فكدت أنصرف عنه بغير جواب لولا أن غمزني كمال الدين في ذراعي، ففهمت قصده وسرت إلى جانب الأمير، وسار كمال الدين عن يساري، وأبى الناس إلا أن يشيعوني حتى أبلغ القصر، فساروا في موكبهم الصاخب يجهرون بذكر الله حتى بلغنا الساحة الفسيحة.
وأشار إلي الرسول أن أدخل. فنظرت إلى كمال الدين ثم نظرت إلى الأمير وقلت له: «أما يدخل معي صديقي؟»
فقال الأمير وهو يحني ذنبه: «كما تشاء.» وتقدم راشدا.
فنظرت إلى الأمير وإلى الصرة التي في يدي وقلت: «ولكني لم ألبس خلعة البادشاه.»
فقال وهو ضجر: «لا بأس عليك، فادخل في ثيابك.»
فلم أجد بدا من الطاعة، وأعطيته الصرة قائلا: «احفظ لي هذه معك.» فمد يده كارها وأخذ الصرة وقال لي في شيء من العنف: «هلم إذن.» فأخذت بيد كمال الدين ثم نظرت إلى الجمع فسلمت عليهم ودعوت لهم بالخير، وانطلقت في سبيلي إلى ما بين عمد القصر. وكانت دعوات الناس تشق الفضاء وتلاحقني حتى دخلت، وشعرت برهبة عندما رأيت مطالع الأبهاء، وفكرت فيما أنا صانع في حضرة العظماء، فما تعودت أن أجالسهم، وما كنت لأعرف كيف أحدثهم أو أؤاكلهم، ولم أجد من يرشدني غير صديقي كمال الدين. فهمست في أذنه: «كن إلى جانبي، فإذا رأيت مني خطأ فاجذب جبتي.» فهز رأسه منعما، وسرنا حتى دخلنا البهو. وكان فيه خوان فسيح لا يدرك البصر مداه، ولا تحصر العين ما علاه: ألوان من زهر، وصحاف من فضة وذهب، وأكواب من البلور، وفوط من الكتان الناصع، وطنافس من الصوف الوثير، وزينة أخرى لم أر مثلها ولا أعرف أسماءها، وكراسي كأنها رصعت بلؤلؤ عليها رجال كالتماثيل، يلمع فوقهم الحرير ويفوح من لحاهم العبير، وقد توسط تيمور الصدر في عمامة ذات زخرفة وجوهر، وثياب وهاجة وحلي متلألئة براقة، وكان ينظر نحوي بعينه وجرحه، من تحت جبهة ناتئة، وحاجبين مائلين صعدا. وكانت لحيته سوداء خفيفة، وفمه أشدق يكاد اللعاب يسيل من جانبه، فوقفت أنظر إليه حينا وأعجب من قدرة الله الذي جعل هذا سيدا للناس. وجذبني كمال الدين من جبتي، فالتفت إليه فوجدته يومئ إلي أن أسير لأجلس حيث كان تيمور يشير. فذهبت إلى الكرسي الذي أشار إليه في جواره وجذبت كرسيا آخر وأشرت إلى كمال الدين أن يجلس عليه. ولم أدر ما الذي حمل صاحبي على أن يجذب جبتي عند ذلك، ولكنه جلس عندما أشار إليه تيمور، وقد كنت أتمثل تيمور كبعض النمور أو الفهود، له أنياب ومخالب وزئير وزمجرة، ولكني لم أجده في الحق إلا رجلا أو نصف رجل، فلم ألبث أن حللت عقدة وجهي، وفككت حبسة لساني، ووجدت نفسي أكلمه كما أكلم الناس، بل لقد جعل يؤنسني بقوله، ووجدته يضحك أحيانا، ويدرك من المعاني ألوانا. ولست أنكر أنني لم ألبث أن نسيت حنقي عليه وسوء ظني به، وأقبلت عليه طيب النفس منشرحا. وتلطف بي، فكان يمد يده إلي بقطع مختارة من طرف الطعام، وكنت في الحق جائعا، فوجدت في الأكل لذة لم أعهدها ولم أعرفها. وكان حياله طبق فيه فاكهة تأخذ العين بجمال منظرها، ولست أعرف لعلها كانت من بعض ما حمل إليه من أطراف الصين أو من غوطة دمشق، فمد يده إلي بواحدة كانت لها رائحة لا يشبهها ريح المسك والعنبر، ولا يدانيها لون الورد الأنضر. فرفعتها لأمتع نفسي من شميمها، ثم قضمت منها قضمة كأنها الشهد في مذاقها، وكدت أقضم منها أخرى لولا أن جذبني كمال الدين من جبتي، فأمسكت على مضض، ونظرت نحوه بمؤخر عيني، فهمس لي قائلا: «هدية الملوك لا تؤكل ...»
فعجبت من قوله؛ لأن الله إنما خلق هذه الفواكه اللذيذة لنأكلها ونشكره على جزيل نعمه، ولكني لم أجد حيلة في نصيحة صاحبي؛ فهو أعلم بما كان ينبغي لي أن أفعل في مجالس الملوك. فوضعت الفاكهة في حجري وانصرفت إلى بقية طعامي، وشعرت بارتباك كاد يفسد علي غدائي. ولكن تيمور مد يده إلى ورك ديك سمين فقدمها إلي وهو باسم، فأخذتها من يده وشكرته في أدب مقلدا حركة من حولي في تحاياهم، ثم أمسكت الورك بيميني في سكون، ولم أستطع أن أمد يدي إلى شيء آخر. فجذبني كمال الدين من جبتي فالتفت إليه مستفهما، ولكني قبل أن أسمع همسته سمعت تيمور يسألني: «لم لا تأكل ما أعطيتك؟» فالتفت إليه في أدب وقلت معتذرا: «أيها البادشاه، ما كانت هدايا الملوك لتؤكل، وهذا صديقي يجذبني من جبتي.»
فضحك تيمور حتى بدت نواجذه، ومال على ظهره حتى اهتزت لحيته، وأغمضت عينه. وسمعت كمال الدين يهمس: «هذه ورك تؤكل.» فرفعت بها يدي فأكلتها وأنا في حيرة شديدة لا أعرف ماذا يطلع به صاحبي علي مع كل لقمة. ولكن تيمور تبسط في محادثتي، واشترك من حول المائدة في التلطف بي، حتى سري عني، وتركت النظر إلى مشورة صديقي، وأقبلت على المائدة آكل كما يريد الله للناس أن يأكلوا حتى امتلأت، وأمتعت نفسي بكل الطيبات. وقضيت عند تيمور بعد الغداء ساعات في شجون الحديث، كأنني لم أكن في صباح ذلك اليوم ملقى في سجنه.
أيتها الأقدار العجيبة!
وكان الشعراء عند الباب ينتظرون الدخول، فلما صلينا العصر أذن لهم تيمور بالدخول وجلس في البهو الأعظم، وجلس الأمراء والأعيان من حوله في وقار وقد وضعوا أيديهم على الصدور، وأمالوا رءوسهم على النحور، حتى مست لحاهم أحزمتهم الحريرية أو الذهبية. وأقبل الشعراء واحدا بعد واحد، وجعلوا يتغنون بالسيد الأعظم ويصفون جمال هيئته وشدة هيبته، وسيفه ورمحه، وقوة ساعده ورقة قلبه، وكان منظرهم في الحق مسليا؛ إذ كانوا يتمايلون ويهتزون، وينظر كل منهم بمؤخر عينيه إلى الناس ليرى أثر قوله على الوجوه. مساكين هؤلاء! جعلت كلما سمعت من أحدهم معنى أتأمله لأرى صدقه، فإذا سمعت وصف جمال تيمور نظرت إلى وجهه، وإذا سمعت وصف قوته صوبت بصري في جسمه وصعدته، وإذا سمعت وصف سيفه ورمحه التفت إليه لأرى هل معه من ذلك آلة، فلم أجد من كل ذلك إلا كذبا حتى فرغ الشعر، وهز تيمور رأسه مرتاحا، وأذن للشعراء أن ينصرفوا، ثم أشار إلى رجل قائم عند رأسه، فانصرف وراءهم، ولا أدري بم أمره، أبعقابهم على الكذب أم بثوابهم على الرياء. ولأمثال تيمور حرص على مثل هذه الأقوال المنمقة والصور المخترعة؛ فهي تستقر في العقول لا يزعزعها من بعد شيء، ومثل هذه الأقوال قد زيفت على الناس معنى العظمة، وأفسدت معنى الكرم والعدالة، وجعلت من العقلاء الأبرار عبيدا في الأغلال. وليست هذه أول مرة رأيت فيها أثر الألفاظ في الناس؛ فقديما كان الإنسان أسيرها.
अज्ञात पृष्ठ