Al-Qawl Bima Lam Yusbaq Bihi Qawl
القول بما لم يسبق به قول
प्रकाशक
دار الحضارة للنشر والتوزيع
संस्करण संख्या
الثانية
प्रकाशन वर्ष
١٤٤٣ هـ - ٢٠٢٢ م
प्रकाशक स्थान
الرياض
शैलियों
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى هداه، أما بعد:
فمن قواعد الحياة أنها لا تدوم على وتيرة واحدة، بل هي في تغير دائم، وتطور مستمر، وهذه إحدى السنن الكونية، قال ابن خلدون: "إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم، لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده" (^١).
وقد أدرك النبي ﷺ سنة التغير في الحياة فشجع أصحابه على الاجتهاد؛ ليعرفوا حكم الوقائع المستجدة مع تجدد
_________
(^١) مقدمة ابن خلدون، ص ٣٧ - ٣٨.
1 / 5
الحياة، فعن عمرو بن العاص: ﵁ "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» " (^١)، وقد أقر النبي ﷺ الصحابة الذين بعثهم إلى بني قريظة على اجتهادهم في أداء وقت صلاة العصر، مع الاختلاف بين الاجتهادين، فعن ابن عمر ﵁، قال: "قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ" (^٢)، وفي إقراره لهم ﷺ على هذا الاختلاف تشجيع لهم على الاجتهاد.
ولقد سار الصحابة ﵃ على النهج الذي رسمه لهم رسول الله ﷺ، وكانوا أولى الناس باتباع نهجه، واقتفاء سيرته، فكان لهم الكثير من الاجتهادات في شتى نواحي الحياة، يقول
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم ٧٣٥٢، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم ١٧١٦.
(^٢) رواه البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، برقم ٩٤٦، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين، برقم ١٧٧٠.
1 / 6
الجويني: "لم يخلُ أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل، وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة، فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها، أو أفتى بها" (^١).
وكان منهجهم أنهم يتفاعلون مع القضايا التي تحتاج لاستخراج حكم فيها، سواء كانت هذه القضايا في السياسة، أو القضاء، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية (^٢)، فما كانوا يؤجلون النظر في معالجة النازلة لاستخراج حكمها، وفق ما وضعوه من معالم للاجتهاد (^٣)، وفتحوا بذلك لمن بعدهم من العلماء باب الاجتهاد، يقول ابن القيم: "فالصحابة ﵃ مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله" (^٤).
_________
(^١) البرهان، للجويني ٢/ ١٤.
(^٢) في كتاب اجتهادات الصحابة، لمحمد معاذ الخن، كثير من الأمثلة لاجتهادات الصحابة في شتى المجالات.
(^٣) انظر: أصول الفقه عند الصحابة معالم في المنهج، لعبدالعزيز العويد، ص ٢١٥.
(^٤) إعلام الموقعين، لابن القيم ١/ ١٦٦.
1 / 7
وظل العلماء على ذلك حتى انتهت عصور أئمة المذاهب، ودُونت آراؤهم، وشاع العمل بها، ثم رأى بعض العلماء أن في هذه المذاهب كفاية، وأن على المسلم التزام مذهب منها (^١)، وأنه لا يوجد مجتهد بعد أئمة المذاهب، فقد نقل الصنعاني عنهم قولهم في الاجتهاد الْمُطلق أنه "اختتم بالأئمة الْأَرْبَعَة حَتَّى أوجبوا تَقْلِيد وَاحِد من هَؤُلَاءِ على الْأمة" (^٢)، وقال
_________
(^١) اختلف العلماء في حكم إلزام المسلم بمذهب معين، وعدم الخروج منه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يجب التمذهب، ولا يجوز الخروج من المذهب، القول الثاني: أنه لا يجب التمذهب، ولا يجوز الخروج من المذهب لمن التزم مذهبًا، القول الثالث: أنه لا يجب التمذهب، ويجوز الخروج من المذهب لمن التزم مذهبا، والراجح هو القول الثالث؛ وذلك لأنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دون غيره، ولم يرد عن الصحابة ﵃ أنهم أوجبوا على العوام تعيين المجتهدين، ووجوب الاقتصار على مفت واحد دون غيره. انظر: المستصفى، للغزالي ٤/ ١٥٤، البحر المحيط، للزركشي ٨/ ٣٧٥، عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، لولي الله الدهلوي ص ٣١، إرشاد الفحول، للشوكاني ٢/ ٢٥٢، مجموع الفتاوى، لابن تيمية ٢٠/ ٢٢٢، مطالب أولى النهى، للرحيباني ١/ ٣٩٠.
(^٢) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، للصنعاني، ص ٢٧.
1 / 8
ابن الصلاح: "وقد ذكر بعض الأصوليين منا: أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل" (^١).
وقد يكون السبب في حصر الاجتهاد على عصور الأئمة "ادّعاء الاجتهاد من غير أهله، والتصدي للفتوى وإبداء الآراء المخالفة لأبسط الأسس والقواعد الشرعية، ولذلك أعلن كثير من العلماء غلق باب الاجتهاد؛ لسد الطريق أمام الجهال أو أنصاف العلماء، للوقوف حصرًا على أقوال المذاهب المنتشرة والسائدة" (^٢).
إضافة إلى "عدم اعتداد الْعَامَّة باجتهادات الْعلمَاء المعاصرين وثقتهم بالعلماء الْمُتَقَدِّمين وخوف الْحُكَّام من اسْتِمْرَار الاجتهاد لما كَانَتْ تسببه اجتهادات بعض الْمُجْتَهدين لَهُمْ من تشويش وإحراج وقلق، يَتَّضِح جليًا بعد إمعان النّظر فِي هَذِه الْأَسْبَاب بِأَنْ مخاوف الْعلمَاء فِي اسْتِمْرَار الاجتهاد الْتَقت مَعَ رَغْبَة الْحُكَّام والساسة على إغلاق الِاجْتِهَاد وَإِنْ اخْتلفت الْمَقَاصِد والأهداف" (^٣).
_________
(^١) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، ص ٩٣.
(^٢) الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، لمحمد الزحيلي ٢/ ٣٠٤.
(^٣) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، للصنعاني، ص ٢٦.
1 / 9
ووُضع للاجتهاد شروط شديدة لو طبقت "لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ" (^١)، يقول ابن عثيمين: "وهذه الشروط لو أردنا أن نطبقها لم نجد مجتهدًا منذ تسعمائة سنة؛ لأنها شروط قاسية" (^٢).
بل تجاوز الأمر إلى إخراج بعض الأئمة من درجة هذا الاجتهاد عالي الأسوار مغلَّق الأبواب؛ "فَالشَّافِعِيُّ عِنْدَهُمْ مقلِّد فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فِي انْتِقَادِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَذَلِكَ" (^٣)، وهو أيضًا ملتزم بِمذهب إِبْرَاهِيم النخعي وأقرانه ولَا يخرج عَمَّا ذهب إِلَيْهِ فُقَهَاء الْكُوفَة إِلَّا مَا شَاءَ الله وَكَانَ اجتهاده فِي التَّخْرِيج فقط ولم يكن مجتهدًا مطلقًا (^٤)، وأحمد بن حنبل "ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث" (^٥)، و"مقلّده قليل لبعد مذهبه عن الاجتهاد" (^٦)، إلى غير ذلك من دركات الكلام.
_________
(^١) الموافقات، للشاطبي ٥/ ٤٦.
(^٢) شرح نظم الورقات، لابن عثيمين، ص ٢٢١.
(^٣) الموافقات، للشاطبي ٥/ ٤٦.
(^٤) انظر: حجة الله البالغة، للدهلوي ١/ ٢٥١.
(^٥) ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب ١/ ٣٤٧.
(^٦) مقدمة ابن خلدون، ص ٥٦٦.
1 / 10
وقد استولى على بعض أتباع المذاهب "التعصب المذهبي، والعكوف على نصوص الأئمة والفقهاء السابقين، وإثارة الخلافات المذهبية، والمناظرات والمجادلات الضيقة، والوقوف على الفروع الفقهية والجزئيات الخلافية" (^١)، مِمَّا جعل الْكثير مِنْ العلماء "يحجم عَنْ الِاجْتِهَاد خوفًا من أَنْ يكيد لَهُ أعداؤه ويرموه بالابتداع فوقفوا عِنْد أَقْوَال الْمُتَقَدِّمين" (^٢).
وكان من أثر ذلك "أن فترت الهمّة، وجمد النشاط، وخف الاجتهاد إلى أدنى مستواه، وانصرف معظم الفقهاء إلى تدوين الكتب المذهبية والخلافية، واختصارها في متون، ثم وضع الشروح والحواشي عليها، وجمع أقوال إمام المذهب، ولمّ شتات الوجوه وأقوال الأصحاب والأتباع" (^٣).
ومالم يكن للمتقدمين قول فلا يجرؤ أحد من أهل العلم على قول لا سابق به، حتى لو وجد ما يدعمه من مقاصد الشريعة، وأدلتها، وقواعدها، "ولم ينج من هذه الظاهرة سوى القلة النادرة" (^٤).
_________
(^١) الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، لمحمد الزحيلي ٢/ ٣٠٤.
(^٢) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد، للصنعاني، ص ٢٦.
(^٣) الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، لمحمد الزحيلي ٢/ ٣٠٤.
(^٤) تاريخ التشريع الإسلامي، للقطان، ص ٣٩٨.
1 / 11
وقد رماهم مخالفوهم بشتى الأوصاف، وأوذوا نفسيًا وبدنيًا (^١)، وكان جوابهم لهم: بأنه "يجوز أن لا يتقدم به قائل ولكن لا يلزم انعقاد الإجماع على خلافه؛ إذ لعل تلك النازلة تكون قد نزلت فأفتى فيها بعض العلماء أو كثير منهم أو أكثرهم بذلك القول ولم يستفت فيها الباقون ولم تبلغهم فحفظ فيها قول طائفة من أهل العلم، ولم يحفظ لغيرهم فيها قول، والذين حُفظ قولهم فيها ليسوا كل الأمة فيحرم مخالفتهم … فنحن في مخالفتنا لمن ليس قوله حجة أعذر منكم في مخالفتكم لمن قوله حجة فإن كنتم معذورين في مخالفة الدليل لقول من بلغتكم أقوالهم مع أنهم ليسوا كل الأمة فنحن في مخالفتهم لقيام الدليل أعذر عند الله ورسوله منكم" (^٢).
وظل هذا هو الغالب على الحياة العلمية، فكل قول لم يسبق به قائل يرفض، ويقاوم القول وقائله، وتكثر التآليف بين الرد والجواب، وتحشد جميع الأدلة في نصرة الآراء، ومن المحير للقارئ أنه يجد أن كل عالم من الأئمة المتبوعين
_________
(^١) انظر: كتاب الممتحنون من علماء الإسلام، لسليمان العثيم، ففيه الكثير من القصص التي تبين ذلك.
(^٢) الصواعق المرسلة، لابن القيم ٢/ ٥٨٢.
1 / 12
أتى بقول لم يسبق إليه، وأن الذين يردون القول الذي لم يسبق إليه، قد قبلوا أقوالا لم يسبق إليها، وتجد في الآراء التي يؤيدونها استدلالا بأدلة، ثم لا يقبلون بهذه الأدلة إذا استدل بها خصمهم عليهم، فيجدون من المسوغات لردها، ما يستدل به عليهم خصمهم في رد آرائهم.
ثم بعد زمن تصبح بعض هذه الأقوال المرفوضة مقبولة، وقد تكون عليها الفتوى في بعض البقاع، وما كان منتشرًا مقبولًا قد يصبح مهجورًا محاربًا، وهذا ما يدعوا الباحث للنظر في هذه القضية، ودراستها تأصيلًا وتطبيقًا، ليصل لنتيجة فيها أو يقارب، وهو ما حفزني لكتابة هذا البحث في (القول بما لم يسبق به قول، دراسة فقهية تأصيلية تطبيقية)، وقد قسمته بعد المقدمة إلى:
تمهيد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف بعنوان البحث
المطلب الثاني: تهيب العلماء من القول بما لم يسبق به قول.
المبحث الأول: حكم القول بما لم يسبق به قول.
المبحث الثاني: مخالفة النص أو الإجماع.
1 / 13
المبحث الثالث: تطبيقات فقهية لأقوال لم يسبق بها قول، وفيه عشرون مطلبا تفصيلها في البحث.
المبحث الرابع: القول بما لم يسبق به قول بين التأصيل والتطبيق (ابن عثيمين أنموذجًا)
الخاتمة؛ وفيها أبرز النتائج.
وبعد؛ فقد بذلت الجهد في إخراج هذا البحث على أتم وجه، لكنَّ العمل البشري لا يخلو من نقص، فما تم منه فمن تيسير الله وفضله، وما نقص فمن تقصيري والشيطان، عسى الله أن يتوب عليَّ ويتجاوز عني إنه هو الغفور الرحيم.
كتبه:
د. مرضي بن مشوح العنزي
جوال: ٠٠٩٦٦٥٠٣٣٨٠٣٣٢
إيميل: murdi ١٠٠@hotmail.com
1 / 14
المطلب الأول: تعريف بعنوان البحث (القول بما لم يسبق به قول)
عنوان البحث يتكون من مصطلحين رئيسين، وللتوصل لتعريف عنوان البحث لابد من تعريف هذين المصطلحين، وهما: القول: والسبق.
فالقول لغة: "كُلُّ لَفْظٍ قَالَ بِهِ اللِّسَانُ، تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا" (^١)، قال ابن فارس: "الْقَافُ وَالْوَاوُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يَقِلُّ كَلِمُهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ مِنَ النُّطْقِ" (^٢)
والقول اصطلاحًا: الاعتقادات والآراء؛ فقد تجوَّز العلماء فأطلقوا القول على الاعتقادات والآراء، فيقولون: قول أبي حنيفة ويعنون بذلك رأيه في المسألة المطروحة، وقد
_________
(^١) لسان العرب، لابن منظور ١١/ ٥٧٢.
(^٢) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ٥/ ٤٢.
1 / 15
يقرنون بين القول والرأي وهما بمعنى واحد إنما لتنويع العبارة، فيقولون: أَقْوَال الْعُلَمَاءِ وَآرَاءهُمْ (^١).
وإنما تجوَّز العلماء في إطلاق القول على الآراء والاعتقادات؛ لأنها سبب له، قال ابن منظور: "فأَما تَجوُّزهم فِي تَسْمِيَتِهِمْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْآرَاءَ قَوْلًا فلأَن الِاعْتِقَادَ يخفَى فَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، أَوْ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ القَوْل مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَا تَظْهَرُ إِلا بالقَوْل سُمِّيَتْ قَوْلًا إِذْ كَانَتْ سَبَبًا لَهُ، وَكَانَ القَوْل دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَمَا يسمَّى الشَّيْءَ بِاسْمِ غَيْرِهِ إِذا كَانَ مُلَابِسًا لَهُ وَكَانَ الْقَوْلُ دَلِيلًا عَلَيْهِ" (^٢).
وأما السبق في اللغة فهو: التقدم، قال ابن فارس: "السِّينُ وَالْبَاءُ وَالْقَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ" (^٣)، يُقَالُ "سَبَقَه يَسْبُقُه ويَسْبِقُه سَبْقًا: تقدَّمه" (^٤). وفي الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللغوي.
_________
(^١) انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم ٢/ ١٦٢.
(^٢) لسان العرب، لابن منظور ١١/ ٥٧٢.
(^٣) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس ٣/ ١٢٩.
(^٤) لسان العرب، لابن منظور ١٠/ ١٥١.
1 / 16
وبعد بيان معنى القول والسبق نستطيع الاقتراب من معنى عنوان البحث، فالمراد بـ"القول بما لم يسبق به قول": هو الرأي الذي لم يُقدم ويقال في نفس المسألة من قبل.
1 / 17
المطلب الثاني: تهيُّب العلماء من القول بما لم يسبق به قول.
اشتهر عن السلف ﵃ تهيبهم من الكلام فيما يعرض عليهم من مسائل الدين، مستحضرين في ذلك قول الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩]. قال عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى: «أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّلِ» (^١)، وفي رواية: «مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْءٍ إِلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفَتْوَى» (^٢).
_________
(^١) المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي، ص ٤٣٣.
(^٢) المدخل إلى السنن الكبرى، للبيهقي، ص ٤٣٣.
1 / 19
وحتى لو تكلموا في مسائل الدين التي يعرفون فإنهم لا يجزمون بالتحليل والتحريم، قال ابن القيم: "قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا" (^١).
وخوفهم هذا كان من قولٍ يعرفونه أو حُكمٍ سُبقوا إليه، أما أن يسبق أحدهم غيره لقول جديد في مسألة فهذا من أشق الأمور عليهم؛ لمعرفتهم أنهم يتكلمون عن حكم الله في هذه المسألة، وهذا ليس بالأمر الهين لمن عظم الله في نفسه، ووضع نصب عينيه قول الله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ [النحل: ١١٦].
_________
(^١) إعلام الموقعين، لابن القيم ١/ ٣٢.
1 / 20
ثم سار من بعدهم على سنتهم موصين أنفسهم وتلامذتهم بما قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ موصيًا أحد تلامذته: "إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَك فِيهَا إمَامٌ" (^١).
واشترط العلماء للمجتهد أن يكون عالما بمواضع الإجماع كي لا يخرقه فيأتي بقول شاذ لم يسبق إليه (^٢).
وكان من أسباب تضعيف القول عندهم أن قائله لم يسبق إليه، فيردونه لأجل ذلك، وقد يصفونه بالشذوذ (^٣)، كما قال أبو الطيب القاضي عن قول لأبي جعفر الترمذي: "هَذَا شَاذٌّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ" (^٤).
وكان بعضهم إذا اجتهد في مسألة عقَّب عليها بأن هذا لا يعد قولا له إن لم يسبق إليه، ففي مسألة المطلقة آخر
_________
(^١) مجموع الفتاوى، لابن تيمية ٢١/ ٢٩١، إعلام الموقعين، لابن القيم ٤/ ١٧٠.
(^٢) انظر: الفصول في الأصول، للجصاص ٤/ ٢٧٣، شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص ٤٣٧.
(^٣) انظر: التمهيد، لابن عبدالبر ٩/ ٧٠، المجموع، للنووي ٤/ ٦٥، مجموع الفتاوى، لابن تيمية ٢٥/ ١٣٣، حاشية ابن عابدين ١/ ٤٧٧.
(^٤) المجموع، للنووي ٤/ ٦٥.
1 / 21
التطليقات الثلاث قوى ابن تيمية أنها تعتد بحيضة واحدة لكنه اشترط ألَّا يكون القول مخالفًا للإجماع، فقال عن القول الأول وهو أنها تعتد بثلاث حيض: " فَإِنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا: فَهُوَ الْحَقُّ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ" (^١)، وذكر البعلي أن اختيار ابن تيمية أنها تعتد بحيضة ثم قال: "علَّق أبو العباس القول بذلك على أن لا يكون الإجماع على خلافه" (^٢).
وفي مسألة تحريم نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرَّضَاعِ، قال ابن القيم: "حَرَّمَهُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ شَيْخُنَا وَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَحَدٌ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، فَهُوَ أَقْوَى" (^٣).
وتكلم ابن عثيمين عن حكم إدخال الحج على العمرة مع سعة الوقت، فقال: "لولا أن بعضهم حكى الإجماع في الجواز لقلنا بعدم الجواز، فإن كان أحد من العلماء يقول بأنه لا يجوز إدخال الحج على العمرة إلا عند الضرورة الشرعية أو الحسية؛ فهذا القول أقرب للصواب بلا شك" (^٤).
_________
(^١) مجموع الفتاوى لابن تيمية ٣٢/ ٣٤٢.
(^٢) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ص ٤٠٦.
(^٣) زاد المعاد، لابن القيم ٥/ ٤٩٥ - ٤٩٦.
(^٤) فتح ذي الجلال والإكرام، لابن عثيمين ١/ ٧٢٦.
1 / 22
وسئل ابن عثيمين عن المجتهد إذا وقف على حديثٍ صحَّ عنده، ثم بحث في المسألة، فلم يجد له سلفًا، هل يقول بها أو لا؟، فأجاب: "لا يقول بها، ولهذا نجد العلماء الجهابذة الكبار إذا بحثوا في آية، أو حديث، ولم يكن عندهم علم بقائل يقول: إن كان أحد قال بذلك، كما قاله شيخ الإسلام ﵀ في المبتوتة إذا حاضت حيضة واحدة هل تنقضي عدتها أم لا؟ فقال: إن كان أحد قال بذلك فهو حق " (^١).
ولا يعني هذا أنهم يتوقفون عن الاجتهاد ويظلون مكتوفي الأيدي خصوصًا عندما تدعوهم النوازل وحاجة الناس لرأي العلماء فيها، فإنه لا يكاد يوجد مجتهد إلا وله قول لم يقل به أحد قبله (^٢).
لكنهم يفعلون ذلك مع أشد التهيب والحذر؛ لأن الأمر جلل، فقد توقف الشاطبي-وهو أبو المقاصد- في مسألة الاشتراك باللبن؛ لأنه لم يجد نصًا في المذهب بخصوصها، مع أن من الأدلة على جواز الاشتراك فيه مقصدًا من مقاصد
_________
(^١) التعليق على مقدمة المجموع، لابن عثيمين، ص ٣٨٥ - ٣٨٦.
(^٢) انظر: الإحكام، لابن حزم ٤/ ١٨٩، ٥/ ٨٨.
1 / 23
الشريعة وهو رفع الحرج والتيسير على الناس (^١)، فقال: "هذا ما ظهر لي فيها من غير نص في خصوص المسألة أستند إليه؛ ولذلك توقفت عن الجواب فيها" (^٢) ثم وجد مسألة في المذهب تشبهها قال الإمام مالك بجوازها لحاجة الناس ثم ختم الجواب بقوله "فهذا كله مما يدل على صحة ما ظهر لي في اللبن والله أعلم والظاهر جوازه عملًا بهذا الأصل المقرر في المذهب" (^٣).
فمع أن في المسألة مقصدًا وهو رفع الحرج والتيسير على الناس فإنه لم يفت به وتهيب أن يأتي بقول لم يجد نصًا في المذهب بخصوصه حتى وجد مسألة تشبهها في المذهب فأفتى به منشرح الصدر، ولما تكلم ابن تيمية بكلام طويل عن حكم طواف الحائض للضرورة، وأجاز لها ذلك دون أن يكون عليها دم، وهو قول لم يسبق إليه، ختم بحثه بكلام يهز الوجدان دلالة على عظم الإقدام على ذلك، فقد قال: "هَذَا هُوَ الَّذِي تَوَجَّهَ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
_________
(^١) فتاوي الشاطبي، ص ٢٠٨ - ٢٠٩.
(^٢) فتاوي الشاطبي، ص ٢٠٩.
(^٣) فتاوي الشاطبي، ص ٢١١.
1 / 24
وَلَوْلَا ضَرُورَةُ النَّاسِ وَاحْتِيَاجُهُمْ إلَيْهَا عِلْمًا وَعَمَلًا لَمَا تَجَشَّمْت الْكَلَامَ حَيْثُ لَمْ أَجِدْ فِيهَا كَلَامًا لِغَيْرِي فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِمَّا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ فَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْته صَوَابًا فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْته خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْ الْخَطَأِ وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ" (^١).
_________
(^١) مجموع الفتاوى، لابن تيمية ٢٦/ ٢٤١.
1 / 25