إلاّ أن حِدَّة الطبع فيه لها مبرراتها، وله فيها عذره؛ إذ إن حِدَّته تلك كان لها أسباب، أهمها:
أ) ما صرَّح به من المرض الذي أُصيب به، عندما قال : " ولقد أصابتني عِلَّةٌ شديدةٌ، وَلَّدت عليّ رَبْواً في الطحال(١) شديداً، فولَّد ذلك عليّ من الضَّجر، وضيق الخُلُق، وقلة الصبر، والنَّزق(٢)؛ أمراً حاسبتُ نفسي فيه، إذ أنكرتُ تبدُّل خُلُقي، واشتد عَجَبي من مفارقتي لطبعي "(٣).
ب) الجفوة التي لاقاها من الكثيرين في عصره، والكيد الذي بلغ إلى إحراق كتبه، وما توالى عليه من المحن، وتتابع عليه من الفتن، فأنتج ذلك في نفسه إحساساً بإرادة السوء به، وإنزال الأذى بساحته(٤).
إلاّ أنه مع كل تلك المعاندات والمضايقات، فإن ابن حزم يُسْند كثرة تآليفه وتعدد مصنفاته إلى مالاقاه من مُخالفيه وخصومه من نقد وكيد، وإغراء الأمراء به، وتحذيرهم منه، حيث أنتجت تلك العداوات التي أثارها خصومه الحدَّة في طبعه، فنتج عن ذلك المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف، والإكثار من التصنيف.
يقول ابن حزم: "ولقد انتفعتُ بمحكٌّ أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي؛ أنه توقَّد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيَّج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة المنفعة، ولولا استثارُهُم ساكني، واقتداُمُهم كامني ما انبعثتُ لتلك التواليف". إلاّ أنه - كما قدّمنا - لم يكتب الله رَّ لأكثرها البقاء.
(١) الطِّحال: لحمة سوداء عريضة في بطن الإنسان وغيره، على اليسار، لازمة بالجنب. ينظر: الفروق بين الأمراض، الرازي، ص ١٦٤، لسان العرب ١٢٩/٨، تاج العروس ١٢٩/١٥.
(٢) النَّزق: الخفَّة والطيش والعجلة. ينظر: المقاييس في اللغة ٥٥٤/٢، لسان العرب ١٤/ ١١٠، القاموس المحيط، ص٩٢٥.
(٣) الأخلاق والسير، ص ١٦٢، ١٦٣.
(٤) ينظر: طوق الحمامة، ص ٢٠١، ابن حزم لأبي زهرة، ص ٦٣.
(٥) الأخلاق والسير، ص١٢٨.