد أربع عشرة سنة (من اهتدائه) صعدت ثانية إلى أورشليم مع برنابا واستصحبت طيطس، وكان صعودي إليها بوحي. وعرضت عليهم البشارة التي أعلنها بين الوثنيين ... أما الذين كانوا يحسبون أعيانا فإنهم لم يزيدوا شيئا بل رأوا أنه عهد إلي في تبشير القلف كما عهد إلى بطرس في تبشير المختونين، لأن الذي أيد بطرس في رسالته لدى المختونين أيدني في رسالتي لدى الوثنيين. ولما عرف يعقوب وصخر ويوحنا، المعتبرون أنهم أعمدة الكنيسة، ما أعطيت من نعمة، مدوا إلي وإلى برنابا يمنى الاتفاق، فنذهب نحن إلى الوثنيين وهم إلى أهل الختان» (غلاطية، 2: 1-10).
وقد أورد مؤلف سفر أعمال الرسل قصة هذه الزيارة بتفصيل أكثر. فقد جاء إلى بولس في أنطاكية أناس من أتباع كنيسة أورشليم وأخذوا يعلمون الوثنيين الذين تنصروا على يد بولس، ويقولون لهم إن عليهم أن يختتنوا وفق شريعة موسى وإلا فلا خلاص لهم. فوقع خلاف بينهم وبين بولس وبرنابا فأجمعوا على أن يصعد بولس وبرنابا وأناس منهم آخرون إلى أورشليم حيث الرسل والشيوخ للنظر في هذه المسألة. فاجتمع في أورشليم الرسل والشيوخ، وبعد جدال طويل مع الذين كانوا يطالبون الوثنيين بالاختنان والحفاظ على شريعة موسى، اتخذ المجلس قراره الذي تلاه يعقوب على الجميع وهو يحرر الوثنيين من الشريعة مع الالتزام بأربعة بنود فقط؛ وهي اجتناب ذبائح الأصنام، والزنى، والميتة، والدم (أعمال، 15: 1-20).
ولم يجتمع بولس ببطرس بعد ذلك إلا مرة واحدة، وذلك عندما قام بطرس بزيارة إلى أنطاكية حيث أقام عند بولس وبرنابا، وكان يجلس إلى مائدة واحدة مع الوثنيين المهتدين. ولكن عندما التحق به جماعة من أهل الختان قادمين من أورشليم، أدار بطرس ظهره للوثنيين ولم يؤاكلهم خوفا من لوم أهل الختان له، فانفجر بولس في وجهه وانتقده متهما إياه بالرياء. نقرأ في الرسالة إلى أهالي غلاطية: «ولكن لما قدم صخر إلى أنطاكية قاومته وجها لوجه لأنه كان يستحق اللوم. لأنه قبلما أتى قوم من صحب يعقوب كان يأكل مع الوثنيين، فلما أتوا توارى وتنحى خوفا من أهل الختان، فجاراه في ريائه سائر اليهود حتى إن برنابا انقاد إلى ريائهم. فلما رأيت أنهم لا يسيرون سيرة قويمة كما تقتضي حقيقة البشارة، قلت لصخر بمحضر من جميع الإخوة: إذا كنت أنت اليهودي تعيش كالوثنيين لا كاليهود، فكيف تلزم الوثنيين أن يسيروا سيرة اليهود؟ ... إن الإنسان لا يتبرر لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح ... ولو كان بر الإنسان بالشريعة لكان موت المسيح عبثا» (غلاطية، 2: 11-21).
لقد استحق بولس عن جدارة اللقب الذي أطلقه عليه التاريخ، أي: مؤسس المسيحية. فبدونه لم تشق المسيحية طريقها الخاص ولم تحقق استقلالها الكامل عن اليهودية، ولم يقيض لها أن تنتشر خارج بوتقتها الأصلية الضيقة، وربما كانت تلاشت مع تلاشي كنيسة أورشليم التي لم يتحرر أتباعها من الإرث اليهودي، ولم يفهموا تعاليم معلمهم حق فهمها. لقد سلك بولس مسلك الأنبياء العظام في تاريخ البشرية، وكرس حياته من أجل التبشير المحموم في كل مكان، وعانى الجوع والتشرد والسجن والاضطهاد في سبيل المسيح الذي يسكن فيه. يقول في الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة: «وأرى أني لست أقل شأنا من أولئك الرسل الأكابر. وإني وإن كنت غريبا عن البلاغة، فلست كذلك في المعرفة، وقد أظهرنا لكم ذلك في كل شيء ... فالذي يباهون به - وكلامي كلام جاهل - أباهي به أيضا. هم عبرانيون وأنا عبراني، هم إسرائيليون وأنا إسرائيلي، هم من ذرية إبراهيم وأنا من ذرية إبراهيم، هم خدم المسيح - أقول قول أحمق - وأنا أفوقهم: أفوقهم في المشقات ، أفوقهم في دخول السجون، أفوقهم كثيرا جدا في تحمل الجلد. أشرفت على الموت مرارا، جلدني اليهود خمس مرات أربعين جلدة إلا واحدة، انكسرت بي السفينة ثلاث مرات فقضيت ليلة ونهارا في عرض البحر. أسفار متعددة، أخطار من الأنهار، أخطار من اللصوص، أخطار من أبناء ملتي، أخطار من الوثنيين، أخطار في المدينة، أخطار في الصحراء، أخطار في البحر، أخطار من الإخوة الكذابين. جهد وكد، سهر ملازم، جوع وعطش، صوم كثير، برد وعري، ما عدا الباقي من فرض يومي واهتمام بجميع الكنائس» (2 كورنثة، 11: 5-28).
لقد حقق بولس منفردا أكثر مما حققه بقية الرسل مجتمعين؛ ولذلك لا عجب إذا رأينا أن نصف إصحاحات سفر أعمال الرسل مخصصة لسرد أخباره. وفيما كان بولس يجوب أنحاء الإمبراطورية الرومانية مبشرا بيسوع، كان بطرس رئيس الرسل الاثني عشر والشخصية الأبرز في كنيسة أورشليم، منشغلا بالأمور التنظيمية لكنيسته ولم يبرح أورشليم إلا مرتين. فقد ذهب في مهمة تبشيرية مع يوحنا بن زبدي إلى السامرة القريبة (أعمال، 8: 4-25)، وبعدها ذهب في رحلة تفقدية إلى أنطاكية ليطلع على ما أنجزه بولس وبرنابا هناك (غلاطية، 2: 11-21). علما بأن مؤلف سفر أعمال الرسل لم يأت على ذكر هذه الرحلة الثانية. أما عن القصص التي ظهرت لاحقا عن سفره إلى روما واستشهاده هناك، فليست إلا من قبيل الملاحم الشعبية غير الموثقة. ومن الملفت للنظر أن أخبار بطرس تتوقف تماما في سفر أعمال الرسل بعد الإصحاح الخامس عشر. كما أننا لا نعثر في سفر أعمال الرسل على أخبار تتعلق بنشاطات من أي نوع لبقية رسل يسوع الاثني عشر. فمتيا الذي جرى انتخابه ليحل محل يهوذا الخائن، يختفي تماما بعد خبر انتخابه الوارد في الإصحاح الأول. وفيما عدا بطرس لا يظهر في سفر أعمال الرسل من الأحد عشر الباقين سوى يوحنا بن زبدي، وذلك في أربعة أخبار موجزة (3: 1، 3: 3-13، 4: 13، و19، 8: 14). وهنالك خبر عابر عن مقتل أخيه يعقوب على يد هيرود أغرييا الأول (12: 1-2).
لا نعرف على وجه التحديد تاريخ ميلاد بولس، ولكننا نفهم من سفر أعمال الرسل أنه كان فتى عندما قام اليهود برجم الشهيد استيفانوس في أواخر الثلاثينيات، وعمدوا إلى وضع ثيابه تحت قدميه لينظرها لهم (أعمال، 7: 58-59، و22: 20-21). وهذا يعني أنه ولد فيما بين عام 10 و15 للميلاد. وفي أوائل الستينيات كان ما يزال حيا في سجنه في روما ينتظر المحاكمة التي لا ندري متى حصلت ولا كيف كانت نتيجتها. ولكن بعض الموروثات المسيحية العائدة إلى القرن الرابع تقول إنه أعدم عام 64م خلال القتل الجماعي للمسيحيين في روما إبان عهد الإمبراطور نيرون، ولكن هذا الخبر غير مؤكد، والأخبار متضاربة حول مصيره.
ولد بولس وفق رواية سفر أعمال الرسل لأسرة يهودية-يونانية موطنها في مدينة طرسوس بمنطقة كيليكيا (جنوب آسيا الصغرى على شاطئ المتوسط)، وكانت هذه الأسرة حاصلة على المواطنية الرومانية. وقد أفادته هذه المواطنية في الأوقات العصيبة، ومنها عندما ثار عليه اليهود في آخر زيارة له إلى أورشليم وجروه خارج الهيكل لكي يرجموه. فبلغ الخبر قائد الألف الروماني في المدينة فخف مع جنده إلى المكان وخلصه من بين أيديهم، ولكن اليهود بالغوا في الصياح طالبين قتله، فأمر قائد الألف بأن يساق إلى القلعة حيث يستجوب تحت السياط. فلما أوثقوه، قال بولس لقائد المائة الذي يشرف على وثاقه: أيحق لكم أن تجلدوا مواطنا رومانيا قبل أن تحاكموه؟ فذهب قائد المائة إلى قائد الألف وأطلعه على الأمر، فجاء إليه وسأله: أأنت روماني؟ قال: نعم. فقال قائد الألف: أنا أديت مقدارا كبيرا من المال حتى حصلت على هذه النسبة. قال بولس: وأنا حصلت عليها منذ مولدي. فخاف قائد الألف لما عرف أنه روماني وقد كبله بالقيود (أعمال، 22: 25-29).
अज्ञात पृष्ठ