وكانوا في شغل ينظرون إلى النهر ويتحاورون كيف يجتازونه، فما كادوا يسمعون صوتي حتى ارتفعت منهم صيحة فزع وتفرقوا يلتمسون السبل كأنهم قطيع من شياه طلع عليهم ذئب كاسر. ورمى الحمالون النعش في عنف حتى أحسست عظامي تقعقع، فإذا بالمكان يخلو فلم يبق فيه إلا صديقي أبو النور وواحد من القراء كان لا يستطيع جريا.
فأخذ أبو النور يفك عني أكفاني بأنامل مضطربة من الفرح وهو يقول: لم يصدق قلبي أنك مت حقا.
وبعد قليل سكنت صدمة الخوف عن الناس فعادوا نحوي ولهم ضجيج وعجيج، يقذفونني بوابل من ألفاظ التقريع والتأنيب. ولا عجب في ذلك؛ فقد رأوا أنني لم أزل حيا، وعبارات المودة لا تساق إلا إلى الأموات.
فقمت بينهم متسترا بأكفاني، وحاولت أن أعتذر إليهم مما سببت لهم من المتاعب، وبالغت في ذلك حتى خيل إلي أنهم قد عفوا عني. ثم طلبت منهم أن يعطوني ما جمعوه من المال من أجلي، وما أخذوه من الناس باسمي، حتى لا أضطر أن أموت مرة أخرى، فانهالوا علي بالشتائم وسموني محتالا وضحكة وخائب الرجاء، ثم انصرفوا عني.
فعدت نحو داري أتوكأ على صديقي أبي النور وأجر أذيال أكفاني، وأنا أقطع نفسي أسفا وغما، ولم أجن من وراء كل تدبيري شيئا.
وكان أبو النور أشد ألما مني؛ فكانت الدموع تتساقط على ثوبه كأنها سمط متصل، والأنفاس تهز صدره هزا عنيفا بعد أن كان هادئا صامتا. وقضى معي تلك الليلة حتى طلع الفجر ولم يفارقني لحظة، ذلك الصديق العزيز!
أما أنا فقد عزمت على أن أهاجر من ماهوش، فلن أبقى في بلد لا أجد لي مكانا فيه، حتى إن الموت نفسه لم يفسح لي بينهم محلا.
الفصل الحادي عشر
خرجت من وطني ماهوش أسير كالأعمى، والأفكار تحتوشني من كل جانب، والأنفاس تكاد تمزق صدري. ونظرت حولي فرأيت ربوة ماهوش الخضراء تبسم للصباح؛ إذ تلقي عليها الشمس أول شعاعها الذهبي. ورأيت سماءها والسحب تزخرف أطرافها بنسيج سحري من الفضة والذهب واللؤلؤ والياقوت. هذه السماء هي التي ملأت قلبي تسبيحا وعلمتني من المعاني ما تعجز عنه كتب الفلاسفة ومباحث العلماء. وألقيت نظري على نهر ماهوش إذ تنحدر إليه الجداول الصافية، تتدفق من عيون رائقة باردة تنبع من قمة الربوة، ثم تسير في جداولها التي تلمع في مجاريها الحصباء كأنها الدرر انفرطت من عقود الحسان. ورأيت بيوت ماهوش على سفح الربوة تتخللها البساتين بما فيها من نبت بين قصير وطويل، وبين مورق ومجرد، قد تداخلت ألوانها وتشابكت فروعها وتعانقت أغصانها، واهتزت للنسيم الوديع.
هذه ماهوش لذة العين وبهجة القلب وشفاء الصدر، أغادرها وأهاجر منها لأضرب في الآفاق. فناديت من أعماق قلبي: «يا نفس تجلدي، ويا عين أغمضي، ويا فؤاد التمس النسيان.» ثم سرت في الطريق أفكر فيما كان من شقائي في وطني الحبيب القاسي الذي لم أجد فيه لي مكانا.
अज्ञात पृष्ठ