Al-Qisas Al-Qurani - Yasser Burhami
القصص القرآني - ياسر برهامي
शैलियों
كرامة للغلام
قال النبي ﷺ: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم، الراهب أفضل أم الساحر أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس)، رأى حيوانًا عظيمًا قد سد الطريق على الناس، فوجد في نفسه فرصة، إذًا: كان التعليم المزدوج ما زال له تأثير، فالساحر يعلمه الباطل والكفر والضلال، وتعليم الراهب هو تعليم الحق، ولكن مع التعليم المزدوج يعطينا هذا الأمل الكبير أنه سوف يثمر التعليم الحق، وأن أثره إيجابي بإذن الله، مع وجود التعليم الآخر المفسد للقلوب؛ لأن هذا الغلام كان أميل إلى أمر الراهب بلا شك، ونلاحظ هذا من عدة أجزاء في قولته قال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر أفضل، فأخذ حجرًا فقال: اللهم، فأول شيء أنه توجه إلى الله ﷿ ولم يقل: سوف أستدعي جنود الملك مثلًا، فلجأ إلى الله وقال: اللهم! ولا شك أن الدعاء تعلمه من الراهب، وهذه فطرة في الإنسان أن يتوجه عند الشدائد إلى الله، وقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك، فهو يبحث عما هو أحب إلى الله ﷿ فقد غرس في قلبه حب الله سبحانه، وهذا الذي ينبغي أن يربى عليه كل إنسان وهو حب الله، والبحث عن حب الله ﷿، وما هو أحب إلى الله، الله يحب كذا ولا يحب كذا، وقضية الحب هذه هي التي تغير من كائن الإنسان، بخلاف الأوامر المجردة، فليست أوامرًا عسكرية أنت تفرضها على أولادك أو على تلامذتك، بل أنت ترغبهم في دين الله ﷿، ولذلك سيدنا إبراهيم ﵊ لما أمر بذبح ابنه لم يلزمه على الذبح، وإنما ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات:١٠٢].
فيدعوه إلى أن يفعل هذا الأمر اختيارًا، ولم يقل له: ماذا أفعل؟ فإنه سوف يفعل بلا شك، ولكنه يريد أن يفعل الأمر اختيارًا لا إكراهًا فلا يثاب على ذلك، فهذا أمر لابد أن نبحث عنه، وهو أن نحب الله ﷿، ونغرس حب الله ﷿ في قلوب أبنائنا ومن نعلمهم.
الأمر الثالث أنه قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فقدم أمر الراهب على أنه أحب في صيغة السؤال، ثم قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير للناس ويحب الخير للناس، فالساحر يعلمه كيف يؤذي الناس، وكيف يزرع بينهم الأحقاد، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يرغب فلان إلى فلان، ويلقي البغضاء بين فلان وفلان وهكذا، أما هذا فيريد أن ينجو الناس من هذا الحيوان المفترس السبع أو غيره، وهو أيضًا يرجو، والرجاء عبادة من العبادات تعلمها من الراهب بلا شك، أيرجو نتيجة بغير أسباب ومقدمات؟ الكل يستطيع أن يرمي حجرًا، لكن أن يقتل الدابة وهو موقن بأن رميته لن تقتلها ولكن الذي سوف يقتلها هو الله ﷿ فهذا لا يوجد إلا في الغلام.
ولذلك قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير لهم، ويعلم أن ذلك بقوة الله وقدرته ﷿ لا برميته.
قوله: (فرماها فقتلها ومضى الناس) هذا فيه إثبات كرامات الأولياء، فهذا الغلام الذي لم يصل بعد إلى سن الكهولة، بل حتى إلى سن الرجولة فلم يزل يقال عنه: غلام، قد صار من أولياء الله ﷿، الذين يستجيب الله دعاءهم ويخرق العادة من أجلهم.
فرميت حجر من صبي لا تقتل سبعًا بل ولا حتى قطة ولا كلبًا، فكيف تقتل الدابة العظيمة؟ هذه قدرة الله ﷿، فهو أخذ بالأسباب ولجأ إلى الله ﷿ ودعا فاستجاب الله ﷿ دعاءه، وما يكرم الله به أولياءه من أنواع القدرة والتأثيرات كهذه الواقعة، وما يكرمهم به من أنواع العلوم والمكاشفات هي من الأمور الثابتة في الكتاب والسنة، ومما يوقن به أهل السنة والجماعة، ويعتبرونه من عقيدتهم التي لا يجوز مخالفتها، لما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وإن كان ليس معنى كرامات الأولياء أن نطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وما لا يقدر عليه إلا الله بل نسأل الله ﷿ ذلك، وإنما نتعبد لله بحبهم ومتابعتهم على طريقهم، ونجد في هذا أن السبق إلى الله ﷿ ليس بطول المدة، بل ربما يسبق المتأخر المتقدم.
قال: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي)، وهذا الراهب الأستاذ الذي علم هذا التلميذ، مع ذلك رأى من علامات كرامته ومحبته لله ﷿ وبحثه عن حب الله واستجابة الله لدعائه ما دله على فضله وكرامته، فلذلك اعترف له بالفضل مع أنه تلميذه، ومع أن الراهب أسبق التزامًا من الغلام، ومع أنه هو الذي علمه الدين أصلًا، ومع ذلك قد يسبق المتأخر، فالفضل لله ﷿ يؤتيه من يشاء، والعباد يتفاضلون ليس بكثرة العبادة الظاهرة بل يتفاضلون بما في قلوبهم من الحب والخير والإيمان بالله ﷿ والرغبة فيما عنده، ومن أعظم ما يسبق به إلى الله حبه ﷾ والبحث عن محبته ومرضاته.
1 / 15