وبدأت أزيحه بلقمة عن وجه البيض، فصاحت بي قائلة: قلت لك دعه، فلا طعم لهذا البيض إلا بفضله.
فصحت قائلا: أما تشفقين على هؤلاء الصغار؟
وأشرت إلى الأطفال وكانوا يأكلون ولا يبالون شيئا.
فضحكت ساخرة وقالت في قسوة بالغة: دع الأطفال، فما تشفق إلا على حلقك.
فلم أجد بدا من القيام وأنا أغلي غيظا.
هذه هي ريمة امرأتي التي سودت أيامي؛ فلم يكن لي من حيلة إلا أن أخرج إلى فناء البيت لأبترد في هواء الليل من همي. وكان ضوء القمر يلف الأرض في غلالة رقيقة فيجلو أرجاءها في رفق، لا يقسو عليها ولا يتدسس إلى خفاياها. هناك يستطيع الإنسان أن يهيم في عوالم الآفاق والسموات في النور الخافت، فيرى في شعاعه الضئيل رقص الجان وعربدة العفاريت ومحاورة الأشباح، وزيارة الأرواح؛ إذ تهبط كلها إلى الأرض تحت أضواء القمر، وتعبث وتنساب في الأفق الغامض آمنة من النور الباهر الفاضح. وفي ذلك الليل الساجي رقدت مستلقيا على ظهري ناظرا إلى الفضاء الذي لا نهاية له، فكأنني انمحيت فيه وفنيت، أو كأن الوجود كله قد انمحى وفني في، فلم يبق من الوجود إلا ما بين جنبي، أو لم يبق مني إلا هذا الوجود الصافي.
ورأيت النجوم الصغيرة تومض بشعاعها الضئيل وكأنها ترسل حديثها الصامت من وراء الفضاء في جوف العماء، تحدث بأسرار الكون الأزلي وتخبر عن سير القرون الخوالي حديثا قصيرا لا يزيد على لفظ «كانوا». فإذا ما سألتها عما وراءها وما يحيط بها، وعن حقيقتها وهل بها أحياء مثلي أم فيها ملائكة لا تعرف هموم الإنسان، وإذا سألتها عن الكرسي الأعظم الذي يسعها، لم أجد منها جوابا إلا لمعة تلمعها كأنها تجيب قائلة: «اخسأ.» فلا يسعني إلا أن أقول: «أيها العقل، قف مكانك ولا تقلق هذا الكون السرمدي بثرثرتك.» وطرقت أذني أصوات منبعثة من الساقية الصغيرة التي في فناء داري، فتذكرت ذلك الفناء الذي كان في أيام أبي بستانا يانعا. لشد ما تغير البستان على يدي، فأنا لا أصلح شيئا ولا أصلح لشيء. كانت هذه الساقية تدور كما تدور الآن، وكانت ترفع الماء من قرار البئر فتروي به الشجر والزهر، ولكنها عقمت فهي الآن لا تخرج ماء. أيها الثور الناعس المستسلم امض في دورانك فليس كله عبثا، أليس هذا الصوت الذي يدوي في سكون الليل لحنا يحيي هذا الفضاء الرهيب؟ ماذا يعنيك إذا كانت الساقية ترفع ماء يروي النبات أو لا ترفع من الماء شيئا؟ حسبك من الدوران هذا النعير الذي يتردد في سكون الليل فيكسبه جلالا ويملؤه خشوعا، حسبك هذا الغناء الذي يشبه الترتيل والتسبيح، ولا تكن أيها الثور أحمق مثل هذا الإنسان الذي لا يتحرك إلا لمطمع في الحياة، إنك لن تصيب من الحياة إلا ملء مذودك من التبن أو الحشيش. كان كل شيء هادئ في ذلك الليل يبعث على السلام والسمو، فأحسست وأنا مستلق على أرض الفناء الواسع أن بالحياة أنغاما متناسقة، ونسيت كل ما مر بي من الهم. الحياة حلوة لمن استطاع أن يكشف ما فيها من حلاوة، ولو لم يكن فيها سوى أن تستلقي على ظهرك في ضوء القمر كما فعلت وتتأمل صور الكون الذي حولك أو التي في حنايا صدرك لكان هذا حسبك. هناك يستطيع الإنسان أن يجد السعادة في السلام الشامل.
وذهب خيالي إلى ابنة السلطان - أو هي علية ابنة السلطان. نعم هي علية؛ لأنني لم أعرف اسمها، ولا بأس علي إذا مزجت اسم علية الحبيب بشخصها. وهناك استطعت أن أعيش حينا معها لا تفرق بيني وبينها تلك الفوارق التي تحجبها عني إذا ما طلعت الشمس، هناك لم أشعر بقوة السلطان ولا عظمته، هناك عند السماك التقيت بعلية ابنة علاء الدين بعيدين عن الأرض الضيقة وجهلها وسخفها.
لقد سمع الناس عن حبي وضحكوا مني وسخروا، نعم سمعوا به وسمعوه مني، وهل علي من بأس إذا جهرت بحبها وسمعت أصداء ترديدي لاسمها؟ إن كل ما عندي كريم نبيل صريح، فقلت وتحدثت وسبحت، وسمع الناس قولي وسخروا مني. ولكن ماذا يعنيني منهم إذا هم سخروا وضحكوا، وقد أفضى صديقي أبو النور إلي بما يقولون، وعنفني على مجاهرتي بحبها، وقال إني أعرض نفسي للهلاك إذا أنا تماديت في ذكرها.
يعجب الناس مني، ويقولون إني صعلوك أتطاول على مقام لا ينبغي لي أن أتطاول إليه. حقا إني فقير ولست أدعي الغنى، وضعيف الجاه ولست أدعي القوة، ولكني مع ذلك أدرك ما يفوت عقول هؤلاء. إن الأسرار تتفتح لي وينابيع الآيات تتدفق في صدري، ولست أعبأ بشيء مما يرغب الناس فيه، ولا أرهب مما يرهبون، فما الذي يمنعني أن أتطلع إلى ما أريد؟ وما الذي يلومني الناس فيه من حب علية ابنة علاء الدين؟ أيلومني الناس على أنني أسبح الله في حبها؟ لست أتطلع إلى شيء غير صورتها، ولن يستطيع أحد أن يحجب عني العوالم التي أكشفها من تأمل حبها.
अज्ञात पृष्ठ