فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
هنالك سمة تجمع الإنجيل إلى بقية الكتب المقدسة للديانات الكبرى، هي سمة الإشكالية، وهذه الإشكالية تنجم عن عدة عوامل؛ فالكتاب المقدس نص قديم تفصلنا عنه عشرات القرون، وهو نتاج ثقافة منقطعة عنا، وعقلية مغايرة لعقليتنا الحديثة، وطرائق في التعبير لم تكن قد استقلت بعد عن التركة الميثولوجية للعصور القديمة. والكتب المقدسة وصلت إلينا مدونة بلغات قديمة أو حتى بائدة في بعض الأحيان، وهذا يعني أننا نقرأ ترجمات قد لا تكون بدورها نقلا عن نصوص أصلية، ونتعامل مع مفردات لغوية قد لا نكون في كثير من الأحيان متأكدين من مدلولاتها. ويتفرع عن هذه المشكلة اللغوية مشكلة أخرى تتعلق بالأسلوب؛ فمؤلفو هذه النصوص غالبا ما كانوا ينتجونها تحت وطأة حالة من الإلهام النابع من اللاشعور الفردي أو الجمعي، يشعرون معها بالتواصل مع العوالم القدسية، أي أنهم كانوا يبدعون نصا انفعاليا لا نصا عقليا، وبأسلوب الشاعر المليء بالخيالات والصور ، لا بأسلوب الباحث أو الفيلسوف، موجهين خطابهم إلى العاطفة الإنسانية لا إلى التفكير المنطقي؛ فالدين بعد كل شيء حالة انفعالية لا حالة عقلية، والمتدين يستسلم لهذه الحالة الانفعالية أولا، ثم ينتقل إلى عقلنتها بعد ذلك إذا شاء.
إن هالة القداسة التي تحيط بالنص الديني تجعل من المتدين متلقيا سلبيا له، لا ينتبه إلى إشكالياته ولا يحفل بغوامضه. إن ما يطلبه منه هو أن يكون مرشدا أخلاقيا، ودليلا إلى حياة نفسية وعقلية سوية ومتوازنة. وعندما يفلح النص في أداء هذه المهمة (وهذا ما يفعله عادة) تخفت الحاجة إلى عقلنته والتفكر في إشكالياته التي تترك للاختصاصيين الذين ما زالوا في أمرها يختلفون. ولكن العقل الذي يطلب التصديق بعد الإيمان، ينتقل بأصحابه من حالة التلقي السلبي للنص إلى حالة التفاعل الإيجابي معه، ومن غض الطرف عن مشكلاته إلى التفكر فيها، لأن إيمان القلب دون تصديق العقل يبقى إيمانا هشا وناقصا. فالإنسان مزيج متكافئ من قلب ومن عقل، والحياة السوية تتأتى عندما لا يبغي أحدهما على الآخر.
هذا الكتاب موجه إلى طالبي المعرفة البحتة المنزهة عن الغرض، وإلى المؤمنين من أهل العقل لا إلى أهل الحرف والنقل. وإذا كنت قد تعرضت فيه لكل ما وجدته إشكاليا وغامضا في النص الإنجيلي، ومن موقع باحث موضوعي يتعاطف في الوقت نفسه مع حالة الإيمان، إلا أنني لا أدعي القول الفصل فيما قدمت. وعلى حد القول المأثور عن نبي الإسلام: «من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ومن اجتهد وأصاب فله أجران.» وليس الخطأ في اعتقادي إلا تدريبا على الصواب.
فراس السواح
آذار/مارس 2012م
خفايا إنجيل مرقس
अज्ञात पृष्ठ