الأسلوب
الأسلوب
प्रकाशक
مكتبة النهضة المصرية
संस्करण संख्या
الثانية عشرة ٢٠٠٣
शैलियों
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية عشرة:
أريد بهذه المقدمة أن أبين في إجمالي هذا المنهج الجديد لعلم البلاغة العربية، وهو منهج أجملته في كتاب "الأسلوب" منذ ظهرت طبعته الأولى في سنة ١٩٣٩ ودرسته في كليتي الآداب ودار العلوم بجامعة القاهرة.
ويقوم هذا المنهج على ملاحظة أن الدراسة النظرية للبلاغة العربية انتهت عند المتقدمين إلى علوم المعاني، والبيان، والبديع، يدرسون في الأول الجملة منفصلة أو متصلة، ويدرسون في الأخيرين الصورة بسيطة أو مركبة من تشبيه ومجاز وكناية وحسن تعليل، مع توابع أخرى في علم البديع، وهذه الدراسات على خطرها لا تستوعب أصول البلاغة كما يجب أن تكون، لتساير الأدب الإنشائي في أساليبه وفنونه.
لذلك أشرنا في هذا الكتاب إلى أن علم البلاغة العربية يجب أن يوضع وضعًا جديدًا يلائم ما انتهت إليه الحركة الأدبية في ناحيتيها العلمية والإنشائية.
ورأينا أن يدخل علم البلاغة في بابين أو كتابين:
الأول: باب الأسلوب أو كتابه ويتناول دراسة: الحروف، والكلمات، والجمل، والصور، والفقرات، والعبارات، على أن تدرس درسًا مفصلًا دقيقًا يعتمد على علم الصوت، والنفس، والموسيقى وما إليها مما يقَوِّم الأسلوب على أنه صورة فنية أدبية، وفي هذا الباب أو الكتاب تدخل موضوعات المعاني والبيان والبديع، لا على أنها علوم مستقلة، بل على أنها فصول في باب الأسلوب يتناول بحوثها كما يتناول غيرها.
1 / 3
الفهرس:
الباب الأول: مقدمات
صفحة
٩ الفصل الأول: في البلاغة بين العلوم الأدبية
اللغة الفصحة والعامية، العامية ليست لغة الأدب الرسمي، الأدب وعناصره، النقد الأدبي والبلاغة والقرق
بينهما، تاريخ الأدب ومقوماته، متن اللغة، وفقه اللغة، والصرف، والنحو، والعروض.
١٩ الفصل الثاني: في التعريف بالبلاغة
البلاغة كما عرفها المسلمون والفرنجة، علوم البلاغة العربية وقصورها، البلاغة وعلم النفس، القوى
النفسية والفنون الأدبية، معنى مطابقة لمقتضى الحال، الوحدة النفسية والوحدة الأدبية.
٢٦ الفصل الثالث: في علوم البلاغة
النحو ومهمته الأولية، المنطق، ووظيفته الأولية، البلاغة تعتمد عليها وتمتاز بالجمال الفني أو المطابقة.
٣٠ الفصل الرابع البلاغة بين العلم والفن
الفرق بين العلم والفن، البلاغة علما، البلاغة والفنون العلمية، البلاغة والفنون الجميلة.
٣٥ الفصل الخامس: موضوع علم البلاغة موضوع البلاغة متصل بغايتها، الأسلوب وعلوم البلاغة العربية،
الفنون الأدبية، نواحي القصور في دراستنا البلاغة، حاجتنا إلى علم بلاغي جديد.
1 / 5
الباب الثاني: التعريف بالأسلوب
٤٠ الفصل الأول: في حد الأسلوب
المعنى اللغوي، رأى ابن خلدون وتحليله، التعريف الاصطلاحي، تعريف عام: تحصل وتقسيم وتعريف.
٤٧ الفصل الثاني: تكوين الأسلوب
الطالب المبتدئ، وتكون أسلوبه. صلته بطلاب الفنون. الكاتب المنتهي وإنشاؤه الأسلوب، ما يلزم
الكاتب.
٥٠ الفصل الثالث: عناصر الأسلوب
الأسلوب العلمي وعنصراه، الأسلوب الأدبي شعرًا ونثرًا، عناصر الأسلوب الأدبي.
الباب الثالث: الأسلوب والموضوع
٥٦ الفصل الأول: الأسلوب العلمي والأدبي
تكوين الأسلوب العلمي، خواص الأسلوب الأدبي، الفرق بينهما، شواهد
٦٢ الفصل الثاني: في أسلوب الشعر
بين الشعر والنثر، خواص أسلوب الشعر: الوزن، والقافية، والكلمات، والصور، والتراكيب، والعبارات.
٧٣ الفصل الثالث: في اختلاف أساليب الشعر
أساس الاختلاف هو اختلاف الانفعالات وطبيعتها، اختلاف
1 / 6
أساليب الفن الواحد، شخصية الشاعر وتأثيرها في ذلك، مظاهر هذا الاختلاف، الانفعالات النفسية
والفنون الشعرية، أساليب الحماسة، والنسيب، والرثاء والمدح والهجاء والوصف.
٩٣ الفصل الرابع: في اختلاف أساليب النثر
النثر العلمي ومقوماته، أساليب المقالة، والتاريخ والسيرة، والمناظرة، والجدل، والتأليف، أساليب النثر
الأدبي: الوصف، والرواية، والمقامة، والرسالة، والخطابة.
الفصل الرابع: الأسلوب والأديب
١٢١ الفصل الأول: تمهيد
الأسلوب هو الموضوع، الأسلوب هو الكاتب، الشخصية والأسلوب، الشخصية الفردية والاجتماعية في
الأسلوب.
١٢٦ الفصل الثاني: الأسلوب والشخصية
التعريف بالشخصية، مظهرها في أساليب القدامى والمحدثين،
مقومات الشخصية، وآثارها الأسلوبية، الأصالة والتقليد.
١٣٧ الفصل الثالث: دلالة الأسلوب على الشخصية
في الشعر، في الخطابة، في الكتابة، في التأليف، شواهد تحليلية للقدامى والمعاصرين.
١٥٧ الفصل الرابع: أثر الشخصية في اختلاف الأساليب
نواحي هذه الدراسة: في العبارة، في مقدار الملاءمة بين اللفظ والمعنى في الصنعة البديعية، شواهد
تحليلية شعرًا ونثرًا.
1 / 7
الباب الخامس: صفات الأسلوب
١٨٥ الوضوح، القوة، الجمال
١٨٦ الفصل الأول: وضوح الأسلوب
معنى الوضوح ومصدره الأول، وضوح الفكرة، وضوح العبارة.
١٩٤ الفصل الثاني: قوة الأسلوب
معنى القوة ومصدرها الأساسي، قوة التصوير، قوة التركيب.
١٩٩ الفصل الثالث: جمال الأسلوب
معنى الجمال ومصدره الأصيل، الناحية السلبية، الناحية الإيجابية
٢٠٢ الفصل الرابع: تداخل الصفات وتعادلها
معنى ذلك، صفات الأسلوب وأنغام الموسيقى، الأسلوب المثالي من هذا الوجه، أمثله.
1 / 8
الباب الأول: مقدمات
الفصل الأول: البلاغة بين العلوم الأدبية
١- ليس من غرضنا في هذه الصفحات أن نعرض للقول في أصل اللغة العربية ونشأتها، وبيان الأطوار الأولية التي تعثرت فيها حتى استقامت، وصارت صالحة للتفاهم بين أفراد الأمة العربية، أو قبائلها المختلفة، تفاهمًا شفويا أو كتابيا.
كذلك ليس من شأننا هنا أن نبحث فيما طرأ على هذه اللغة الفصحى بعد الإسلام من العوامل التي شوهت فصاحتها، وآذت سلامتها في أكثر الألسنة حتى شاع فيها اللحن، وانحط الأسلوب، وأصبحنا بذلك نرى لغتين: أحدهما لغة فصيحة ممتازة يقصد إليها الخاصة حين يتناولون الشئون الهامة: خطابة أو حوارًا أو مرسالة أو تأليفًا. والثانية: لغة عامية، هي لغة السواد الأعظم من هذه الشعوب المستعربة، ولغة الخاصة حين يرجعون إلى الحياة الاجتماعية العادية بين الناس.
أقول: إن ذلك وغيره من أبحاث فقه اللغة وتاريخها، وحسبنا هنا أن نقف حيث نعيش، وعند نهاية هذه الأطوار لننظر في هاتين اللغتين، وماذا عسى أن يصل -أو يفصل- بينها وبين الأدب الرسمي، هذا الذي ندرسه في مراجعه المقررة،
1 / 9
ونحمل الطلاب على تأثره أو الانتفاع به، ونزودهم بالوسائل تعينهم على فهمه وتذوقه، وعلى الإنشاء الأدبي الصحيح.
٢- اللغة العامية هي لغة الحياة العامة، والتعاون الاجتماعي اللازم لسير الحياة السريعة ونظامها المطرد الشامل، وذلك لسهولتها وشيوعها، ولأنها القدر المشترك بين جميع الطبقات، فالكل يعرفها ويلجأ إليها في حرية ويسر، ولما كانت لغة الشعب ومن صنعه فقد أخضعها لحريته، وأزال عنها القيود العلمية والاصطلاحية وأعانها على أداء مهمتها كما تتطلب الحياة الجارية، فصارت لغة مرنة طيعة قابلة للتطور السريع، لا تنفر من لفظ دخيل، أو تركيب غريب، وإنما تقبله وتشربه روحها فيصقله الاستعمال ويصبح مألوفًا مقبولا، ومن الطبعي إذًا أن تختلف هذه اللغات العامية العربية باختلاف الأقطار والأقاليم وذلك لنفس الأسباب التي اختلفت من أجلها اللغات القديمة حين انفصلت من أصولها الأولى.
فأهل مصر لهم عاميتهم، وأهل العراق لهم عاميتهم، وكذلك المغاربة، كما أن لأهل الصعيد لغتهم العامية التي تخالف لغة سكان الشمال، الذين يختلفون هم أيضًا في عاميتهم، باختلاف الأقاليم، ومعنى هذا أن العامية توشك أن تكون هي اللغة القومية لكل قطر من أقطار الشرق العربي، تتأثر بجوه، وطبيعته، ومزاج أهله، وثقافتهم وأخلاقهم، وتعود بذلك سجل حياتهم الصادق وأقدر على تشرب روحهم وتصوير أفكارهم ونزعاتهم، حين عجزت الفصحى أو عجزوا هم عن أن يلبسوها من شخصيتهم ثوبًا قوميًّا طريفًا ممتازًا. لذلك نشأت هذه الدراسات الحديثة التي تعنى بالعامية فتقيد ألفاظها، ونحوها، ولهجاتها، وآدابها نظمًا ونثرًا، إما لأنها طور من أطوار التاريخ اللغوي والأدبي والاجتماعي، وإما لأنها قد تكون أساسا لهذه اللغات الإقليمية التي قد ينتفع بها فيما بعد كما يرى بعض المفكرين.
1 / 10
ومع ذلك لا تعد العامية لغة رسمية ولا يعد أدبها أدبًا رسميًّا يدرس على أنه مقرر يحتذيه المتعلمون لسببين اثنين:
أحدهما: شيوع الخطأ اللفظي والخروج على قوانين النحو والتصريف وعدم التحرج في قبول كل دخيل أو أعجمي من الألفاظ والتراكيب، حتى هجر فيها النحو العربي، وخضعت العبارات لصور أجنبية في تأليف الجمل، وتكوين الأساليب.
ثانيهما: ما غلب على معانيها من التفاهة والعرف، فأغلبها أوامر ونواه وأخبار عادية تتصل بالحياة الجارية، وتتكرر كل وقت، وكل يوم مما لا يستحق درسًا أو تقييدًا: والأدب يجمع بين أمرين:
١- صحة اللفظ.
٢- وقيمة المعنى أو سموه، حتى يستحق أن يسمع أو يقرأ في كتاب.
وليس معنى هذا خلو العامية من الألفاظ الصحيحة أو المعاني القيمة، كلا، فاللغة العامية هي الفصحى طرأت عليها أخطاء، ودخلت عليها تراكيب، لم تستطع أن تمحو صوابها كله، كذلك نجد فيها فنونا أدبية من النثر والنظم -كالجدل والحكم والأمثال والأغاني والمواويل والأزجال- تجعلها معرضا لكثير من المعاني والموضوعات الأدبية القيمة، ولكنها من الأدب الشعبي على أية حال. ولسنا بذلك ننكر قيمة هذا الأدب في جماله وتصويره حياة الشعوب لذلك قامت له دراسات خاصة تقابل دراسات الأدب الفصيح.
٣- أما اللغة الفصحى، التي لم تشوه بهذه الأخطاء اللفظية، فهي لغة الأدب الرسمي، يعتمد عليها الكتاب حين يريدون التعبير عن الأفكار أو تصوير الشعور؛ أو تأليف المسائل والآراء العلمية إذا كانت الفن الكلامي الذي يؤدي ما في النفوس من ثرات العقول ونوازع الانفعال والميول، فإذا حاولنا الظفر بمثال
1 / 11
للأدب بحثنا عنه في المؤلفات المدونة باللغة الصحيحة، مهما يكن نوع هذا الأدب خاصا أو عاما؛ وليكن قول المتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
وأن ترد الماء الذي شطره دم ... فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم
ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روى رمحه غير راحم
فلا هو مرحوم إذا ظفروا به ... ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
فأول ما يلقانا من هذا المثال هو "عاطفة" أو انفعال السخط والعدوان الذي سيطر على نفس الشاعر فأنطقه بهذه الأبيات القوية الثائرة التي حشد فيها الظلم والدم وأنكر الإنصاف والتراحم. وهذه العاطفة نفسها قد سندتها فكرة هي لها كالبرهان المنطقي، فالجهل حتى إذا لم ينفع الحلم، والجهاد الأحمر واجب إذا لم يكن منه بد لتحقيق الرغبات، فالحق للقوة، والناس لا يؤمنون إلا بالرهبة، والويل للضعيف إذا هان.
وهنا وقد ظفرنا بعنصرين من عناصر الأدب: العاطفة Emotion والفكرة Thought وبعد هذا نلاحظ أن هذه العاطفة القوية احتاجت في تصويرها هنا إلى عناصر وفنون بيانية من التشبيه، والاستعارة، والكناية، وذلك لعجز اللغة العادية عن تصوير القوة الانفعالية في نفس الشاعر فاحتال وكون من هذه العناصر الحربية لغة فنية هي كفاء ما في نفسه من شعور، فهذه الصور تؤلف عنصرًا ثالثًا هو الخيال Imagination وهو لازم في كثير من الأحيان للتعبير عن العاطفة.
وأخيرًا نجد العبارة اللفظية التي قد تسمى الأسلوب Style وهي الوسيلة اللازمة لنقل أو إظهار ما نفس الأديب من تلك العناصر المعنوية فصار الأدب ينحل إلى هذه العناصر الرئيسية الأربعة؛ وهذا التحليل نفسه يتوافر في النثر كما توافر
1 / 12
لاحق، والأدب فن إنشائي إيجابي ينتج هذه القطع الممتازة التي نظفر بها بصدق الشعور وحسن التفكير والتعبير، ولكن النقد فن وصفي سلبي في أصله، يقوم بمحاسبة الأدب المنشئ، وكثيرًا ما يستحيل فنًّا نافعا يرشد الأدباء كما تقوم بذلك البلاغة.
وقد زها النقد الأدبي منذ العصر الجاهلي وتواردت عليه فيما بعد جهود النحاة واللغويين والأدباء١، وألفت فيه كتب شتى تجمع مسائل مختلطة بغيرها من مسائل النحو والبلاغة والسير والأنساب. وكان الذوق هو الحكم الأول في ناحيته الفنية وإن حاول بعض المحدثين أن يضعوا له قوانين عامة تشبه القوانين العلمية٢.
٥- ولقد كان النقد الأدبي من أهم العوامل في إيجاد البلاغة وذلك أن هذه الملاحظات والأحكام النقدية أفادت جماعة العلماء فأحالوها قوانين وأصولا، ودونوها في فصول مختلطة بالنقد حينًا ومنفصلة أخيرًا، حتى كان أساسًا صالحًا لتكوين قواعد بلاغية قامت بوظيفتها فيما مضى وهي الآن آخذة في الاكتمال لعلها تنهض بالواجب عليها من الآن.
ومن يقرأ المؤلفين في هذا الباب من عهد الجاحظ المتوفى سنة ٣٥٥هـ، وابن المعتز ٩٣٦هـ، وقدامه ٣١٠هـ، والعسكري ٣٥٠هـ، وعبد القاهر الجرجراني ٣١٧هـ، والثعالبي ٤٢٩هـ، وابن رشيق ٤٦٣هـ، إلى الزمخشري ٥٣٨هـ، والسكاكي ٦٢٦هـ. يتراءى له مما قلنا من أن النقد كان عاملا هاما في هذا التقنين البياني: وأن هذين العلمين -أو الفنين- قد عاشا مختلطين لم ينفصلا إلا بعد جهد عنيف: وهذا الاختلاط بين مسائلهما طبعي ما دام موضوعهما واحدًا هو النصوص الأدبية من حيث توافر الجمال والتأثير. فالبلاغة ترشدنا بقواعدها
_________
١ تاريخ النقد الأدبي عند العرب للمرحوم الأستاذ طه إبراهيم.
٢ أصول النقد الأدبي للمؤلف.
1 / 14
بقواعدها إلى الطرق والوسائل التي تجعل كلامنا نافعًا مؤثرًا والنقد يضع لنا المقاييس العامة التي نقدر بها ما في الكلام من فائدة أو قوة أو جمال. ومع ذلك فيمكن الفرق بينهما من وجهين:
الأول:
إن البلاغة أقرب إلى الناحية الفنية الإيجابية ما دامت قواعدها ترشدنا إلى الإنشاء الصحيح، وإلى الطرق المختلفة لتأليف الكلام الممتاز بالإفادة وقوة التأثير، وإلى نوع الفن الأدبي الذي يكون أوفق من سواه لمقتضى الحال.
وأما النقد فإنه يفرض أن الكلام قد تم إنشاؤه، وانتهى منه صاحبه، ثم يعرض علينا مقاييسه العامة التي نقيس بها الكلام لبيان قيمته الفنية والحكم له أو عليه فهو متأخر الوظيفة، يُعنى كما قلنا، بمحاسبة الأديب بعد أن ترشده البلاغة إلى حسن التعبير.
الثاني:
إن البلاغة تعنى أكثر ما تعنى بالأسلوب. فهي كذلك تفرض أن الكاتب لديه ما يود أن يقوله أو يكتبه من المعاني والأفكار أيا كانت قيمتها أو درجتها، من السمو أو الضعة، ثم ترسم له خطة الأداء قولًا أو كتابة: ولكن النقد يتناول الاثنين: المعاني والأساليب فيسأل عن صحة المعاني وقيمتها، ومقدار آثارها في القراء أو السامعين، ثم يتبين في الأسلوب -ولكن من ناحية عامة- مقدار ما فيه من الوضوح والقوة والجمال. وهنا نلاحظ أن دائرة النقد أوسع، وإن كانت قوانين البلاغة أدق من مقاييس النقد الأدبي كما يمر بك بعد حين١.
٦- هذا الأدب الذي أشرنا إليه كثيرًا ما يجاوز الباحثون نقده إلى معارف
_________
١ راجع winehestsr principles of Ligerary Crtieism p١٦
1 / 15
ومحاولات عدة تزيد جوانبه إيضاحًا وتعلل كثيرًا من مظاهره الأخرى فتجدهم مثلا يقفون عند الأدب الجاهلي، ويدرسون فنونه المختلفة ويحللون نصوصه إلى عناصرها، ويلاحظون على هذه الفنون والعناصر ملاحظات تتصل بسذاجتها، أو قوتها، أو شدة اتصالها بالبادية أو الحياة الصحراوية الفقيرة المضطربة، ثم يستخلصون من ذلك البحث الشامل العميق أحكامًا عامة تدون في فصول منسقة هي تاريخ الأدب الجاهلي، ومثل ذلك يقال في العصر الأموي والعباسي والعصر الحديث، ترى لكل عصر خواصه الأدبية، والمؤثرات المختلفة -العلمية والفنية والاقتصادية، والسياسية، والدينية، والشخصية- التي أكسبت الأدب هذه الخواص فامتاز بها من سواه وصار عصرًا أدبيًّا مستقلًّا عن سائر العصور، ونتائج هذه الأبحاث هي تاريخ الأدب الذي يمكن تعريفه بأنه بيان المشخصات الأدبية لكل عصر مع شرح أسبابها، ومن هنا نعرف أن تاريخ الأدب ليس قصصًا وأنسابًا ونوادر، وإنما هو نقد وتحليل وتعليل، شأنه شأن التاريخ الطبيعي حين يتناول الكائنات بالتحليل والتفسير والموازنة والاستنباط ليصل عن ذلك إلى أحكام عامة تكون التاريخ، وكذلك الشأن في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كله نقد وتنسيق لا قصص وأساطير وعلى هذا الأساس قام الخلاف حول التاريخ أعلم هو أم أدب؟ فمن نظر إلى المسائل الواقعية التي يتناولها ويدرسها رأى فيه علما له حقائقه ونتائجه؛ ومن نظر إلى تدخل الشخصية ووجهة النظر في تصور الحوادث وتصورها قرر أنه أدب، والحق أنه أدب بالمعنى العام أو علم بالمعنى العام ففيه من كل شيء يقفه هذا الموقف الوسيط: ومما تقدم نستطيع استخلاص النتائج الآتية:
الأول: أن الأدب فن خالص، وهو من الفنون الجميلة التي تعتمد على الجمال في التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره، أو عن شخصيته الفنية، ولكن تاريخ الأدب يجمع بين الناحية الفنية التي يلجأ إليها المؤرخ حين يحلل الأدب ويتبين خواصه
1 / 16
خواصه الجميلة أو غيرها وبين الناحية العلمية التي تعنى بالتعليل والموازنات، واستنباط الأحكام، ولذلك سموا الأول أدبًا إنشائيًّا أو أدبًا بالمعنى الخاص، وسموا الثاني أدبًا وصفيًّا أو أدبًا بالمعنى العام.
الثانية: أن النقد الأدبي كما رأيت جزء من تاريخ الأدب، أو هو أداته الرئيسية فعليه يعتمد المؤرخ قبل كل شيء ما دام يتعمق في درس الأدب وتحليله، وبيان خواصه التي يتخذها دارس التاريخ الأدبي موضوعا لعمله الوصفي الشارح، ثم يلجأ إلى المؤثرات الشخصية أو الجغرافية، أو السياسية، أو الدينية التي أكسبت الأدب ميزانه الخاصة.
الثالثة: أن علم البلاغة نافع للأديب، والناقد، والمؤرخ، ولكل كاتب، أو متكلم، أو خطيب، أو مدرس، فإنه ينير أمام هؤلاء جميعًا، ويعينهم على أن تكون آثارهم اللغوية مفيدة، مؤثرة، ممتعة، تغذي العقل والشعور والأذواق وإن كان التشريع للأدباء غير مقبول دائمًا الآن.
٧- وهناك علوم أدبية أخرى لا بد للأديب من الإلمام بها إلمامًا كافيًا ليقي نفسه شر الأخطاء في التعبير: اللغة، والصرف، والنحو، والعروض ونريد باللغة شيئين: متنها، وفقهها، فمتن اللغة كلماتها، وأمثالها، وحكمها، وعباراتها الاصطلاحية ولتلك معاجمها ومراجعها، ولسنا ندعو إلى حفظ ذلك واستيعابه فهو عسير أو مستحيل على أن تحصيله من قراءة النصوص أنفع لبيان المواقع المناسبة لاستعمال الكلمات والحكم والأمثال ولتفهم معانيها الواضحة الدقيقة مما يحيط بها من العبارات والمناسبات، وفقه اللغة تاريخها وفلسفتها، ومن النافع للأديب أن يعرف كيف نشأت اللغة وانفصلت عن أصلها القديم، وتكونت ببيئتها الخاصة وكيف تأثرت وانتقلت عبارتها من الاستعمال الحقيقي إلى المجازي وما هي وسائل إكثارها وضعًا أو تعريفًا أو توليدًا أو نحتًا فذلك أليق به وأنفع
1 / 17
له وبخاصة إذا كان مؤرخا أو ناقدًا، والصرف يفيد في التصرف في الكلمات تبعًا للمعاني المتباينة كما بقي الأديب الخروج عن الأصول المرعية حين التصرف والتصريف بالجمع والتصغير والنسب والإبدال والتوكيد وبناء المشتقات، وأما النحو فمهمته تصحيح التراكيب والعبارات متخذًا المعاني الجزئية مقياسه لذلك يظهر أثره الواضح في حسن التأليف وسلاسة العبارة والحرص على دقة المعنى ووضوحه، فالنحو لا يقف عند حركات الإعراب بل يشمل موسيقى العبارات ومنطق المعاني، والأذن تتأذى من الأخطاء النحوية. كما يتأذى العقل من التعقيد اللفظي والمعنوي جميعًا والعروض للناظم هو مقياسه الموسيقى والخطأ العروضي كالخطأ النحوي فهذه التفعيلة التي تتكرر في السطر تحفظ وحدته الوزنية ثم تحفظ وحدة البيت حين تتكرر في سطره الثاني، وتكرار الوزن في كل بيت يحفظ للقصيدة وحدتها الموسيقية، كما أن وحدة القافية ضبط لهذه النعمة الأخيرة التي تنتهي بها الأبيات جميعًا، هذا هو الكثير الشائع فإذا تركناه إلى تعدد البحور والقوافي لم نعدم الموسيقى العروضية، وإنما نكون قد ظفرنا منها بتنوع لا يرفضه الذوق على الإطلاق.
٨- هذه هي العلوم الأدبية المباشرة أجملنا القول فيها لبيان مكانة البلاغة بينهما، ولهذه الصلات التي تربطها بالأدب ربطًا قويًّا مباشرًا لا يليق بالمتأدب تجاهله، على أن الأدب والأديب لا يكتفيان بما ذكرنا هنا، بل لا بد لكمالها من هذه الثقافة العامة التي قال عنها الأقدمون إنها الأخذ من كل فن بطرق١، وهذه الثقافة تتناول الفلسفة والتاريخ والدين والقانون والفنون الجميلة وغيرهما؛ إذ إن الأدب يختصرها في نصوصه، والأديب يحتاج إليها منشئًا أو ناقدًا أو مؤرخًا كما سبق بيانه وقد عقد ابن الأثير في صدر كتابه المثل السائر فصلًا في آلات علم البيان وأدواته يحسن الرجوع إليه لمن أراد.
_________
١ راجع مقدمة ابن خلدون فصل: علم الأدب.
1 / 18
الفصل الثاني: في التعريف بالبلاغة
المشهور في كتب البلاغة١ أن البلاغة لغة تنبئ عن الوصول والانتهاء، يقال: بلغ فلان مراده إذا وصل إليه، وبلغ الركب المدينة إذا انتهى إليها، واصطلاحًا: تكون وصفًا للكلام والمتكلم؛ فبلاغة الكلام مطابقته لمقتضى الحال، والحال هو الأمر الداعي للمتكلم إلى أن يميز بكلامه بميزة هي مقتضى الحال فإنكار المخاطب للمعنى حال يقضي أن تؤكد له الجملة فتقول: إن محمدًا ناجح، وذلك التأكيد هو مقتضى الحال. وبلاغة المتكلم ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ في أي معنى قصد، والبلاغة هذه تستلزم أمرين:
الأول: احتراز الخطأ في تأدية المعنى المقصود خوفا من أن يؤدى بلفظ غير مطابق لمقتضى الحال فلا يكون بليغا.
الثاني: تمييز الكلام الفصيح من غيره حتى نضمن سلامة العبارة من الخطأ والتعقيد، فمست الحاجة إلى علمين لتحقق سلامة اللفظ من ناحية، ولملاءمته لمقتضى الحال من ناحية أخرى؛ الأول علم البيان والثاني علم المعاني: وقد يسميان بعلم البلاغة لذلك، ولما كان علم البديع يعرف به وجوه تحسين الكلام جعل تابعًا لهذين العلمين فصارت مباحث البلاغة منحصر في هذه الثلاثة: المعاني والبيان والبديع.
_________
١ راجع شروح التلخيص ج١ ص٧٣ مطبعة السعادة بمصر.
1 / 19
أما هذه التعريف فلا اعتراض لنا عليه في جملته؛ إذ كانت البلاغة في أصح وأحدث معانيها لا تخرج عما أورده هؤلاء الأقدمون من الناحية النظرية الإجمالية يقول الأستاذ Genung: "البلاغة فن تطبيق الكلام المناسب للموضوع وللحالة على حاجة القارئ أو السامع"١ فتجد أن الحدود واحدة في جوهرها وإن لوحظ في الأخير هذه الناحية العلمية في صراحة واضحة، ولكن المسألة هي: كيف فهم علماء البلاغة عندنا معنى المطابقة أولًا؟ وما الوسائل التي اعتمدوا عليها في دروس البلاغة لتحقيق هذه المطابقة ثانيا؟ وما هذه العلوم البلاغية ثالثا؟
إذا وقفنا عند هذه المسائل التي انتهت إليها أبحاثهم رأيناهم يذكرون أن خطاب الذكي يخالف خطاب الغبي، وخطاب الموقن غير خطاب المتردد، وعلى هذا الأساس غالبا، تقوم المطابقة لتغذية قوة الإدراك ووسيلة ذلك التصرف في الجملة وعناصرها، خبرًا وإنشاءً، فصلًا ووصلًا، تعريفًا وتنكيرًا، ذكرًا وحذفًا ثم الاختلاف بين التشبيه والمجاز والكتابة مما لا يتجاوز كله دراسة الجملة والصورة دراسة قاصرة، ومعنى ذلك أمور ثلاثة:
١- غاية البلاغة فيما يبدو من هذه الدراسة العلمية يغلب عليها الاتجاه إلى القوة الفكرية وإقناع العقل إقناعًا جزئيًّا قائمًا على ذكائه أو بلادته وعلى شكله أو إنكاره.
٢- ووسيلة ذلك الصورة -التي تختصر علم البيان وقسما من البديع- والجملة الخبرية والإنشائية، وقد دُرستا في علم المعاني من بعض النواحي لا غيره.
_________
١ راجع Genung The Working principles of Rhetoric.
1 / 20
٣- وعلم المعاني هو الكفيل بدراسةالجملة عندهمه، كما أن البيان يدرس الصورة تشبيهًا ومجازًا وكناية، وأما البديع فقد عدوه شيئًا ثانويًّا لا دخل له في صميم البلاغة لأنه قائم على دراسة طرق التحسين الذي يلحق بالكلام، كالسجع، والجناس، والمقابلة، وأسلوب الحكيم، والتقسيم وما إلى ذلك مما يعرف بالمحسنات اللفظية والمعنوية.
أما عن غاية البلاغة فليس المراد من الكلام وقفًا على تغذية الفكر وحده فهناك قوي نفسية أخرى تعني بالبلاغة بها لتغذيتها وتهذبها، من ذلك قوة الانفعال وقوة الإرادة. ولا نقول إن الأدب العربي قصر في ذلك، وإنما نقول إن الدراسة النظرية فيما انتهت إليه هي التي ضاقت عن العناية بهذه المواهب النفسية كما يتضح ذلك مما يلي:
وأما عن الوسيلة فلم تكن اللغة العربية محصورة في الصورة الجملة وحدها فهناك الحرف والكلمة والعبارة والأسلوب عامة، وهناك هذه الفنون الأدبية المختلفة شعرًا ونثرًا كالخطابة، والرسالة، والوصف، والجدل، وغيرها مما أهملته هذه الدراسة -أو العلوم البلاغية- في اللغة حسبما انتهى إليه وضعها الأخير.
لنفهم المطابقة لمقتضى الحال فهمًا عميقًا شاملًا يجب أن نقيمه -من حيث الغاية والوسيلة- على طبيعة النفس الإنسانية ومواهبها من ناحية، وعلى الأدب: أسلوبه وفنونه المختلفة من ناحية أخرى.
علم النفس ينفعنا هنا، ويعاون مع النقد الأدبي والبلاغة في تفسير مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وفي بيان موضوع دراسة البلاغة بيانًا مفصلًا منظمًا، فكيف نوضح ذلك.
_________
١ المرجع السابق ٢.
1 / 21
١- هناك أولا قوة الإدراك The power of intellect تلك القوة التي بها يعرف الإنسان ويفكر ويعلل ويستنبط، وهذه القوة تحتاج في ثقافتها والتأثير فيها إلى الحقائق الصحيحة المعقولة بالبراهين الصادقة، ومعنى المطابقة بالنسبة لهذه القوة تمكين القراء والسامعين من إدراك المعاني وفهمها والاقتناع بها وهي القوة التي تغلب على رجال العلم، والفلسفة والسياسة، ويشتد سلطانها أيام الاستقرار وفي البيئات الخصبة الغنية. وأما الكلام الذي يلائم هذه القوة فهو النثر العلمي أو الأدب بالمعنى العام، كالتاريخ والنقد والعلوم والفلسفة: من كل ما يزود بالحقائق الحيوية النافعة.
٢- قوة الانفعال "العاطفة" The power of emotion: وبها يشعر الإنسان ويتخيل، وهي الظاهرة التي تتحكم كثيرًا في حياة الشبان والفنيين والنساء وتوقظها البيئات الجميلة والمواقف العنيفة، والحوادث القوية وأيام الثورات، والكلام الذي يتجه إلى العاطفة يجب ألا يقف عند إفهام الحقائق، بل لا بد من إيقاظ الشعور وبعث الخيال وذلك هو الشعر والنثر الأدبي الممتاز، كالقطع الوصفية، والرسائل الشاكية أو الغزلية والقصص القيمة، والروايات المؤثرة، مما يسود فيه عنصر العاطفة.
٣- ثالثًا قوة الإرادة The power will: وهي القوة العملية التي يعتمد عليها الإنسان في تنفيذ ما يعتقد، وفي الاتصال العملي بالحياة والكلام الذي يلائم هذه القوة يجب أن يجمع بين أمرين: الإفهام والتأثير، عن طريقي الإدراك والوجدان، وبذلك يدفع الإنسان إلى العمل ويؤثر في سلوكه وأخلاقه، وهي كما تعلم موهبة الجند والقواد، ورجال المغامرات، وذوي المذاهب والآراء الحديثة، وأكثر ما تلزم أيام المحن والانقلاب. والخطابة هي الفن الكلامي
1 / 22
الذي يعد أنسب الفنون لقوة الإرادة، ولذلك تعد فنًّا عمليًّا، وهي تجمع بين قوتي الإقناع والتأثير الذين يدفعان الإرادة إلى العمل الحاسم.
وهنا نرى أن معنى المطابقة البلاغية قد اتسع فتناول مظاهر النفس الإنسانية ومواهبها المختلفة، كما اشتمل على الفنون الأدبية جميعًا، ولاحظ فوق ذلك الزمان، والمكان، والنوع الذي نتحدث إليه، وإذا تقدمنا قليلا فلاحظنا الفرد ومواهبه الخاصة، والأساليب وعناصرها التفصيلية، وأنواعها المتعددة تراءى لنا هذا المدى الواسع الذي تنبسط فيه الناحية التطبيقية لفن البلاغة، وأدركنا إدراكًا صحيحًا، ما قيل إن المتكلم مع المخاطب كالطبيب مع المريض يجب أن يفحصه فحصًا دقيقًا، وأن يفرض له من الدواء -أو الكلام- ما يلائمه وإلا أضر به، ونقول إن البليغ مع المخاطبين كالقائد أمام الحصن يجب أن يهاجمه من حيث ينتظر الظفر، وبالسلاح الذي به يفوز.
وإتمامًا لهذه المسألة نقول: من المقرر الثابت في علم النفس أن هذه القوى المعنوية ليست منفصلة إحداها عن الباقي في الطبيعة النفسية، بل هي خاضعة لنظرية الوحدة الروحية؛ فهي مظاهر تتوارد على نفس الإنسان حسب الدواعي والمؤثرات، فالإنسان مرة يفكر بنفسه، وأخرى منفعل بها، وثالثة مريد معتزم والنفس هي هي، إلا أنها تلبس لكل حال ثوبًا يناسبها، وهي مع ذلك متواصلة متعاونة، فالفكر يشد أزر العاطفة، وهي توقظه، وهما يبعثان الإرادة، ويندر أن توجد فكرة لا تثير عاطفة ولا تحرك إرادة، ومثل ذلك يقال عن الفنون الأدبية التي تغذي هذه المواهب النفسية، وهذا بيان ما تريد:
١- فليست هذه الفنون متضادة بحيث لا يلتقي فن بالآخر ولا يصل إليه بسبب، كلا، فكل فن منهما يتصل بالباقي أشد الاتصال؛ إذ تتألف من عناصر واحدة هي اللفظ والمعنى الذي ينحل إلى العاطفة والخيال والفكرة، وإن كانت تتفاوت في مقدار ما يحويه كل منهما من هذه العناصر تفاوتًا يقوم على طبيعتها
1 / 23
وغايتها، على أنها جميعا تصدر عن الإنسان وترمي إلى تهذيبه كذلك، وقد رأيت أنها جميعًا تندرج تحت هذا المعنى العام لكلمة الأدب.
٢- كذلك لا تتعارض هذه الفنون من حيث صلتها بقوى النفس الإنسانية فالخطابة مثلا تغذي الفكر والعاطفة وإن كانت تتجه إلى الإرادة اتجاها أساسيًّا مقصودًا لذاته، فهي تستخدم هاتين القوتين لتنفذ خلالهما إلى الإرادة لتبعثها وتحمل صاحبها على العلم، كذلك الشعر يؤثر في الفكر والإرادة مباشرًا وغير مباشر، لما فيه من الحقائق والعواطف، وبخاصة إذا كان شعرًا خطابيًّا تهذيبيًّا، والنثر العلمي يتجه بحقائقه مباشرة إلى الفكر، ولكن الحقائق عماد العاطفة وسبب قوتها وصدقها، وهي كذلك أساس العقيدة التي تتكئ عليها الإرادة ونتيجة ذلك أن أي هذه الفنون يؤثر في قوى النفس جميعا وإن تفاوتت الآثار بتغير الفنون فهي متعاونة متواصلة شأن القوى النفسية ذاتها.
٣- ويقال نحو ذلك بالنسبة لطبقات الناس وبيئاتهم، فكما أن هذه الطبقات الإنسانية -مهما تختلف مواهبها في الدرجة- ذات وحدة روحية أو نفسية عامة، وبينها قدر مشترك منها مهما تتباين بها الأزمنة والأمكنة، كذلك الفنون الأدبية، يجد كل نوع بل كل فرد في أي نوع منها ناحية تغذي نفسه وتؤثر فيه، فالناس جميعا لهم عقول، وعواطف، وعزائم، والفنون فيها ما يفيد المرأة ويثير الرجل، وفيها ما ينفع الشاب ويهيج الفيلسوف، وفيها ما يشجي الجنيد ويستفز الحليم، إذا كان الأدب صادرًا عن الإنسان ومتجهًا إلى الإنسان.
٤- وسنرى في غضون هذا البحث أن صفة القوة ألزم للأسلوب الحضاري، والوضوح أظهر في الأسلوب العلمي، والجمال أخص صفات الأسلوب الأدبي، فليس معنى ذلك أن الخطابة تستغني عن الوضوح أو الجمال وإلا فلن تفهم، ولن يحتملها الناس، فتفقد إقناعها وتأثيرها، وبذلك لا تتحقق غايتها العملية،
1 / 24