وقال محمد: تيجوا نلعب يا ولاد ضربونا لما عمونا.
وهجنا من جديد، ووجدنا أنفسنا نزعق ونقول: عايزين نروح المنصورة.
ووجدنا لها نغمة فعدنا نغنيها: عايزين نروح المنصورة.
وتصاعد صوت يقول: الدنيا ليل يا ولاد.
ورددنا عليه جميعا: عايزين نروح المنصورة.
وهرش واحد وقال: حدانا عزيق بكرة.
فقلنا: يا محني ديل العصفورة، عايزين نروح المنصورة. •••
وأفقنا لأنفسنا فوجدنا أننا قد قطعنا شوطا كبيرا. كنا قد غادرنا بلدنا وحدودها وغيطانها، وأصبحنا نمش في طريق زراعي يقطع زمامات بلدة أخرى. ولحظتها فقط بدأنا نعي أننا مقدمون على شيء، وأننا ذاهبون فعلا إلى المنصورة. وكان سبب يقظتنا أننا شممنا رائحة الأرض الغريبة. في بلدنا كنا نحس بالألفة لكل شيء، ونتصرف بحرية ولا نخاف. كل نخلة كنا نعرفها، ولا بد طلعناها وأكلنا منها بلحا، وجمعنا من تحتها رطبا. كل غيط طرقناه ورأيناه في طفولتنا وصبانا. كل بيت نعرفه ونعرف أهله كما نعرف أهلنا. والشجرة أي شجرة نعرف فروعها بالفرع الواحد. وكل منا يستطيع وهو مغمض العينين أن يفرق بين تراب بلدنا وأي تراب آخر. ولم نفق إلا لإحساسنا أننا قد غادرنا أرضنا وأصبحنا في بلاد الناس.
وانتابنا خوف حقيقي حين أيقن كل منا أن الدنيا ظلام، وأنه يسلك طريقا لا يعرف له نهاية، وأنه لم يعد في بلده، ولا يستطيع أي منا أن يصرح بما يدور في خاطره. كانت جماعتنا تتحرك وكانت لها رهبة، وكأنها أصبحت عملاقا كبيرا له عشرات الأذرع والأيدي والرءوس، حتى بدا ما يفكر كل منا فيه صغيرا تافها يخيفه هو وحده، وأصبح هم كل منا حينئذ أن يلتصق بالآخرين أكثر، حتى يذوب خوفه ويختفي في جسد ذلك العملاق الكبير. وبعد أن كنا متناثرين على الطريق تقاربنا وتشابهت خطانا، بل وتشابكت أيدينا، وتولانا وجوم وسكوت، ونحن نستغرب من سيرنا المندفع الذي لا يتحكم فيه عقل ولا يتوقف. كان في صدورنا هدير لا يرحم، والمنصورة تجذبنا، كلمة ولكنها أصبحت تعني بالنسبة إلينا شيئا كالحياة أو أغلى من الحياة، تيار عارم كان ينبع من صدورنا ويقودنا ويدفعنا رغما عنا.
ولم يعد يسمع سوى وقع خطواتنا على الطريق؛ وقع هامس خافت كأننا قافلة جمال؛ فقد كنا حفاة، ومن كان يرتدي في قدمه شيئا خلعه ووضعه تحت إبطه، وكنا نلهث، ووجوهنا تلمع، وغبار قليل يثور، والليل من حولنا كبير أكبر من أي شيء في الدنيا، وأسود ومخيف ومليء بالهمهمات والأسرار، والزرع كثير محيط كالبحر المالح الذي ليس له بر، والنبات واقف ميت تحركه النسمات فيتحرك معها حركة ميتة بطيئة، وأصوات سواق تأتي من بعيد كأصوات النائحات النادبات في الجنائز حزينة على الزرع الميت، وطلقات بنادق متباعدة لا يعرف من ضاربها وأين ضربها وإلى من تصوب، وديكة تصيح قبل الأوان، ونباح كلاب يأتي من بلاد مجهولة، وهواء واسع يحف بأرض واسعة، فتهمهم الأرض وتقشعر الرياح، وهمسات الظلام تنبثق في أماكن غير مرئية؛ همسات خفية لئيمة لا تنقطع كأنها تصدر عن حيتان هائلة لا ترى تسبح في بحر الظلام وتتقلب.
अज्ञात पृष्ठ