Fiqh Theories

النظريات الفقهية

प्रकाशक

دار القلم والدار الشامية

संस्करण संख्या

الأولى

प्रकाशन वर्ष

1414 अ.ह.

प्रकाशक स्थान

بيروت

शैलियों

कानूनी नियम

النَّظَرِيَّاتُ الفِقْهِيَّةُ

تَأليفْ

الدكتور محمّد الزحيلي

دار القلم

دمشق

الدّار الشّاميّة

بيروت

1

النظريات الفقهية

نظرية المؤيدات التأديبية (الحدود - القصاص - التعزير)

نظرية المؤيدات المدنية (البطلان - الفساد)

نظرية الأهلية والولاية - نظرية العرف - القواعد الفقهية

تأليف

الدكتور محمد الزحيلي

الأستاذ بكلية الشريعة - جامعة دمشق

الدّار الشّامية

بيروت

دار القلم

دمشق

1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}

3

الطبعة الأولى

١٤١٤ هـ ~ ١٩٩٣م

حقوق الطبع محفوظة

دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع

دمشق - حلبوني - ص.ب: ٤٥٢٣ - هاتف: ٢٢٩١٧٧

الدار الشامية للطباعة والنشر والتوزيع

بيروت - ص. ب: ١١٣/٦٥٠١ - هاتف: ٣١٦٠٩٣

4

بسم الله الرحمن الرحيم

تَقْدِيمٌ

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إيَّاك نعبدُ وإياك نستعين.

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

الحمد لله الذي أنزل في كتابه الكريم على رسوله الأمين: ﴿اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (سورة العلق) الآيات: ١ - ٥.

والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ الذي بعثه الله رحمة للعالمين، ليعلم الناس الخير، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويرشدهم إلى طريق الهداية والرشاد، ويأخذ بيدهم لحمل مشعل العلم والحضارة، بالوسيلة الربانية التي أمر بها في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (سورة النحل) الآية: ١٢٥.

وبعد:

فإن النظريات الفقهية كثيرة، اخترت منها موضوعات أساسية، وهي:

  1. نظرية المؤيدات التشريعية في الفقه الإسلامي، وتشمل نظرية المؤيدات التأديبية في الحدود والقصاص والتعزير، ونظرية المؤيدات المدنية في نظرية البطلان ونظرية الفساد.

5

٢ - نظرية الأهلية بصورة مفصلة، مع عرض إجمالي لنظرية الولاية.

٣ - نظرية العرف بصورة مفصلة.

٤ - القواعد الكلية في الفقه الإسلامي.

وهذه الموضوعات متنوعة، فبعضها يدخل في الفقه، مثل القواعد الكلية، والشطر الأول من نظرية المؤيدات، وبعضها الآخر يتعلق بأصول الفقه، كنظرية الأهلية والعرف والشطر الثاني من نظرية المؤيدات، وهو الفساد والبطلان.

خطة البحث:

وسوف ندرس هذه البحوث بإسهاب وتفصيل إن شاء الله تعالى في أربعة أبواب، وهي:

الباب الأول: في نظرية المؤيدات التشريعية، وفيه تمهيد وفصلان.

التمهيد: في شرح المؤيدات وأقسامها.

الفصل الأول: في المؤيدات التأديبية في الشريعة، وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: في الحدود.

المبحث الثاني: في القصاص.

المبحث الثالث: في التعزير.

المبحث الرابع: في الكفارات.

الفصل الثاني: في المؤيدات المدنية، وتحته مبحثان:

المبحث الأول: في نظرية البطلان.

المبحث الثاني: في نظرية الفساد.

الباب الثاني: في نظرية الأهلية والولاية، ويشمل فصلين:

الفصل الأول: في نظرية الأهلية.

الفصل الثاني: في الولاية.

الباب الثالث: في نظرية العرف.

الباب الرابع: في القواعد الكلية؛ وفيه مقدمة وفصلان.

المقدمة: نظرة تاريخية عن الفقه الإسلامي.

6

الفصل الأول: في تعريف القواعد وفوائدها ومصادرها والتأليف فيها. وفيه مباحث:

المبحث الأول: في تعريف القواعد.

المبحث الثاني: في فوائد القواعد الكلية وأهميتها.

المبحث الثالث: في مصادر القواعد الكلية.

المبحث الرابع: في مؤلفات القواعد الفقهية.

الفصل الثاني: في شرح القواعد الفقهية.

وهذه البحوث تشكل مدخلاً للنظريات الفقهية الواسعة والكثيرة ويمكن لكل نظرية أن تستقل في كتاب خاص.

أهمية المدخل للنظريات وفائدته:

لا أريد التحدث عن أهمية الدراسة الفقهية، ولا عن خصائص الشريعة الإسلامية، ولا عن مزايا التشريع السماوي، لأن القارىء غالباً قد اطلع على ذلك في دراسة المدخل في الفقه الإسلامي، ولكني أريد أن أشير إلى مسوغ هذه الدراسة، وهدف هذا البحث في كليات الحقوق والشريعة.

لقد أصبحت الشريعة الغراء غريبة بين أهلها، وأضحت موضع الشك والريبة والاتهام من المنتمين إليها، وكانت - من قبل ومن بعد - هدف الأعداء بالنيل منها، والغض من شأنها، وتوجيه السهام إليها، كما أصبح المسلمون المتمسكون بدينهم وشريعتهم غرباء في وطنهم وأرضهم، وطن آبائهم المسلمين، وأرض أجدادهم من السلف الصالح، وابتعد الناس عن الدين، فصار من المفروض على العلماء والمؤمنين بها أن يقوموا بواجبهم في عرضها وشرحها وبيانها للناس، ومقارنتها مع التشريعات الوضعية المختلفة.

وبما أن للشريعة أحكامها الإِلَهية، واصطلاحاتها الفقهية، وقواعدها المستقلة، ومقوماتها الذاتية، فقد دعت الحاجة التعليمية الحكيمة أن يقدم

7

لدراستها مدخل عام، يمهد للطالب معرفة خصائص الشريعة، ويوضح أمامه معالم الطريق إلى دين الله، وحكم الله، وشريعة الله، وظهرت في مختلف الجامعات والكليات مادة المدخل للفقه الإسلامي أو المدخل للشريعة الإسلامية.

وقد عرف رجال القانون في العالم قيمة الشريعة الغراء كمصدر ثري في الأحكام، فنادوا بذلك، وطالبوا في عدة مؤتمرات دولية باعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع.

وعندما اتخذ رجال الانقلاب العسكري الأول في سورية خطواتهم المشؤومة وراء المشرع المصري لاستمداد القانون المدني الفرنسي، خطوا بكل حماقة وغباء في ظل هذا التأثير الدولي، فنصوا على كون الشريعة الإسلامية مصدراً احتياطياً بعد القانون الفرنسي الأصل.

وقد اغتر بذلك كثير من السذج في سورية ومصر الذين تغرهم الابتسامة أو الكلمة الحلوة(١)، ووجدوا أن النص القانوني، وما ورد بشأنه في المذكرة الإيضاحية ((التفسيرية)) وما جاء في الأعمال التحضيرية ولجنة القانون المدني في مجلس الشيوخ المصري، وجدوا أنه فتح عظيم للشريعة، ونصر كبير لدين الله(٢)، ولم يدركوا أن هذا النص هو كالدسم في السم، وكالحلاوة التي يضعها الأهل للضحك على أطفالهم، وكالغطاء المبرقش الذي يستر به المجرمون وسائل الإجرام والقتل والإبادة.

والواقع أن رجال التشريع لجأوا إلى ذلك لتخدير الناس، وذر الرماد في

(١) يقول الشاعر:

إذا رأيتَ نيوبَ اللَّيث بارزةٌ فلا تظنّنَ أنْ الليثُ يبتسمُ

(٢) انظر مجموعة الأعمال التحضيرية التي أصدرتها وزارة العدل المصرية، الجزء الأول، وانظر التقنين المدني المصري، الذي أصدره الدكتور جمال الدين العطيفي، الجزء الأول أيضاً، وانظر: المدخل للفقه الإسلامي، للشيخ عيسوي أحمد عيسوي ص ٨، المدخل، للشيخ محمد مصطفى شلبي ص ٧، المدخل للفقه الإسلامي، للأستاذ محمد سلام مدكور ص ٣١، المدخل الفقهي العام، للأستاذ مصطفى الزرقا ٣/١ وما بعدها.

8

العيون، والضحك السياسي أمام الجماهير المؤمنة ، لأن القانون في نصه وحرفه، وفي مضمونه وأحكامه، قانون فرنسي، وأصوله رومانية، وجذوره أوروبية، وشروحه عند علماء الغرب، واجتهاداته في المؤلفات الفرنسية، وإنْ استمد بعض أحكامه من الفقه الإسلامي، للتطعيم والتمويه، وكلما غمض الأسلوب، أو قصر النص في البيان رجع الشراح والقضاة والمحامون إلى الأصل الفرنسي، ويمموا وجههم وراء أساتذتهم في باريس، واستنجدوا بالمراجع الفرنسية والكتب الغربية لإِرواء الظمأ، وإيجاد الحلول، واستقراء النصوص، ودليلنا على ذلك هو الواقع الملموس اليوم بين شراح القانون، وفي ثنايا مؤلفاتهم المترجمة، وكان كثير من أساتذتنا في كلية الحقوق بدمشق والقاهرة يرددون بأن من يجهل اللغة الفرنسية، ولا يتقن قراءتها، لا يجوز له أن يحمل شهادة الحقوق، ولا يصح أن يكون متخصصاً في القانون، بينما وصل الجهل بالشريعة والفقه الإسلامي إلى أساتذة الحقوق الذين تخرجوا من فرنسا، فتطوع أحد عمداء كلية الحقوق إلى نقد مناهج ومقررات كلية الحقوق وكلية الشريعة لوجود التكرار في المواد، والازدواجية في المقررات لتدريس مقرر الفقه الإسلامي مع مقرر أصول الفقه، وقال: إنهما مادة واحدة، ويقول آخر: وهل في الشريعة إلا الزواج والطلاق؟

من هذا الواقع المؤلمة تظهر فائدة المدخل لدراسة نظريات الفقه الإِسلامي، وهي مادة مهمة وضرورية، ونحن بأمس الحاجة إليها، لأن الإِسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، وأصبحنا اليوم في بدء الطريق لمعرفة حكم الله، والاطلاع على شريعته، ودراسة أحكامه، والدعوة إلى الاعتقاد به، فيأتي المدخل ليقدم الأرضية الصلبة لبحث الموضوعات الفقهية.

سائلاً المولى جل وعلا أن يأخذ بيدنا إلى ما فيه الخير والرشاد، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما يعلمنا، وأن يمدنا بالعون والتوفيق لعرض شريعته الخالدة، وبيانها للناس،

﴿ليستيقن الذينَ أوتُوا الكتابَ، ويزدادَ الذينَ آمنُوا إيماناً، ولا يَرِتابَ الذينَ أوْتُوا الكتابَ والمؤمنونَ، وليقولَ الذينَ في قلوبِهم مرضٌ والكافرون: ماذا أرادَ اللّه بهذا مثلً؟ كذلك يضلُّ الله من يَشَاءُ، ويهدي من يَشَاءُ، وما يَعلَمُ جنودَ ربِّكَ إلا هو، وما هي إلا ذكرى للبشر﴾ (سورة المدثر)

9

الآية: ٣١، وعلى الله التكلان، ومنه نستمد العون، إنه نعم المولى ونعم النصير.

دمشق في ١٠ شوال ١٤١٢ هـ

الموافق ١٩٩٢/٤/١٢ م.

الدكتور محمد الزحيلي

أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله

بكلية الشريعة - جامعة دمشق

10

البَابُ الأوَّل

في نَظَريَّةِ المُؤْيِّدَاتِ الشَّرِعِيَّةِ

وفيه تمهید وفصلان.

التمهيد: في شرح فكرة المؤيدات وأهميتها كأداة ضرورية أساسية لحماية أحكام التشريع، وضمان طاعة المكلفين لها بمقتضى أنها أحكام إلزامية، وتقسيم هذه المؤيدات.

الفصل الأول: في المؤيدات التأديبية المتمثلة في نظام العقوبات في الشريعة.

الفصل الثاني: في المؤيدات المدنية، لدراسة نظرية البطلان ونظرية الفساد في الفقه الإسلامي.

التَّمهيد

في شَرْح المُؤْيِّدَاتِ وَأَقْسَامِهَا

الإسلام عقيدة وشريعة، شريعة للعمل والحياة، شريعة للنظام والتطبيق، شريعة للسعادة والتقدم، شريعة تنظم علاقة الإِنسان بربه، وتُحكِمُ علاقته بنفسه، وتُواكِبُ علاقته بأفراد مجتمعه.

والشريعة حقوق وواجبات، أو مكاسب والتزامات، والله سبحانه وتعالى أرشد إلى أحكم السبل، فشرع الأحكام ونظم المعاملات، وضبط علاقات الناس بعضهم ببعض، وأقر الحقوق، وبين الحدود التي يجب الوقوف عندها، والالتزام بها، ومنع الاعتداء عليها.

11

قال تعالى: ﴿تِلكَ حدودُ اللهِ فلا تَعتَدوها، ومن يَتَعَدّ حدودَ اللهِ فأولئكَ هُمُ الظالمون﴾ (سورة البقرة) الآية: ٢٢٩.

ولكن لنتساءل ما هي فائدة الحقوق؟ وما هي الجدوى من تقريرها والنص عليها، وتنميقها بالعبارات، وتسطيرها في الكتب، وصياغتها في اللوائح والقوانين والدساتير والإِعلانات، والمناداة بها شعاراً للناس؟؟

وأضرب مثالاً لذلك ((إعلان حقوق الإنسان العالمي)) فقد نص على أعظم القيم والمبادىء والمثل، وتضمن جميع الحقوق، وشمل جميع ما يهتم به الإِنسان في حياتِهِ، وما يتطلع إليه في غده، وما يحلم به في مستقبله، حتى يخيل لقارئه أنه يُؤمِّن له الحياة المثالية الخالدة.

وقد صدقت عليه جميع الدول، والتزمت به الشعوب، ولكن ما هو الأثر العملي لذلك؟ وما هي النتيجة التي وصل إليها؟

ويكفي أن نلقي نظرة على الواقع العالمي، ومجريات الحياة الاجتماعية لنعرف الجواب؟ وقد حاز أفلاطون وأرسطو شرف السبق لهذا الإعلان قبل ألفي سنة في الجمهورية الفاضلة، ولكن ماذا استفاد البشر منها، وما هو نصيب الفرد العادي فيها؟ كما أعلنت الثورة الفرنسية مبادئها البراقة ثم أصدرت قانون حقوق الإِنسان، فهل التزمت بالمبادىء والحقوق في بلادها؟ وهل نفذته مع شعوب الأرض؟ أم انطلقت في الاستعمار والاحتلال والاضطهاد والإِذلال الشعوب المعمورة؟

إذن: لا فائدة من منح الحقوق والنص عليها إذا لم تطبق فعلاً، ويتمتع بها الأفراد والجماعات، وتتوفر لها الحماية في التطبيق والتنفيذ، سواء أكان ذلك بالرغبة أم بالرهبة، بالعقيدة أم بالقوة، يقول إهرنج أحد العلماء الألمان: الحق بدون قوة ملزمة كلمة فارغة لا معنى لها.

وقد كلف الله تعالى الدولة، الممثلة بسلطتها القضائية ونظامها القضائي، بحماية هذه الحقوق والحفاظ عليها، والقاضي هو الرقيب والحارس لتطبيق الأحكام وحفظ الحقوق وردها إلى أصحابها عند الاعتداء عليها، فيقيم العدل ،

12

وينفذ شريعة السماء التي نزلت لإنقاذ الناس من الظلم والظلام، ويطبق حدود الله تعالى.

قال عز وجل: ﴿لَقَد أَرسَلنا رسلنا بالبيناتِ، وأنزلْنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ النَّاسُ بالقسط﴾ (سورة الحديد) الآية: ٢٥.

وقال تعالى ﴿وإذا حكمتُم بِينَ النَّاسِ أَن تَحْكموا بالعَدْل، إنَّ اللهَ نِعِمًا يَعِظُكُم به﴾ (سورة النساء) الآية: ٥٨.

وقال تعالى: ﴿يا أيُّها الذين آمنوا كونُوا قَوَّامينَ لله، شُهداءَ بالقِسْط، ولا يَجْرِمَنَّكُم شنآن قومٍ على ألا تَعدِلوا، اعْدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا اللهَ، إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون﴾ (سورة المائدة) الآية: ٨.

ونخلص مما سبق إلى بيان المبادىء الآتية:

١ - إن الإِسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، إيمان ونظام ، وإن الإِسلام غرس العقيدة وأقام من القلب والإِيمان رقيباً على تصرفات الإنسان لتبقى في مجال أحكام الله تعالى: ﴿كلَّ نفسٍ بما كسبتْ رَهينة﴾ كما أقام الدولة لضمان التطبيق والإشراف على التنفيذ.

٢ - إن الفائدة من الأحكام والتشريع وإعلان الحقوق والمبادىء ، تنحصر عند تطبيقها والالتزام بها، وتأمين الحماية لها، وبمعنى آخر: إن من أهم ميزات التشريع، وأول خصائص القانون أنه إلزامي يجب تطبيقه والتقيد به، وهذا ما يميزه من قواعد الأخلاق والعادات، فكل مكلف ملزم في أعماله ومعاملاته وجميع تصرفاته بالأوامر والنواهي الشرعية، سواء في ذلك أفعاله المادية الخاصة به والتي تصدر عنه، كالسير والكلام والأكل والشرب والاستعمال والاستهلاك والحيازة، أو تصرفاته المدنية في تعامله مع الآخرين لكسب الحقوق أو إسقاطها عن طريق الإِرادة المنفردة، كالطلاق والإِبراء، أو عن طريق العقود كالبيع والشركة وغيرها، فكل فعل أو تصرف يجب أن يتقيد بالنظام الشرعي والأحكام الشرعية والحدود المخصصة له والشروط والقواعد الموضوعة لتحقيق المصالح وتأمين المنافع بالعدل والقسطاس(١).

(١) انظر المدخل الفقهي العام ٦٠١/٢ وما بعدها.

13

٣ - إن الدولة تتكفل بحماية الحقوق وتفرض أداء الواجبات والالتزامات وتضمن تنفيذ الأحكام الناظمة، ولذلك يضع التشريع السماوي بيد الدولة مجموعة من الأحكام التنظيمية لحماية الأحكام الشرعية الأصلية، ثم تتخذ الدولة أساليب مختلفة، وتصدر عدداً من الأنظمة والتوصيات والأوامر والقرارات لضمان التطبيق، وحسن التنفيذ، وتمنع من الوقوع في الشبهات والأخطاء والاضطراب والمشاكل، وتجنب الناس من النزاع والاختلاف في أعمالهم ومعاملاتهم.

ويجب على الناس أن يلتزموا بالنظام، وأن يراعوا أحكامه، وأن يتقيدوا بأوامره، فإن فعلوا ذلك وصل كل منهم إلى حقه، وعرف حدوده التي يجب أن يقف عندها، وعرف واجبه الذي يلتزم به تجاه غيره، وكسب ثواب الله ومرضاته في تطبيق شرعه، وكانت الأعمال والمعاملات في إطار التشريع الذي يهدف إلى الاستقرار والعدل، وإن خرج الناس عن النظام وتلاعبوا بالأحكام، وأهملوا قواعده وشروطه وقعوا في غضب الله، وسقطت ثمرات الأعمال، وحبط الجهد المبذول، وفقد التصرف نتائجه المبتغاة.

هذه الأحكام التي تضمن حسن سير العدالة، وحسن تنفيذ التشريع، وحسن المحافظة على الحقوق والالتزام بها، والتقيد بحدودها تسمى بالاصطلاح القانوني الحديث: المؤيدات.

والمؤيدات لا بد منها في كل تشريع أو قانون، فإذا كانت هذه المؤيدات صادرة من الشارع الحكيم، وتتوقف على ورود الشرع، وتؤخذ من مصادر التشريع الإسلامي سميت مؤيدات شرعية(١).

وقد عرف الأستاذ الزرقا المؤيدات الشرعية بأنها:

(١) وتسمى المؤيدات أيضاً بالاصطلاح الفقهي بالضوامن، جمع ضامن، لأنها تضمن الطاعة للشرع القائم، وتتكفل بها، كما تسمى في اصطلاح الفقهاء المسلمين بالزواجر لأنها تزجر المكلف عن مخالفة الشرع، ولذا أطلق ابن حجر الهيثمي هذا الاسم على كتابه «الزواجر عن اقتراف الكبائر»، مطبوع بمكتبة البابي الحلبي بمصر.

14

«كل ما يشرع من التدابير لحمل الناس على طاعة أحكام الشريعة الأصلية»(١).

وهذا يعني أن أحكام الشريعة قسمان:

  1. أحكام أصلية: نزلت لبيان الحقوق والواجبات، وتنظيم علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بنفسه، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

  2. أحكام تأييدية: وضعت لحماية الأحكام الأصلية، وضمان تطبيقها وحسن تنفيذها والالتزام بها، وهي موضوع بحثنا في هذا الكتاب.

وهذه الأحكام التأييدية ضرورية، ولا بد منها، ولا يوجد تشريع في الدنيا يأمل في التطبيق والتنفيذ، وتحقيق المصالح، وجلب المنافع، ودفع المضار عن البشرية، يخلو من العقوبات كمؤيد له، فإن فقد المؤيد أصبح التشريع كلاماً فارغاً لا معنى له.

تقسيم المؤيدات الشرعية:

تنقسم المؤيدات الشرعية عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة.

التقسيم الأول: باعتبار الزمن:

تنقسم المؤيدات الشرعية من حيث زمن تطبيقها إلى نوعين: أخروية ودنيوية(٢).

أولاً - المؤيدات الأخروية: وهي مجموعة الأحكام التي وردت بالنص في القرآن الكريم والسنة الشريفة، لبيان الثواب والأجر للفاعل، أو ترتيب العقوبة والعذاب لكل من يخالف أحكام الشرع ويخرج عن حدوده، سواء كانت له عقوبة في الدنيا، ولكنها لم تطبق عليه، لأن السلطة لم تستطع أن تطول المخالف، أو لأنه تفلت منها بأي أسلوب، أم لم تكن له عقوبة في الدنيا، واقتصر عقابها على الآخرة، لأنه لا يمكن معرفتها أو إثباتها بالحواس البشرية الموجودة، كجريمة الحسد والنفاق والنميمة والغيبة والحقد والكذب، ومعيارها:

(١) المدخل الفقهي العام ٢ /٦٠٦.

(٢) انظر: فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي ٥٧/١.

15

كل أمر ورد فيه عقوبة أو تهديد أو وعيد أو لفظ يدل على إنكار الفعل بغضب الله أو حرب الله أو لعن الله أو البعد عن رضوان الله، وغير ذلك.

ثانياً - المؤيدات الدنيوية: وهي الأحكام التي جاءت لحماية التشريع وتطبيقه في الدنيا، وهي في الدرجة الثانية بعد المؤيدات الأخروية، لأن العاقل من يخشى غضب الله تعالى وسخطه، ويرهب من بطشه ونكاله وعذابه في الآخرة، فيرتدع عن المحرمات، ويلتزم بالأوامر والواجبات، فإن ضعفت عقيدته، ورق عنده الوازع الديني، ومرض ضميره، ولم يتعظ بالعقاب الأخروي - فإنا نجد رحمة الله تعالى بالبشرية أن شرع لهم العقوبة الدنيوية، وأعطى الدولة سلطة العقاب لحماية حق الجماعة، ولحماية حقوق الله تعالى وأحكامه وشرعه.

التقسيم الثاني: باعتبار الوسيلة:

تنقسم المؤيدات الشرعية من حيث وسيلة التشويق بالفعل أو التنفير عنه إلى قسمين: مؤيدات ترغيبية، ومؤيدات ترهيبية(١).

أولاً - المؤيدات الترغيبية: هي التي تضمن تطبيق الأحكام عن طريق ترغيب الناس بالأحكام، وتشويقهم بالمحاسن، وإظهار النتائج الطيبة لها، أو ترتيب الثواب والأجر لمن يقوم بها، أو الحصول على المنافع وتحقيق المصالح باتباعها، فيعلن المشرع مثلاً عن مكافأة للفاعل إما في الدنيا أو في الآخرة، ويكثر في هذا المجال المؤيدات الأخروية بالترغيب فيما عند الله تعالى من رضوان وتكريم وثواب وأجر، بما ((لا عَيْنٌ رأت، ولا أُذُنَ سمِعَت، ولا خَطَر على قلب بشر)).

ويمتاز المؤيد الترغيبي بأنه اختياري، يدفع الإنسان للقيام بالواجب، والامتناع عن المحرمات عن طواعية واختيار، بدافع ذاتي، وباعث شخصي، ومراقبة قلبية.

ثانياً - المؤيدات الترهيبية: وهي الزواجر التي تمنع الناس من مخالفة الشرع الحكيم عن طريق التهديد والوعيد والتلويح بالعقاب والإرهاب لمن

(١) راجع في هذا المعنى الكتاب القيم: الترغيب والترهيب للحافظ المنذري رحمه الله، في أربعة مجلدات، وكتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر، للحافظ ابن حجر الهيثمي في جزأين.

16

يخالف حكم الله تعالى، ويخرج عن جادة الصواب، ويخاطر بارتكاب المحرمات، ويأبى تنفيذ الواجبات.

وهذه الزواجر الترهيبية إمّا أن تكون دنيوية، وإما أن تكون أخروية، ونقتصر في بحثنا على المؤيدات الترهيبية الدنيوية فقط.

التقسيم الثالث: باعتبار سبب المخالفة:

تنقسم المؤيدات الترهيبية في الدنيا من حيث السبب الذي يستدعي التأييد إلى نوعين، مؤيد تأديبي، ومؤيد مدني، وذلك بحسب نوع المخالفة التي يرتكبها المكلف، لأن العدالة تقتضي أن يكون الجزاء من جنس العمل(١).

أولاً - المؤيد التأديبي:

وهو أذى ينزل بالجاني زجراً له لارتكابه محظورات شرعية نهى الشارع عنها، بأن يعتدي مثلاً على غيره في ماله ودمه وعرضه، فيعاقب على فعله ليمنع من الاعتداء مرة ثانية، وليرتدع غيره عن ذلك أيضاً، ومجموعة المؤيدات التأديبية تدخل في إطار نظام العقوبات في الشريعة الإسلامية.

ثانياً - المؤيد المدني: وهو حرمان الشخص من النتائج التي يقصدها من وراء التصرف، فيخسر الثمرات التي يريد أن يجنيها من فعله، ويعتبر عمله لغواً لا يعترف به المشرع، ولا يتمتع بحماية السلطة والتشريع، ولا يستطيع أن يطالب غيره بالنتائج والآثار أمام القضاء، وإن طالبه بحقوق التصرف فيحق للثاني الامتناع عن التنفيذ لوجود خلل ومخالفة في التصرف.

وإن المؤيدات الترغيبية والمؤيدات الأخروية تخرج عن موضوع دراستنا في المدخل للفقه الإسلامي، ونقتصر في بحثنا على المؤيدات الترهيبية الدنيوية، وهي كما رأينا تنقسم إلى مؤيدات تأديبية، ومؤيدات مدنية، فنخصص كلّ منها في فصل مستقل.

***

(١) المدخل الفقهي العام ٦٠٩/٢.

17

अज्ञात पृष्ठ

الفَصْل الأول

فِي الْمُؤْيِّدَاتِ التَّأْدِيبِيَّةِ

وهي

«نظام العقوبات في الشريعة»

العقوبات في الشريعة الإسلامية مؤيد شرعي لضمان تطبيق الأحكام الشرعية التي أمر الله تعالى بها، أو لضمان اجتناب المحرمات التي نهى الشارع عنها، فالعقوبة قبل الفعل موانع، وبعده زواجر، أو هي مؤيدات شرعية لحفظ الحقوق والأنفس والأموال وتطبيق القواعد والأحكام، ولولا العقاب لكانت الأوامر والنواهي أموراً ضائعة، وضرباً من العبث(١)، ويعرف الماوردي الجرائم فيقول: «الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير»(٢).

وتختلف المؤيدات التأديبية بحسب جسامة الجريمة وفداحة العدوان، وتتفرع العقوبات التأديبية لتحقق العدالة والردع والإصلاح في آن واحد، فتكون العقوبة أحياناً بدنية تقع على جسم الإنسان كالقتل والجلد، وتكون مالية تصيب مال الشخص كالدية والغرامة والمصادرة والكفارات، وتكون حاجزة للحرية كالحبس والنفي، وتكون نفسية أو معنوية كالتسريح واللوم والتوبيخ والتهديد. وقد تکون من نوعين أو أكثر.

نظام فريد للعقوبات:

وقبل أن نعرض النظرية العامة للعقوبات في الشريعة نريد أن نعطي نبذة عن فلسفة العقوبة في الإسلام.

(١) المدخل للفقه الإسلامي، مدكور ص ٧٥٧، التشريع الجنائي الإسلامي، للمرحوم عبد القادر عودة ٦٨/١.

(٢) الأحكام السلطانية، الماوردي ص ٢١٩.

19

الحقيقة أن نظام العقوبات في الإسلام نظام فريد من نوعه، ويشيع بين الناس أنه لا يتفق مع الوقت الحاضر، علماً بأن نظام العقوبات القانوني قد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافه ومقاصده في تخفيف الجريمة، وإصلاح المجرمين، وتأمين الطمأنينة والراحة، وحفظ الأموال والأنفس والأمن(١)، ومع ذلك فإن الحقد لا يفتأ يقذف بالباطل، ويثير الشبه حول نظام الإسلام في هذا المجال.

وإظهاراً للحقيقة، وتطبيقاً لأحكام نظام العقوبات في الإسلام، فلا بدّ من مراعاة الأمرين التاليين:

  1. أن يكون نظام الإسلام مطبقاً بشكل كامل في الحياة، ومنها العقوبات الشرعية، وعندئذٍ نرى العدالة الكاملة، والتنظيم الدقيق، وسلامة التطبيق للحدود والقصاص والتعزير، وتظهر حكمة مشروعية الحدود والقصاص بشكل لا يمكن لعاقل أن يتنكر له، وذلك لأن الإسلام كل لا يتجزأ، وإذا تناولنا زاوية منه في مجتمع جاهلي، مع سيادة القوانين الوضعية وما ينتج عنها من مفاسد واضطراب، فسرعان ما يبدو الشذوذ في عملية الترقيع هذه، ولو كانت الأحكام تتعلق بالعبادات كالصلاة، فإنها لا تتفق مثلاً مع نظام العمل أو الموظفين غير الإسلامي، فكيف إذا أخذنا بالحدود أو القصاص أو المعاملات فقط في ظل التصورات المادية، والاتجاه الإلحادي، والمجتمع الذي يفقد مقومات الأخلاق أو تعوزه أسس الاعتقاد.

  2. أن تطبيق نظام العقوبات، ومنها الحدود، لا يتم عشوائياً حتى ضمن إطار النظام الإسلامي، أي بدون قيد ولا شرط، وإنما يجب لإقامة الحد أو القصاص أن تتوفر شروطه الكثيرة التي بينتها النصوص، ونظمها الفقهاء.

(١) انظر بإسهاب وتفصيل كتاب التشريع الجنائي الإسلامي ص ٧٠٨ - ٧٤٠، وخاصة العناوين التالية: مدى صلاحية العقوبات الشرعية، العقوبات الشرعية والإحصائيات، العقوبات الشرعية والتجارب، العقوبات الشرعية وطبيعة الإنسان، هل نجحت العقوبات القانونية في محاربة الإجرام؟ كيف نتخلص من عيوب الأنظمة الوضعية، وانظر كتاب: التعزير في الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد العزيز عامر ص ٤٤٧ وما بعدها.

20