Al-Mu'tamad min Qadim Qawl al-Shafi'i 'ala al-Jadid
المعتمد من قديم قول الشافعي على الجديد
प्रकाशक
دار عالم الكتب
प्रकाशन वर्ष
1417 अ.ह.
प्रकाशक स्थान
الرياض
शैलियों
المعتمد
من قديم قول الشافعي على الجديد
تأليف
الدكتور/ محمد بن رديد المسعودي
الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى
دار عالم الكتب
للطباعة والنشر والتوزيع
الرياض
1
الْمُعْتَمَدُ
من قديم قول الشافعي على الجديد
2
دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، ١٤١٧ هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية
المسعودي، محمد بدر ردید
المعتمد من قديم قول الشافعي على الجديد - الرياض
١٧٦ ص : ١٧×٢٤ سم
ردمك ٧ - ٦٠ - ٧٧٥ - ٩٩٦٠
١ - الفقه الشافعي
٢ - الشافعي، محمد بن ادريس، ت
٤٠٤ هـ
أ - العنوان
دیوي ٢٥٨٫٣
١٧/٠٢٤٩
حقوق الطَبع محفُوظَة
الطبعَة الأولى
١٤١٧ هـ - ١٩٩٦ م
رقم الإيداع
١٧/٠٢٤٩
٧ - ٦٠ - ٧٧٥ - ٩٩٦٠
ردمك
دار عالم الكتب
للطباعة والنشر والتوزيع
العليا - غرب مؤسسة التحلية - ت: ٤٦٥١٦٨٩ / ٦٢١٧٢٢]
ص.ب. ٦٤٦٠ - الرياض ١١٤٤٢ - تليفاكس: ٤٦٣١٣٣٦
المملكة العربية السعودية
عالم الكتب
3
المعتمد
من قديم قول الشافعي على الجديد
تأليف
الدكتور/ محمد بن رديد المسعودي
الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى
دار عالم الكتب
للطباعة والنشر والتوزيع
الرياض
4
بسم الله الرحمن الرحيم
5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن أكرم ما تشرف به إنسان هو خدمة هذه الشريعة التي جعل الله فيها اليسر والكمال، ويقول تعالى: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُم فى الدّين من حَرَج﴾(١)، ويقول ﴿يُريدُ اللّهُ بكمُ الْيُسر ولا يُريدُ بكمُ العُسر﴾(٢)، ويقول تبارك أسمه ﴿اليوُمَ أَكَمَلتُ لَكُم دينّكُم وَأَتْمَمتُ عّلّيكُم نعمتى وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾(٣)، ويقول: ﴿مّا فرّطْنَا فى الكتّب من شَىءٍ﴾(٤).
ولقد قلبت نظري في المذاهب الفقهية، ومسالك الأئمة فلم أر كمذهب الشافعية والحنابلة قرباً من روح التشريع، واعتماداً على الآثار
(١) سورة الحج، الآية ٧٨.
(٢) سورة البقرة، الآية ١٨٥.
(٣) سورة المائدة، الآية ٣.
(٤) سورة الأنعام، الآية ٣٨.
1
والتنزيل، واستيعاباً للأدلة وحسن التعليل، وكل الأئمة أخذ مقتد ومهتد وجهابذة فحول، ولكنها الأدوات والرحلات التي توفرت لبعضهم ففاق شيوخه وبَزّ أقرانه، وأعني بذلك الإمامين الجليلين، محمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل رحمهما الله ورضي عنهما.
فأما الشافعي فهو شيخ أحمد، وسأورد له ترجمة مختصرة، أضع فيها ملامح حياته وعصره وعلمه، ولقد استهواني الفقه الشافعي لكثرة التآليف فيه وغزارة معانيه، وجهابذة العلماء فيه منذ القدم، فكانت رسالتي في الدكتوراه في تحقيق ودراسة كتاب السير من الحاوي الكبير للماوردي، ثم تحقيق ودراسة باب المهادنة على النظر للمسلمين ونقض ما لا يجوز من الصلح من الحاوي أيضاً، وهو كتاب مطبوع وقريباً كتاب الجزية بمشيئة الله.
كل هذه الدراسات - إضافة إلى تدريسي وتعمقي في المذهب الحنبلي القريب من الفقه الشافعي - جعلتني أتصيد فرائد هذا المذهب، وأغوص في أعماقه، فكان من جملة هذا الصيد هذا العقد الذي أرجو أن يكون فريداً، وتأليفاً جديداً، لم أسبق إليه فيما أعلم في كتاب مستقل، وأسميته "المعتمد من القديم في الجديد" أي ما رجحه أصحاب الشافعي من مذهبه القديم على الجديد وقد ضمنته أبواباً وفصولاً ومباحث على النحو التالي:
المقدمة: تشمل الدوافع لاختيار هذا الموضوع وخطة تفصيلية لما أحتواه.
2
الباب الأول، ترجمة الإمام الشافعي:
ويشمل على ما يلي: نسبه، ومولده، نشأته، طلبه للعلم، شيوخه، آرائه، وفقهه، ورعه وزهده، فضله وثناء العلماء عليه، عصره، وفاته.
الباب الثاني: الأطوار التي مر بها فقه الشافعي.
ويشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: فقهه بمكة:
المبحث الأول: طبيعة هذا الفقه.
المبحث الثاني: تلاميذه.
المبحث الثالث: کتبه.
الفصل الثاني: فقهه بالعراق:
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طبيعة هذا الفقه.
المبحث الثاني: تلاميذه.
المبحث الثالث: كتبه.
الفصل الثالث: فقهه بمصر:
وتحته ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طبيعة هذا الفقه.
المبحث الثاني: تلاميذه.
المبحث الثالث: كتبه.
3
الباب الثالث: ضوابط القديم وضوابط الجديد.
ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول: وتحته مبحثان:
المبحث الأول: مقدمة في معنى الضوابط.
المبحث الثاني: الاجتهاد في المذهب الشافعي.
الفصل الثاني: مصطلحات الشافعية الفقهية.
الفصل الثالث: وتحته مبحثان:
المبحث الأول: رجوع الإمام عن أغلب آرائه في القديم.
المبحث الثاني: هل ينسب القديم على أنه مذهب للإمام؟
الفصل الرابع: موقف الأصحاب فيما روي عنه من قولين.
الباب الرابع: ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: عدد هذه المسائل.
الفصل الثاني: عرض مسائل القديم المرجحة في المذهب حسب الترتيب الفقهي.
ثم الخاتمة والفهارس ...
ولا آلو جهداً في استفراغ الوسع والطاقة في استقصاء هذه المسائل المرجحة في المذهب وهي من قديم قول الشافعي بالاطلاع على مؤلفات الشافعية القديمة والحديثة المخطوطة والمطبوعة الفقهية والترجمية حتى أحيط بها إحاطة السوار بالمعصم في هذا المؤلف الذي أرجو أن يتقبله الله مني
4
بقبول حسن ويثيبني عليه في سهري ونصبي وجمعي لمواده المتناثرة من بين ما أشرت إليه آنفاً.
وقد اقتصرت على خلاف الشافعية ومن وافق منهم القديم ومن وافق الجديد، وكنت قد عقدت النية في بداية الأمر على بيان من وافق القديم أو الجديد من المذاهب الفقهية الأخرى، ثم عدلت عن هذا خشية الملالة والتطويل، ولأن الموضوع مقتصر على مذهب الشافعي وما فيه من المسائل المعتمدة والمرجحة من القديم عن أصحاب الشافعي فناسب الاقتصار على المذهب والله تعالى أعلم.
وقد اقتصرت أيضاً في معظم مسائل القديم على المجموع شرح المهذب للنووي والروضة له والحاوي الكبير للماوردي لأنها حوت ما في كتب الأصحاب من القولين وخاصة المجموع الذي جمع فأوعى، مع المقارنة والتمحيص في الكتب الأخرى.
والحقيقة أن البحث عن هذه المسائل استغرق مني بحثاً وجهداً كبيرين في استعراض الفقه الشافعي لاستخراج منه هذه المسائل وهي غائصة في بحور فقههم ودقائق مسائلهم.
وبالله التوفيق .. وعليه التكلان .. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
5
الباب الأول
ترجمة الشافعى
ويشتمل على:
نسبه، ومولده، نشأته، طلبه للعلم، شيوخه، آرائه، وفقهه، ورعه وزهده، فضله، وثناء العلماء عليه، عصره، وفاته.
6
الشافعي
نسبه ومولده :
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان شافعي بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطلبي الشافعي رحمه الله ورضي عنه.
والمطلب هو أحد أولاد عبد مناف الأربعة، وهم المطلب وهاشم - جد بني هاشم سلالة نسب المصطفى ﷺ - وعبد شمس - جد الأمويين ونوفل جد جبير بن مطعم.
والمطلب هذا هو الذي ربى عبد المطلب جد الرسول ﷺ ولذلك كان بنو المطلب وبنو هاشم حزباً واحداً يقاومه بنو عبد شمس في الجاهلية، فحينما قاطعت قريش بأجمعها بني هاشم انضم بنو المطلب إلى بني هاشم، مسلمهم وكافرهم، ولهذا كله جعل لهم النبي ﷺ قسماً في سهم ذوي القربى المنصوص عليه في الغنائم في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(١)، وفي الفيء في قوله تعالى ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(٢).
(١) سورة الأنفال، الآية ٤١.
(٢) سورة الحشر، الآية ٧.
7
ولم يجعل لبني عبد شمس وبني نوفل قسماً في سهم ذوي القربى، وروى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهو منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله ﷺ: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد"(١).
أما مولد الشافعي رحمه الله فقد كان بغزة، وعلى هذا أكثر المؤرخين والرواة، وقيل ولد بعسقلان، ولا تبعد عن غزة إلا ثلاثة فراسخ، وقيل ولد باليمن وفسره بعضهم: يعني في قبيلة يمانية فإن أمه أزدية على المشهور، أو نشأ بها.
ولد الشافعي رحمه الله سنة خمسين ومائة بالاتفاق وهي السنة التي توفي فيها الإمام العظيم أبو حنيفة النعمان رحمه الله، وقيل أيضاً أنه ولد في نفس اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة ولم يثبت هذا على الصحيح.
نشأته:
نشأ الشافعي في أسرة فقيرة، مات أبوه وهو صغير فنشأ يتيم الأب، يقول الشافعي رحمه الله: "ولدت بغزة سنة خمسين ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين"، وقال أيضاً "ولدت باليمن فخافت أمي على الضيعة، وقالت: الحق بأهلك فتكون مثلهم، فإني أخاف أن تغلب على نسبك، فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا يومئذ ابن عشر أو شبيه بذلك، فسرت إلى
(١) صحيح البخاري ج ٤، ص ٩٥.
8
نسيب لي وجعلت أطلب العلم فيقول لي: لا تشتغل بهذا وأقبل على ما ينفعك، فجعلت لذتي في هذا العلم وطلبه حتى رزقني الله منه ما رزق".
فالشافعي عندما ولد بغزة حملته أمه إلى مكة ليعرفه أهله ويلتحق بهم نسبه، وكانت تتردد به إلى قبيلتها الأزدية فخشيت من مكثه الدائم بينهم أن يضيع نسبه أيضاً وأن ينسى أهله ويشتغل عنهم فأحبت رباطه بهم إقامة ومعيشة.
هاجرت أم الشافعي به إلى مكة في رحلتها الأخيرة، واستوطنت به "منى" ومن هنا بدأت رحلة العلم انطلاقاً من كتاب الله عز وجل، يقول الشافعي: "كنت يتيماً في حجر أمي، ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء وأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا في شعف الخيف، وكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث أو المسألة، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة."
اتجه الشافعي بعد هذا الحفظ المتقن لكتاب الله وحديث رسول الله ﷺ وبعض المسائل العلمية إلى التوجه إلى البادية ليحظى فيها بفصاحة اللسان، والبعد عن العجمة التي بدأت تأخذ طريقها إلى المدن نظراً للاختلاط بالأعاجم.
كانت قبيلة هذيل بجوار الحرم، وكانت أفصح العرب وأكثرها شعراً، فلازمها الشافعي رحمه الله وأخذ يتعلم لغتهم ويأخذ سجاياهم، وعاداتهم ويحفظ أشعارهم، يقول الشافعي رحمه الله: "إني خرجت عن مكة فلازمت
9
هذيلاً بالبادية أتعلم كلامها، وأخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب والأخبار".
أقام الشافعي في هذيل قرابة عشر سنين كما صرح بذلك في إحدى رواياته، أكسبته هذه السنين الطويلة فصاحة اللسان واتقان الرمي، وتعلم الفروسية، وتعلم اللغة والشعر، حتى بلغ من حفظه لأشعار الهذليين وأخبارهم أن الأصمعي إمام اللغة قال: "صححت أشعار هذيل على فتى من قریش یقال له محمد بن إدريس".
طلبه للعلم:
بدأ الشافعي في أول أمره بحفظ القرآن الكريم، وحفظ حديث رسول الله ﷺ، ثم أخذ يطلب الشعر وأيام العرب والأدب، ثم ابتدأ في طلب الفقه - وكان سبب طلبه للفقه ما حكاه مصعب بن عبد الله الزبيري قال: "كان الشافعي رحمه الله في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب ثم أخذ في الفقه، قال: وكان سبب أخذه فيه أنه كان يسير يوماً على دابة وخلفه كاتب لأبي فتمثل الشافعي ببيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه فهزه ذلك فقصد مجالسة مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة ثم قدم علينا" يعني المدينة فلزم مالكاً رحمه الله.
وروى النووي عن الشافعي قال: "كنت أنظر في الشعر فارتقيت عقبة بمنى فإذا صوت من خلفي: عليك بالفقه".
10
وعن الحميدي قال: "قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقال: يا فتى من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، قال: أين منزلك؟ قلت: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من عبد مناف، فقال: بخ بخ لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة ألا جعلت فهمك هذا في الفقه فكان أحسن بك.
أخذ الإمام الشافعي العلم عن مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة، ثم بدأ عصا التسيار إلى مدينة رسول الله ﷺ حيث الجبل الشمخ مفتى عصره وإمام دار الهجرة مالك بن أنس، ورحلته في ذلك مشهورة مدونة، وكان عمر الشافعي آنذاك ثلاث عشرة سنة، وقد حفظ الموطأ قبل إتيانه المدينة، قال رحمه الله: "قدمت على مالك وقد حفظت الموطأ ظاهراً، فقلت: إني أريد أن أسمع الموطأ منك، فقال: أطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقال: أقرأ، فلما سمع قراءتي قال: أقرأ فقرأت عليه حتى فرغت منه".
أعجب الإمام مالك بقراءة الشافعي وطلب منه المزيد ثم قال له: "اتق الله فإنه سيكون لك شأن"، وفي رواية: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية".
لازم الشافعي الإمام مالكاً وتلقى منه علمه وفقهه، ثم عاد إلى مكة ولم يطل مكثه بها حيث سعي له أحد قرابته ليعمل بنجران وهي من نواحي اليمن آنذاك، قيل والياً وقيل قاضياً، ولم يطل به المقام أيضاً حيث نقل إلى بغداد بوشاية مناصرته العلويين، فألهمه الله حجته وقال لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده،
11
أيهما أحب إليّ؟ قال الذي يراك أخاه، قال فذاك أنت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس، وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا إخوتکم، وهم يروننا عبید کم.
كانت له هذه الرحلة الجبرية خيراً فمكث بالعراق وكانت محط العلماء ودار الخلافة وكان من أبرز علمائها محمد بن الحسن الشيباني فقيه العراق الأكبر، وصاحب أبي حنيفة فلازمه الشافعي ملازمة الطالب الأديب ويأخذ بقول الشافعي رحمه الله: حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي ليس عليه إلا سماعي(١)، وكان ذوده عن فقه مالك لأنه مبني على الحديث والآثار في حين بنى فقه العراقيين على العقل وإعمال الرأي والقياس في غالبه، وكان يناظر أصحاب محمد بن الحسن بعد خروجه تأدباً معه، فنقل إليه بعض طلابه ما يفعله الشافعي من مناظرتهم، فأحب مرة أن يناظره ليعرف سعة علمه وإدراكه، فاختار له مسألة مشهورة وهي مسألة الحكم بالشاهد واليمين وحجة الحنفية فيها حديث: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وعلى ذلك لا يمين على المدعي عند نكول المدعي عليه عن اليمين، فإذا كان مع المدعي بينة حكم بها وإلا حلف المدعي عليه وحكم لله وإن نكل قضي للمدعي بدون إرجاع اليمين عليه، وقال المالكية والشافعية: إذا لم يكن مع المدعي إلا شاهد واحد قضى له إذا حلف ويكون حلفه في مقام الشاهد
(١) البختي أحد أنواع الإبل والجمع بخاتي، أنظر لسان العرب ج١، ص ١٦٧.
12
الثاني وذلك في الأموال فقط، وأما غير الأموال فلا توجه فيها اليمين للمدعي اقتصاراً على مورد النص(١).
ومناظرة أخرى يتبين فيها الأدب الجم والعلم المتدفق حكى الرازي في آدابه عن الشافعي قول الشافعي: "كتبت كتب محمد بن الحسن وعرفت قولهم وكان إذا قام ناظرت أصحابه، فقال لي ذات يوم في الغصب، بلغني أنك تخالفنا، قلت: إنما ذلك شيء أقوله على المناظرة، فقال: قد بلغني غير هذا فناظرني، فقلت: إني أجلك وأرفعك عن المناظرة، فقال: لابد من ذلك، فلما أبى قلت: هات، قال: ما تقول في رجل غصب من رجل ساجة - أي شجرة عظيمة - فبنى عليها بناء أنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساجة فثبت بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبه هذه الساحة وبنى عليها هذا البناء، ما كنت تحكم فيها؟
قلت: أقوله لصاحب الساجة: يجب أن تأخذ قيمتها، فإن رضى حكمت له بالقيمة وإن أبى إلا ساجته قلعت البناء ورددت ساجته.
فقال لي: ما تقول في رجل غصب من رجل خيط ابريسم فخاط به بطنه، فجاء صاحب الخيط فثبت بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبه هذا الخيط فخاط به بطنه؟ أكنت تنزع الخيط من بطنه؟!
فقلت: لا.
الله أكبر تركت قولك، وقال أصحابه تركت قولك.
(١) الأم ج٧ ص ٣١.
13
فقلت : لا تعجلوا، أخبروني لو أنه لم يغصب الساحة من أحد وأراد أن يقلع هذا البناء عنها ويبني غيره أمباح له؟ أم محرم عليه؟.
قالوا : بل مباح له.
قلت : أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه فأراد أن ينزع هذا الخيط من بطنه أمباح ذلك له؟ أم محرم عليه؟.
قلت : فكيف تقيس مباحاً على محرم؟!.
ثم قال : أرأيت لو أن رجلاً اغتصب من رجل لوح ساحة أدخله في سفينة ولجج في البحر، فثبت صاحب اللوح بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبه هذا اللوح وأدخله في سفينته أكنت تنزع اللوح من السفينة؟!.
قلت : لا.
قال : الله أكبر تركت قولك، وقال أصحابه: تركت قولك.
فقلت : أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر أمباح ذلك له؟ أم محرم عليه؟.
قال : محرم عليه.
قلت : وكيف يصنع صاحب السفينة؟.
قال : آمره أن يقرب سفينته إلى أقرب المراسي إليه مرسى لا يهلك فيه هو ولا أصحابه ثم أنزع اللوح وأدفعه إلى صاحبه وأقول أصلح سفينتك وأذهب.
14
قال محمد بن الحسن - فيما يحتج به - أليس قد قال النبي ﷺ "لا ضرر ولا ضرار"!، قلت: هو أضر بنفسه لم يضر به أحد.
ثم قلت له: ما تقول في رجل اغتصب من رجل جارية فأولدها عشرة كلهم قد قرأوا القرآن وخطبوا على المنابر، وقضوا بين المسلمين، فثبت صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذا اغتصب الجارية وأولدها هؤلاء فنشدتك الله ما كنت تحكم؟.
قال: كنت أحكم بأولاده رقيقاً لصاحب الجارية وأرد الجارية عليه.
فقلت: رحمك الله أيهما أعظم ضرراً: إن رددت أولاده رقيقاً؟ أو أن قلعت البناء عن الساجة؟.
وفي العراق طلب منه عبد الرحمن بن مهدي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ومجمع قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ، فوضع له كتاب الرسالة، فكان عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما أصلي صلاة إلا وأني أدعو للشافعي فيها.
قال المزني: أنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة ما أعلم أني نظرت فيها مرة إلا استفدت منها شيئاً لم أكن عرفته.
هكذا بدأ الطلب للعلم من مكة بحفظ القرآن ثم ملازمة هذيل أهل اللغة والفصاحة والشعر ثم تلقى الفقه من فقهاء مكة ومن إمام دار الهجرة بالمدينة حتى احتوى العراق فطار صيته، وعلا ذكره وناسب هنا أن نذكر ونفرد شيوخه بذكر حسن لما لهم من الفضل في حياة الشافعي العلمية.
15