Al-Musarahah fi Ahkam al-Musafahah
المصارحة في أحكام المصافحة
प्रकाशक
المكتبة الرقمية في المدينة المنورة
शैलियों
ـ[المصارحة في أحكام المصافحة]ـ
المؤلف: عبد الناصر بن خضر ميلاد
الناشر: المكتبة الرقمية في المدينة المنورة
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
अज्ञात पृष्ठ
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمْد المُحبِّين له والطائعين لأوامره ونواهيه، الملتزِمين بآداب ومحاسن الدِّين. نحمده حمْد المُذعِنين الممتثِلين لإرشادات سيِّد النبيِّين، والمُتحلِّين بكامل أدبه المبين وشرْعه إلى يوم الدِّين. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، سيّدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ ١. ﴿رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ ٢.
وبعد.
فإن ممّا يميِّز شريعة الإسلام عن غيرها من الشرائع، أنها جاءت لتُوافق فطرة الناس التي خلقهم الله عليها حسبما كانت الحكمة مِن خلْقهم؛ فكما حَوَتِ الأوامر والنواهي المقرِّرة للضوابط
_________
١ سورة الأعراف: الآية ٨٩.
٢ سورة المؤمنون: الآيتان ٩٧، ٩٨.
1 / 5
المطلوبة في المعاملات -فضلًا عن جانب العبادات -، شملت أيضًا ما يتعلق بالأخلاق والآداب، وما يُعَدّ من محاسن السلوك ومكارم الأخلاق؛ بل إننا نجِد أنّ الإسلام قد أوْلى دائرة الأخلاق والآداب ومحامد السلوك كاملَ العناية وغايةَ الرعاية، عنايَته بالعبادات ورعايته للمعاملات، باعتبار أنّ الأخلاق هي ملاك الفرد الفاضل المؤدَّب بأدب الإسلام، وهي في ذات الوقت قوام المجتمع الرّاقي.
ولهذا، كان جانب الأخلاق والآداب، والقِيَم والشمائل والفضائل المرعيّة بين الناس، محلَّ اهتمام كبير في نظر الإسلام؛ فمكانةُ الأخلاق لديْه عظيمة، ومنزلته سامية، وقَدْره عالٍ مرفوعٌ. وهكذا مدح الله - المصطفى ﷺ بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ١. وقال ﵊: "إنّما بُعثتُ لأُتمِّم مكارمَ الأخلاق" ٢.
والجدير بالإشارة إليه: أنّ الأخلاق والآداب هي السِّياج
_________
١ سورة القلم: الآية ٤.
٢ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي هريرة ١٠/١٩١، والقضاعي في مسند الشهاب ٢/١٩٢.
1 / 6
والإطار المعوَّل عليه في سلامة كافة التكاليف الشرعية الأخرى: عبادات، أو معاملات، أو غير ذلك ... فبدون تحقّق الأخلاق والالتزام بالآداب المرعيّة، لا تُؤدَّى هذه التكاليف على الوجه الأكمل، ولا تقع موقعَها اللائق بها.
ومما يجب التّفطّن له: أنّ الإسلام الحنيف قد اعتمد في التعامل بين أبناء المسلمين - بعد التزامهم بالعبادات على الوجه الصحيح - على حُسن الخُلُق والتّحلِّي بمحاسن الآداب الشرعية. فقد رُوي في الحديث الصحيح: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحْسنُهم خُلُقًا" ١. وفي هذا، يقول ابن قيِّم الجوزية: "الدِّين كلّه الخُلُق؛ فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدِّين"٢.
ولهذا، كان من الضروري عدم الاستهانة بالجانب الأخلاقي بحُجّة أنّ مخالفة هذا الجانب غيرُ قادحة في كمال إيمان العبد؛ وذلك لأنّ السلوك المعتبَر إطارًا لحياة الإنسان، إذا كان قد ارتضاه ذلك الإنسان أن يكون من خلال الشريعة الإسلامية الغرّاء، فإنه مطالَب بضرورة الإتيان به على وجْه ما ترتضيه تلك الشريعة
_________
١ أخرجه الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة ٣/٤٦٦، وأحمد في مسنده ٢/٢٥٠.
٢ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ٢/٣٠٧.
1 / 7
المحمودة بين كافّة الشرائع.
ومن هذه السلوكيات الإسلامية والآداب المطلوبة: آداب التحية في الإسلام عند اللقاء وعند المفارقة، من خلال آداب المصافحة. وقد وجدْتُ المناوي يقول في كتابه "فيض القدير": " ... أي تأديبًا لهم وتعليمًا لمعالم الدِّيانة ورسوم الشريعة، وحثًا على لزوم ما خُصَّتْ به هذه الأمّة من هذه التحية العظمى التي هي: تحيّة أهل الجنّة في الجنة"١.
فالإسلام قد حثّ على حُسن استقبال المسلم لأخيه، فرغّب في طلاقة الوجه وبشاشة صاحبه عند اللقاء، وجعل ذلك من الصَّدَقة التي يرتفع بها أجْر صاحبها؛ وذلك فيما رواه أبو زر ﵁ فقد قال ﷺ: "لا تحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تَلْقى أخاك بوجْه طلْق" ٢. وطلاقة الوجْه هي: تَهَلُّلُه بالانشراح والابتسام عند اللقاء. وقد روى جابر بن عبد الله٣ ﵁ أنّ النبي ﷺ قال: "كُلُّ مَعروفٍ
_________
١ فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ٥/١٦٠.
٢ أخرجه مسلم في صحيحه ٤/٢٠٢٦.
٣ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الخزرجي الأنصاري السّلمي: صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي ﷺ روى عنه جماعة من الصحابة. له ولأبيه صحبة. من أهل بيعة الرضوان، وكانت له في أواخر أيامه حلقة في المسجد النبوي، يؤخذ عنه العلْم. توفي سنة ٧٨هـ.
راجع: الأعلام للزركلي ٢/١٠٤، سير أعلام النبلاء للذهبي ٣/١٨٩-١٩٢.
1 / 8
صَدَقة. وإنّ مِن المعروف أن تَلْقَى أخاك ووجْهُك إليه مُنبَسط" ١.
ولهذا، كانت المصافحة مع البشاشة وطلاقةِ الوجه خيرَ دليل على الودّ والصّفاء والمحبة. فإلقاء السلام إيذانٌ بالأمان قولًا، والمصافحة مع البشر توكيدٌ لهذا الأمان. وفي هذا يقول فضل الله الجيلاني: " ... واعلمْ: أنّ التّصافح عند الملاقاة للتّأنيس، وتوكيد للتسليم القولي؛ فإنّ التسليم إيذان بالأمن قولًا، والتصافح نحو بيْعةٍ وتلقينٌ على ذلك، وتوكيد لما تلفّظاه بالتسليم، ليكون كلٌّ من المتلاقِيَيْن على أمْن من صاحبه"٢.
فالمصافحة من تمام التحية؛ فقد روي ابن مسعود ﵁ أنّ رسول الله ﷺ قال: "من تمام التحية: الأخْذُ باليد" ٣، كما روي
_________
١ أخرجه الترمذي في جامعه ٤/٣٤٧ وقال: "حديث حسن".
٢ فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني ٣/١٧٤.
٣ أخرجه الترمذي في جامعه ٥/٧٥ وقال: "هذا حديث حسن".
1 / 9
عنه قوله: "وتمامُ تحيّتِكُم بينكُم: المصافحة" ١.
ولما كان الاختلاف بشأن بعض أحكام المصافحة، وذلك من حيث وصْفها بالحكم الشرعي المناسب، فضلًا عن الخلاف بشأن المصافحة عقِب الصلوات، ومصافحة المرأة الأجنبية وما تعلّق بذلك من خلافهم في مدَى تأثير تلك المصافحة على الوضوء بالنقض من عدمه، فضلًا عن المصافحة عند اللقاء وعند المفارقة، ومصافحة الأمرد والمريض ومَن به عاهة، ومصافحة الجُنُب، ومصافحة غير المسلم، ونحو ذلك من الأحكام المتعلِّقة بالمصافحة.
لما كان الشأن هذا، استخرتُ الله سبحانه وعزمت على الكتابة في هذا الموضوع الذي أسميتُه: المصارحة في أحكام المصافحة، معتمدًا على الله تعالى، سائلًا العون والمدد بكلّ ما من شأنه أن يوفِّقني الله سبحانه لإتمامه على الوجه المظهر لحكم الشرع فيه، وعلى هدْي مَن سبقني ممن وفّقهم الله في هذا السبيل.
_________
١ أخرجه أحمد في مسنده ٥/٢٥٩، والترمذي ٥/٧٥، والروياني في مسنده ٢/٢٩٠، والبيهقي في شعب الإيمان ٦/٤٧٢ من حديث أبي أمامة الباهلي.
1 / 10
وقد اشتمل البحث على مباحث تسعة على النحو الآتي:
المبحث الأول: التعريف بالمصافحة.
المبحث الثاني: مصافحة المرأة الأجنبية.
المبحث الثالث: مدى تأثير مصافحة المرأة على الوضوء.
المبحث الرابع: المصافحة عقب الصلاة.
المبحث الخامس: المصافحة عند المفارقة.
المبحث السادس: مصافحة الجُنُب.
المبحث السابع: مصافحة المريض ومَن به عاهة.
المبحث الثامن: مصافحة الأمرد.
المبحث التاسع: مصافحة غير المسلم.
والله سبحانه أسأل: أن يوفِّقني لإخراجه على الوجه اللائق - فمنه سبحانه العون -، وأن يرفع عنِّي الزلات والعثرات، وأن يكون هذا العمل في سجلّ حسناتي يوم العرض على الله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
1 / 11
المبحث الأول: التعريف بالمصافحة
مدخل
إنّ من المسلَّمات بديهيًا: أنه يتحتّم على من يريد استبيان حُكم المصافحة في الشريعة الإسلامية: بيانُ الحدود المرعية لهذا الفعل بالكشف أوّلًا عن حقيقته بتوضيحه والتعريف به، كي يكون على بيِّنة من أمره وهو يطوف به في جنبات الشريعة الغرّاء. ولهذا كان من الملائم هنا إلقاءُ الضوء على المصافحة كمظهر من مظاهر الآداب الإسلامية، وذلك بتعريفها وتوضيح كيفيّتها وآدابها وحكمها وحِكمة مشروعيّتها، مع بيان أوّل من حدَثت منه المصافحة والمعانقة، وهو خليل الله إبراهيم ﵇.
وهذا ما أتناوله في المطالب الآتية:
1 / 12
المطلب الأول: تعريف المصافحة وكيفيتها
المصافحة: إلصاق صفحة الكفِّ بالكف، مع إقبال الوجه بالوجه؛ ولهذا كانت المصافحة الأخذ باليد، والتصافح مثْله. فهي مفاعلة من الصفحة، والمراد بها: الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد. وهي بضمّ الميم وفتْح الفاء، مصدر "صافح" مِن وضْع يد شخص في يد شخص آخر١. تقول: صافحْتُه مُصافَحةً أي: أفضَيْتُ بيدي إلى يده٢.
اصطلاحًا: وضْع كفٍّ على كفّ، مع ملازمة لهما قَدْر ما يَفرغ من السلام ومن سؤال عن غرض٣.
وعلى هذا، يكون الترابط قائمًا بين المعنى الاصطلاحي للمصافحة مع الإطلاق اللغوي بشأنها.
هذا، وإن للمصافحة كيفيّتها وآدابها الشرعية. فالأصل فيها: أن تكون باليد الواحدة من كلٍّ من المتصافحيْن. فقد وردت الأحاديث والآثار الموضحة لكيفية وآداب المصافحة بما يفيد أنّ المصافحة بحسب الأصل فيها تكون باليد الواحدة؛ فقد جاء في
_________
١ كشاف اصطلاحات الفنون لمحمد علي التهانوي، تحقيق د/ لطفي عبد البديع ٤/٢١٤.
٢ راجع: لسان العرب لابن منظور ٧ / ٣٥٦، المصباح المنير صفحة ٣٤٢.
٣ راجع: الفتوحات الربانية لمحمد بن علان الصديقي ٥ /٣٩٢.
1 / 13
حديث أنس ﵁: "فأخَذ أحدُهما بيدِ صاحبِه" ١، وفي حديث بريدة بن الحصيب: "فأخَذ بيدِه" ٢
كما أنّ هذه الكيفية هي المتمشِّية مع الإطلاق اللغوي للمصافحة. وعلى هذا، فالسُّنّة: أن تكون المصافحة بيدٍ واحدة، غير أنّ الإمام البخاري يرى أنّ المصافحة تكون باليديْن، وذلك على نحو ما سلكه في صحيحه حيث وجدْناه يُبوِّب فيه بابًا بعنوان "باب الأخذ باليد. وصافح حماد بن زيد٣ ابن المبارك٤ بيدَيْه"٥.
_________
١ أخرجه أحمد في مسنده ٣/١٤٢.
٢ أخرجه أحمد في مسنده ٥/٣٤٩.
٣ هو حماد بن زيد بن درهم، الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل، مولى آل جرير: شيخ العراق في عصره. يُعرف بالأزرق. كان مولده سنة ٩٨هـ، ووفاته سنة ١٧٩هـ في البصرة. كان ضريرًا، طرأ عليه العمى، يحفظ أربعة آلاف حديث.
راجع: الأعلام للزركلي ٢/٢٧١.
٤ عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم، التركي ثم المروزي. قال عنه الذهبي: "الإمام شيخ الإسلام، عالِم زمانه وأمير الأتقياء في وقته". مولده كان في سنة ثماني عشرة ومائة، ووفاته كانت في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، بهيت.
راجع: سير أعلام النبلاء لمحمد بن أحمد الذهبي ٨/٣٧٨.
٥ راجع: صحيح البخاري ٥/٢٣١١.
1 / 14
وقد دعّم البخاري ما قنَّنه وأخذ مذهبًا له بما روى عن ابن مسعود ﵁ بشأن التشهد ما نصّه: "علّمني رسول الله ﷺ وكفِّي بين كفّيْه التشهّدَ كما يعلِّمُني السورة من القرآن: "التحيات لله، والصلوات والطّيِّبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله ... "" ١.
فقوله: "وكفِّى بيْن كفّيْه" يفيد: أنّ النبي ﷺ كان آخذًا بيدَي ابن مسعود، وإن كانت رواية هذا الحديث قد اكتفت بذكْر يدِ ابن مسعود الواحدة. فإنّ المستفاد: أنه لم يكن يصافح النبي ﷺ بيدٍ واحدة، لأنه لا يقبل أن يصافحه النبي بكلتا يديْه وهو يصافحه بواحدة؛ فالمستبعَد مِن مثْله أن يبسط يدًا واحدة في حين أنّ النبي ﷺ قد بسط له اليديْن٢.
ونوقش هذا: بأن الوارد في حديث ابن مسعود غير مفيد في
_________
١ راجع: صحيح البخاري، كتاب الاستئذان ٥/٢٣١١.
٢ راجع: فيض الباري على صحيح البخاري لمحمد أنور الكشميري ٤ / ٤١١، وفضل الله الصمد في توضيح الأدب للجيلاني ٣ /١٧٤.
1 / 15
الاستدلال هنا على المصافحة باليديْن عند التسليم، لأنّ الذي حدث من ابن مسعود بحضرة النبي ﷺ، وما كان على هذا الحال كان بغرض التعليم، وما نحن فيه خلافُه١.
غير أنه إذا كان العرف السائد والمستقرّ في أحد الأماكن يسير على المصافحة باليديْن، فلا بأس في اتّباعه خاصة وأنّ في هذا كبير مودّة، لاسيما وأن المصافحة ترتبط بأخلاقيات وآداب الإسلام العامة بما تُحدثه من إشاعة روح المودّة والصفاء والتراحم والتآخي بين المسلمين، وذلك على نحو ما أورده الإمام البخاري من أثر حمّاد وابن المبارك٢.
فالتصافح في الأصل باليد الواحدة، وإن كان باليديْن ففيه زيادة تأكيد المودّة والبهجة والسرور والبشر بلقاء صاحبه المسلم؛ وهذا إن كان على وجْه التبادل كان أثره عظيمًا فيما بين الناس. وكيفية المصافحة
على هذا النحو هي: أن يَتمّ التصافح أوّلًا باليد الواحدة، ثم يشدّ على يد المصافح بيده الأخرى.
_________
١ راجع: تحفة الأحوذي للمباركفوري ٧/٤٧٧.
٢ راجع: المرجع السابق، نفس الموضوع.
1 / 16
وهذا كله بمراعاة أنه إذا كان المقصود بالمصافحة باليديْن إلصاق صفح كف اليمنى بصفح كف اليمنى من المصافح، وإلصاق صفح كفّ اليسرى بصفح كفّ اليسرى - يعني: بالعكس في الهيئة بين المتصافحيْن، على صورة المقراض، يعني المقصّ -، فهذا لا يصحّ لأنه على هذه الحالة يكون هناك مصافحتان، ونحن مأمورون بمصافحة واحدة لا بمصافحتيْن، فضلًا عن أنّ هذا لا يتحقّق معه الغرض من المصافحة عند اللقاء.
ومن الجدير بالتنبيه عليه هنا أيضًا: أنه يُستحبّ ألا يَنزع المصافِح يدَه من يد صاحبه حتى ينزع هو - يعني: المصافَح -. ودليل ذلك: ما رواه أنس بن مالك١ ﵁ "أنّ النبي ﷺ كان إذا لقيَه أحد من الصحابة فقام معه، قام معه - يعني: واقفًا - فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه. وإذا لقيَه أحد من
_________
١ أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، أبو حمزة الأنصاري. كان مولده بالمدينة في السنة العاشرة قبل الهجرة، وأسلم صغيرًا، وخدم النبي ﷺ إلى أن قُبض. ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى البصرة. ومات بها سنة ٩٣هـ. وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة.
راجع: الأعلام للزركلي ٢/٢٤، والإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني ١/١٢٦.
1 / 17
أصحابه فتناول يدَه ناوله إيّاها، فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يَنزع يده منه. وإذا لقيَ أحدًا من أصحابه فتناول أذنه –يعني: أحبّ أن يُسِرّ إليه– ناوله إياها، ثم لم يَنزعها حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها عنه"١.
وفي لفظ ابن ماجه: "كان النبي ﷺ إذا لقي الرجل فكلمه لم يصرف وجهه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف وإذا صافحه لن ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزعها ولم ير متقدما بركبتيه جليسًا قط".
_________
١ أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ١/٣٧٨، وابن الجعد في مسنده صفحة ٩٩٤، وابن ماجة في سننه ٢/١٢٢٤، وصححه الألباني في صحيح الجامع ٢/١٦٨.
1 / 18
المطلب الثاني: حُكم المُصافحة
المصافحة من الرجل للرجل وكذا من المرأة للمرأة: سُنّة، ويُندب إليها عند التلاقي؛ وقد أجمع على هذا كافّة الفقهاء في جميع الأعصار والأمصار. وجاء في "الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار ص": "اعلَمْ أنّها سُنّة مُجمَع عليها عند التلاقي"١. وقال المناوي: "فإنّ المصافحة سُنّة مؤكّدة "٢.
وقد أوضحتْ كثير من الأدلة مشروعيَّتها واستحبابها؛ فقد وردت السُّنّة النبوية المطهّرة والآثار الواردة عن صحابة النبي ﷺ، فضلًا عن إجماع الأئمة ﵏، بما يفيد تلك المشروعية على وجْه السُّنّة والاستحباب.
فمن السُّنّة المطهّرة:
_________
١ راجع: محيي الدين النووي صفحة ٢٣٩.
٢ فيض القدير شرح الجامع الصغير ٦/١١.
1 / 19
١ - ما رواه البراء بن عازب١ ﵁ قال: "ما مِن مُسلمَيْن يلْتقِيان فيتصافحان، إلاّ غُفر لهما قبل أن يتفرّقا" ٢.
٢ - ما رواه أنس بن مالك ﵁ أنه قال: "قال رجل: يا رسول الله، الرجل منّا يلْقَى أخاه أو صديقه، أيَنْحَني له؟ - يعني: يُميل الرأس والظهر تعظيمًا وتواضعًا -، فقال: "لا". قال: فيَلتزمه ويُقبِّله؟ قال: "لا". قال: فيأخذ بِيدِه ويُصافحُه؟ قال: "نعم" ٣.
٣ - ما رواه سلمان الفارسي٤ ﵁ أنّ رسول الله ﷺ قال:
_________
١ البراء بن عازب بن الحارث، الخزرجي. يُكنى: أبو عمارة. قائد صحابي من أصحاب الفتوح. أسلم صغيرًا وغزا مع رسول الله ﷺ خمس عشرة غزوة، أوّلُها غزوة الخندق. وشهد مع علي ﵁ الجمل وصفِّين. وتوفي في إمارة مصعب بن الزبير سنة ٧١هـ.
راجع: الأعلام للزركلي ٢/٤٦.
٢ راجع المسند ٤/٢٨٩، وسنن أبي داوود ٤/٣٥٤، وجامع الترمذي ٥/٧٤.
٣ راجع: الترمذي ٥/٧٥، وقال: "حديث حسن".
٤ سلمان الفارسي: صحابي من مقدَّميهم، كان يُسمِّي نفسه: سلمان الإسلام. أصله من رامهرمز، وقيل: من أصبهان. قصد بلاد العرب فلقيَه ركب من بني كلب فاستخدموه، ثم استعبدوه وباعوه. فاشتراه رجل من قريظة، فجاء به إلى المدينة. وعلِم سلمان بخبر الإسلام، فقصد النبي ﷺ بقباء وسمع كلامه، ولازمه أيامًا. أعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه، فأظهر. إسلامه. وكان قوي الجسم، صحيح الرأي. وهو الذي دل المسلمين على حفر الخندق في غزوة الأحزاب حتى اختلف عليه المهاجرون والأنصار كلاهما يقول: "سلمان منّا"، فقال ﷺ: "سلمان منّا، أهل البيت". جُعل أميرا على المدائن، فأقام فيها إلى أن توفي سنة ٣٦هـ.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني ٣/١٤١، الأعلام للزركلي ٣/١١-١١٢.
1 / 20
"إنّ المسلمَ إذا لقِيَ أخاه المسلم فأخذ بيده، تَحاتّتْ عنهما ذنوبُهما كما تَتحاتّ ١ الورقة في الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلاّ غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثْلَ زبَد البحر" ٢.
٤ - ما رواه البراء أيضًا أنّ رسول الله ﷺ قال: "أيّما مسلميْن يلتقيان، فأخذ أحدُهما بيدِ صاحبِه فتصافحَا، وحمِدا الله تعالى جميعًا، تفرّقا وليس بينهما خطيئة" ٣.
٥ - كما روى أيضًا قولَ النبي ﷺ: "ما مِن مسلمَيْن يلتقيان، فيُسلِّم أحدُهما على صاحبه، ويأخذُ بيَدِه لا يأخذه إلا لله لا يتفرّقان حتى يغفر لهما" ٤.
_________
١ تحاتّتْ: تساقطت. راجع: المصباح المنير للفيومي١/١٢٠.
٢ راجع: الطبراني في الكبير ٦/٢٥٦.
٣ أخرجه أحمد ٤/٢٨٩، وأبو داوود ٤/٣٥٤، وابن ماجة ٢/١٢٢٠، وصححه الألباني.
٤ حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في المسند ١٤/٢١٨ وصححه الألباني.
1 / 21
ومن الآثار:
١ - ما رواه كعب بن مالك١ ﵁ قال: "دخلت المسجد، فإذا برسول الله ﷺ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله٢ يهرول حتى صافحني وهنّأني"٣.
٢ - ما رواه البخاري عن قتادة٤ ﵁ قال: قلت لأنس: "كانت المصافحة في أصحاب النبي ﷺ؟ قال: نعم"٥.
_________
١ كعب بن مالك بن عمرو، أبو عبد الله الأنصاري السّلمي، من أكابر الشعراء من أهل المدينة. اشتهر في الجاهلية، وكان في الإسلام من شعراء النبي ﷺ، وشهد أكثر الوقائع. ولما قُتل عثمان، قعد عن نصرة علي فلم يشهد حروبه. وعمي في آخر عمره. وقيل: مات بالشام في خلافة معاوية سنة ٥٠هـ.
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة ٥/٦١٠، والأعلام للزكلي ٥/٢٢٨.
٢ طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي المدني، أحد العشرة المبشّرين، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام. شهد أُحُدًا، وثبت مع رسول الله –ﷺ، وبايعه على الموت، فأصيب بأربعة وعشرين جرحًا. شهد الخندق وسائر المشاهد. قُتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة، ودُفن بالبصرة سنة ٣٦هـ.
راجع: الأعلام للزركلي ٣/٢٢٩.
٣ أخرجه البخاري ٤/١٦٠٧، ومسلم ٤/٢١٢٦.
٤ قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز، أبو الخطاب السدوسي البصري، مفسِّر حافظ، ضرير أكمه. مات بواسط سنة ١١٨هـ.
راجع: الأعلام للزركلي ٥/١٨٩.
٥ رواه البخاري ٥/٢٣١١، والترمذي ٥/٧٥.
1 / 22
هذا فضلًا عن الإجماع:
فقد أجمع الفقهاء وأئمة المذاهب على مشروعية المصافحة، وأنّها سُنّة؛ وفي هذا يقول الإمام النووي عن المصافحة: "اعلَمْ أنّها سُنّة مُجمَع عليها عند التلاقي"١.
وقال ابن بطال: " ... المصافحة حَسنة عند عامّة العلماء، وقد استحبّها مالك"٢.
وجاء في "فتح الباري" قولُ ابن حجر: "قال ابن عبد البر٣: روى ابن وهب٤ عن مالك: أنّه كرِه المصافحةَ والمعانقة؛ وذهب
_________
١ راجع: الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار صفحة ٢٣٩، والمجموع ٤/٤٧٥.
٢ راجع: فتح الباري ١١/٥٧.
٣ هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النمري الأندلسي. وُلد بقرطبة عام ٣٦٨هـ، ورحل رحلات طويلة في غربي الأندلس وشرقيها. ولي قضاء لشبونة وشنترين. له مصنّفات كثيرة منها: "التمهيد" و"الاستذكار". توفي بمدينة شاطبة شرق الأندلس عام ٤٦٣هـ.
راجع: سير أعلام النبلاء ١١/٣٥٩-٣٦٤، الديباج المذهّب ٢/٣٦٧-٣٧٠، والأعلام ٨/٢٤٠.
٤ عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري بالولاء المصري، أبو محمد. من أصحاب الإمام مالك. كان حافظًا ثقة مجتهدًا. عُرض عليه القضاء فخبأ نفسه ولزم منزله. توفي بمصر سنة ١٩٧هـ.
راجع: الأعلام للزركلي ٤/١٤٤.
1 / 23