المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب
المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب
प्रकाशक
دار العاصمة للنشر والتوزيع
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤١٧ هـ
शैलियों
ـ[المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب]ـ
المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى بن غيهب بن محمد (المتوفى: ١٤٢٩هـ)
الناشر: دار العاصمة - مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي بجدة
الطبعة: الأولى، ١٤١٧ هـ
عدد الأجزاء: ٢ (في ترقيم مسلسل واحد)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، مقابل عليه، ومذيل بالحواشي]
अज्ञात पृष्ठ
تقديم
معَالي الأمِين العَام لمجمَع الفقه الإسلامي
الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة
المقدمة / 1
- أ -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
نَحْمَدُكَ اللهم أن جَعَلْتَ مِنْ وَحْيِكَ المُقَدَّس هدى وموعظة وتبيانًا لِكُلِّ شيء، وَحَمَلْتَ عبادك المؤمنين على عبادتك حق العبادة بإقامة وجوههم للدين القيم، فطرتك التي فطرت الناس عليها، وفرضت عليهم فروضًا كثيرة، أجلُّها الإيمان تطهيرًا لهم من الشرك، والصلاة تنزيها لهم عن الكِبر، والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين، والجهاد عزا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، والنهي عن المنكر ردعًا للفساد، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنًا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، كما شرعت لهم السلام أمانًا من المخاوف، والأَمانات نظاما للأمَّة.
ونصلي ونسلم على عبدك ونبيك خاتم رسلك الأمين محمد بن عبد الله الذي بلغَ الدعوة وأَدَّى الرسالة، وكان حريصا على المؤمنين رؤوفا بهم ورحيما، يدعوهم إلى الخير، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم، ويحثهم على التفقه في الدِّين استكمالا للمعرفة، والتزاما بالإسلام، ووقوفا عند حدوده، كما محض لهم النصيحة بحملهم على التمسك بالمصدرين الأساسيين للشريعة الباقية الخالدة في قوله: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي". فاللهم اجزِ عنا إمامنا وحبيبنا ورسولنا خير خلقك أفضل الجزاء وأَكمله وأتمه، واجعلنا له
المقدمة / 3
- ب -
من التابعين، وبه من المهتدين، ولسنته من الحافظين، ولمنهج الله منهجه من المقيمين والمتمسكين به إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد شرفنا الله بخدمة دينه، وإقامة شرعه، وحفظ ملته، حين هيأ لنا أسباب الاجتهاد الجماعي في هذا العصر عن طريق المؤسسات الدينية الفقهية مثل: مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء بالرياض، ومجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة بوابة الحرمين الشريفين.
وقد التقت في هذا المجمع الكبير أَكثر المذاهب الفقهية الإسلامية الباقية إلى اليوم، ممثلة في المنتسبين إليها والقائمين عليها من علماء الدول الإسلامية جميعها، كما انضم إليه خبراء وأخصائيون من فقهاء، وأصوليين، واقتصاديين، وأطباء، وفلكيين، وحكماء، وغيرهم، من أَهل النظر البعيد، والفكر الإسلامي القويم.
وقد عنَى المجمع فيما عنى به بالتراث الفقهي فأَصدر كتابه الأَول: "عقد الجواهر الثمينة فى مذهب عالم المدينة" لجلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس. وهو من أمهات الكتب الفقهية في المذهب المالكي، معدود من بين المصادر الخمسة لكتاب "الذخيرة" للقرافي يعتمده وينقل كثيرًا منه، وكان الناس في مسيس الحاجة إليه حتى مَنّ الله علينا بنشره وإصداره برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، أجزل الله مثوبته.
المقدمة / 4
- جـ -
واليوم يسعد مجمع الفقه الإسلامي الدولي أن يقدم لحفظة المذهب الحنبلي، والمجتهدين، وللعلماء، والدارسين، وللباحثين، وطلاب الفقه، كتابه الثاني: "المدخل المفصَّل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب" وهو تصنيف وتأليف لا تحقيق ونشر تراث، صنعةُ العلاَّمة الفقيه الأصولي النظار أَبي عبد الله الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي. وهو كتاب يضم ثمانية مداخل: يخدم في الخمسة الأولى منها المذهب، يُعرِّف بأصوله، ويفسِّر مصطلحاته، ويضبط للدارسين طرق معرفته، ومسالك الترجيح فيه، كما يفرد المداخل الثلاثة الباقية بالترجمة للإمام أحمد بن حنبل شيخ السنة وصاحب المنة على الأمة، والتعريف بعلماء المذهب، وكتبه.
وهو من أَجلّ ما كتب من المداخل في هذا العصر جمعا، وإتقانا، وتحليلًا، وعمقا، ونظرا، وتفصيلًا، تسنده المعرفة الواسعة، والفهم الصائب، والتتبع الدقيق لأَعمال النظار والباحثين وتصرفاتهم وما وضعوه من كتب، وصنفوه من دراسات وبحوث ومؤلفات، فجاء كما يؤمل صاحبه جامعا للفوائد، مقيدا للشوارد، حافلًا بالمسائل العلمية النادرة المستجادة، والاستنباطات الفقهية المؤيدة بأدلتها، والمطايبات المختلفة، واللطائف المتعددة المجانسة لها.
وقد رأيته منوهًا بتهذيب الأجوبة لأبي عبد الله الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي ت ٤٠٣، المتميز في تفسير مصطلحات الإمام أحمد، كما ألفيته مقارنا له بكتاب "الرسالة" للإمام الشافعي في التأصيل
المقدمة / 5
- د -
والتقعيد، وحلو العبارة، ودقة الإشارة، وتحليلاته اللغوية، ووجدته في نفس المكان يشيد بالمدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل للعلامة عبد القادر ابن بدران الدومي الدمشقي ت ١٣٤٦، الذي ضمنه صاحبه جُل ما يحتاج إليه المشتغل بالمذهب. فعُدَّ بذلك عملا فريدا، ومصنفا عجيبًا؛ لما حواه من مقاصد، وجمعه من مسائل، وفوائد.
وهو يشير إلى ما بين هذين الكتابين المتباعدين زمانا، نحوًا من تسعة قرون ونصف، من رصيد كبير وتأسيس متين للفقه الحنبلي، فيعد من ذلك كتب الفقهاء، والأصوليين، وكتب التراجم، والطبقات، ومباحث الاجتهاد والتقليد ونحوها. وهو حين يذكرني بقول ابن بدران في مقدمة مدخله: "وسلكت به مسلكا لم أجد غيري سلكه حتى صار بحيث يستحق أن يكون مدخلا لسائر المذاهب، وليس على المخترع أن يستوفي جميع الأقسام بل عليه أن يفتح الباب": يردد على سمعي قول الآخر: "كم ترك الأول للآخَر"، مؤكدا عليه ببيت أبي العلاء:
وإنِّي وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه ... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
ويحمله ذلك كله على الائتساء بالمتقدمين المقدّمين، بالسير على نهجهم، والاستدراك عليهم بالتتبع والاستقراء لكتب المذهب في الفقه وعلومه من حين تأسيسه وتدوينه إلى اليوم، وبالترجمة والتعريف بعلماء المذهب بحسب أوطانهم، وأعصارهم، وبيوتاتهم، وطبقاتهم، وبإعجام مصطلحات المذهب، والكشف عن معانيها، وتغير المراد منها، اتفاقًا، أو اختلافا، وبيان روايات المذهب وطرائق علمائه في التخريج ومسالك
المقدمة / 6
- هـ -
الترجيح لديهم. ويتضح ذلك لمن يقارن بين كتاب ابن بدران، وعقوده الثمانية وبين المدخل المفصَّل وأقسامه التي تضمنت هي الأخرى عددًا كبيرًا من الفصول والمباحث، ازدادت بها أهميته، وفاقت بها منزلته، ويفصل المؤلف القول في ذلك في ثمانية مداخل يستحق كل واحد منها أن يكون تأليفا مستوفى مستقلا بما وضع له.
فالأول: ذو ستة مباحث تناول فيها تعريف "المذهب" و"الفقه" تعريفا دقيقا، ذاكرا الأنواع الخمسة للفقه المدوّن، وباسطا القول في تاريخ التمذهب بالفقه الحنبلي، وواقفا عند موضوع الاجتهاد وأثره في الفقه، ومنبها إلى شروط نقل المذهب ووجوب الحرص على التوقي من الخطأ في نقله مع الكشف عن أسباب الخطأ.
والثاني: معارف عامة عن المذهب أبرزَ خلالها الأدوار الخمسة للمذهب الحنبلي، منوها بمزاياه، وموردا جملة ما كتب عن التعريف بالمذهب.
الثالث: بيان لأصول المذهب، يلتقي فيه مع العقد الثالث من مدخل ابن بدران.
الرابع: في مصطلحات المذهب التي جَمَعَ قَدْرًا منها، ابن بدران في العقد السادس، وهو يتكون من تمهيد وفصول ثلاثة، خص الأول منها بألفاظ الإمام أحمد، والثاني بمصطلحات الأصحاب العامة في نقل المذهب وحكايته والترجيح فيه وهو خمسة أقسام، والثالث بمصطلحات الأصحاب في نقل بعضهم عن بعض.
المقدمة / 7
- و-
الخامس: في التعريف بطرق معرفة المذهب ومسالك الترجيح فيه وهو جد مفيد، وهو صنو العقد الرابع عند ابن بدران، افتتحه الشيخ المؤلف بتمهيدات ثلاثة تدور حول ماهية المذهب، وعناية الأصحاب به، ومعرفة طرقه، وتحديد مراتب الناس في ذلك.
وعقب ذلك بالحديث عن جملة تلك الطرق وهي: القول، والفعل والسكوت، والتوقف. وفصَّل الحديث عن ذلك في ثلاثة فصول: الأول منها في بيان طرق معرفة المذهب من خط الإمام وأقواله ونحوها ومن كتب الرواية عنه. وقسم أقوال الإمام من جهة القبول والرد إلى خمسة أقسام، ومن جهة إفادتها مرتبة الحكم التكليفي في منطوقها إلى أربعة أَقسام. وأَتبع ذلك بالحديث عن الطريقين الثاني والثالث وهما: الفعل والسكوت، أَما الطريق الرابع وهو التوقف فقد جعله على قسمين: الأَول: توقف الإِمام أَحمد في الجواب لتعارض الأَدلة وتعادلها عنده، والثاني: توقفات الأَصحاب في المذهب.
الفصل الثاني من المدخل الخاص في طرق معرفة المذهب من تصرفات الأصحاب في التخريج على المذهب ولازمه. وبحث في ذلك الاستدلال وتخريج الفروع على الفروع، وتوقفات الأصحاب في المذهب.
والفصل الثالث من هذا المدخل في بيان مسالك الترجيح عند الاختلاف في المذهب عامة، عاقدا لهذا الغرض المهم مباحث خمسة تناول فيها أنواع الاختلاف في المذهب، ومسالك الترجيح عند الاختلاف، ومعرفة المرجحات، وتحديد من له حق الاختيار والترجيح في
المقدمة / 8
- ز -
المذهب، وبيان مصطلحات العلماء في حكاية الخلاف والترجيح.
السادس: قصره على ترجمة الإمام أحمد بن حنبل، وفيه مباحث خمسة: تعرض في الأول منها إلى عيون المعارف في ترجمة الإمام، وفي الثاني إِلى بيان منزلته محدثا وفقيها، وفي الثالث إلى تحديد العلاقة بين مذهبه ومذهب الإمام الشافعي، وفي الرابع إلى قضية القول بخلق القرآن وما كان فيه من محنة الإمام التي تطورت على مدى ثلاثة وعشرين عاما من فتنة إِلى محنة ومن محنة إِلى نصرة، وفي الخامس إِلى مناقب الإمام وخصاله ﵀. ولهذا المدخل علاقة بما ورد عند ابن بدران في العقد الأول.
السابع: في علماء المذهب وهو ذو فصول ثلاثة: الأول في معرفة التآليف المفردة عن الإمام وعن الآخذين عنه وعن علماء المذهب، والثاني في معرفة طبقات الأصحاب، والثالث في معارف عامة وفيه سبعة مباحث مهمة منها تقريب عددهم استمدادا من طبقاتهم المطبوعة، وآفاق الحنابلة وأوطانهم وبيوتاتهم في مختلف البلاد، وآخر عن التحول المذهبي وما يندرج فيه من أصناف، مع ضبط دقيق لمشتبه الأسماء والكنى والألقاب والمبهمات وهو تكميل لما ورد في العقد الثاني من مدخل ابن بدران.
الثامن: في التعريف بكتب المذهب. وهو ما خصص له ابن بدران العقدين السابع والثامن من مدخله.
وفي هذا المدخل من الشمول والتنوع والتفصيل ما لا يدرك مثله.
المقدمة / 9
- حـ -
افتتحه المؤلف بتمهيد عن الثروة الفقهية في مذهب الإمام مفصلا القول فيما لإمام المذهب من الكتب، وفيما روي عنه من ذلك في المسائل، وفي الكتب الجامعة للرواية عنه، ثم مستعرضا للمتون وما تبعها من شروح أو تعليقات أو حواشي وهي أَربعة وعشرون كتابا، وللمتون المفردة التي لم يشتغل بها، كما تعرض للمؤلفات المفردة في بعض الموضوعات الفقهية، وللكتب الجوامع وذكر من ذلك تصانيف في الخلاف، وفي المفردات، والاختيارات، وفي الفتاوى، وفي الأَلغاز وفي لغة الفقهاء، وفي الفروق، والقواعد الفقهية والأصولية والضوابط، كما تحدث عن كتب أصول الفقه، وعما نشر من الأبحاث العلمية حول كتب المذهب.
جهد عظيم، وعمل جليل، وقدرة فائقة على التتبع والمراجعة، وسعة نظر، ودقة فهم: تلك سمات هذه المداخل الثمانية. أَغنَت بما جمعت، وأفادت بما وسعت، ووجهت بما صنعت، فلكأن صاحبها، وهو ينظمها نظما بديعا ويعدها هذا الإعداد الكامل المحكم، ليتردد في خاطره قول ابن نُباته:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل ... إن المحامد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرًا ... عن غاية فيها الطلاب سباق
ولكأنه وهو ماض في بحثه وتنقيبه، وضبطه وتحقيقه، وبذله وعطائه؛ ليعيد على أسماعنا قول حسَّان:
إذا قال لم يترك مقالًا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
المقدمة / 10
- ط -
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي أرب في القول جدًّا ولا هزلا
هذا وإن الواقف على "المدخل المفصَّل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب" للدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ليعد الظفر بهذا الكتاب نعيما، والنظر فيه فتحا عظيما، كيف وهو في هذا العصر الركيزة في معرفة مذهب الإمام أحمد، الجامعُ لما تفرق في غيره من علوم وفوائد، المرشدُ بأقسامه وفصوله وبحوثه وتنبيهاته، وبما احتوت عليه فهارسه إلى كل المراجع والمصادر المتعلقة بفقه السلف، فقه الإمام ومحاور مذهبه، في أصوله وجذوره، وبتراجم أصحابه ورجاله، وتخريجاتهم واجتهاداتهم فيه، وهو بقدر ما يركز على هذه الجوانب الضرورية لمعرفة المذهب الحنبلي، ينبه على الروايات الغريبة والتخاريج الضعيفة المبثوثة في تضاعيف بعض التصانيف، قصد تنقية المذهب منها، والحيلولة دون قصيري النظر من غير المتمكنين في الفقه وأصوله، من تسليك المناهي في سلك الإباحة المطلقة، فيحيدوا بذلك عن الحق، وينابذوا الدليل، ويخرجوا عن المذهب، ويفتوا الناس بغير علم.
وتزداد الحاجة اليوم إلى هذا الأَمر أمام القضايا المستجدة المتولدة عن التطورات الحضارية والعلمية، وما نجم وينجم عنها من تغيرات فكرية ومذهبية، اقتصادية وطبية ونحوها، فيتأكد العمل وبذل الوسع في ترقية المدرسة الفقهية والنهوض بها، ودعوة المتفقهين إلى اعتماد الأصلين الأساسيين مصدري شريعتنا المطهرة، ومعرفة طرائق الأسلاف
المقدمة / 11
- ي -
في تصرفاتهم واستنباطاتهم، ومناهجهم في استدلالاتهم، ومراعاة مقاصد الشريعة في الأحكام، ومَن سلك الجَدَد أَمِن العثار.
ولتقرير هذا الأَمر في نفوس الناشئة وتمكينهم من الوقوف على الموثوق به من المصنفات والكتب عقد المؤلف مبحثا في إسناد كتب المذهب متحدثا فيه عن الكتب الأم الموثقة، وعن أنواع التوثيق الثلاثة: بإسناد المرويات، وبإسناد الكتب، ويذكر ما وضع من توقيفات ومقابلات على بعض الكتب الموثقة بخطوط العلماء، كما تحدث عن جملة من الأَسانيد عدّ منها الإسناد الشامي، والإسناد المسلسل بالحنابلة المصريين، والإسناد المسلسل بالحنابلة النجديين والأحسائيين، وحرصا منه على الاندراج في رعيل الرواة الموثّقين المأمونين وحفظة المذهب من الفقهاء؛ ذكر المؤلف أسانيده التي تصله بأثبات ومسلسلات ومشيخات الفقه الحنبلي، مثبتا مع ذلك أسانيدهم وطرق رواياتهم العديدة إلى كتب الإِمام، وكتب الرواية عنه، وكتب علماء المذهب، أمثال الخلال، وأَبي بكر عبد العزيز، والخرقي، والحسن بن حامد، وآل أَبي يعلى، وآل قدامة، وآل بني عبد الهادي، وآل مفلح، وآل تيمية، وآل بني قيم الجوزية، وآل عبد الباقي، والحجاوي، والبهوتي، وأضرابهم.
ومثل هذا التخريج الدقيق في المذاهب الفقهية قمين بالبلوغ بصاحبه إلى درجة الاجتهاد في هذا العصر، كما أنه كفيل بأن يكون له الأَثر الكبير في اتساع الأنظار الاجتهادية وتنمية الثروة الفقهية في كل مذهب. وهكذا يمكن لمن بلغت بهم مداركهم ومعارفهم، وسمت بهم
المقدمة / 12
- ك -
قدراتهم ومواهبهم إِلى مراتب العلماء المحققين والفقهاء المتمرسين بالأَحكام الشرعية علما وعملا، أن ينتصبوا إلى إِعمال الفكر وإِجالة النظر في الواقعات المستجدة، والحوادث والنوازل العارضة، بحُسن تفهمهم، وعميق تفقههم، وكمال تدبرهم في فهم النصوص وتطبيقها، وباستخراجهم الأدلة لها من الكتاب والسنة، وبإِعمال القياس فيما لا نص فيه منها على ما وردت به النصوص، وبالاستناد إلى الاستحسان والاستصلاح والعرف وسد الذرائع والقواعد الكلية والمقاصد الشرعية ونحو ذلك، طلبا للحكم الشرعي وتوصلا إلى معرفته.
ولضبط ذلك كله عقد المؤلف مبحثا خاصا بالاجتهاد، وهو المبحث الخامس من المدخل الأَول من كتابه، فصل فيه القول في بيان ماهية الاجتهاد، والتعريف بالمجتهد ومراتبه، ومجالات الاجتهاد وأسبابه وأنواعه وحُكمه وحكمته، ومن العلامات على طريق الاجتهاد التي نصبها المؤلف: تفريقه بين الفقه والشرع، وتقريره شمولية الشرع المطهر وصلاحيته لكل زمان ومكان، واعتباره الجسر الممتد في الإسلام معلنا خلوده ونفاذه، واعتداده بقول ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وعليكم بالأمر العتيق". وتقسيمه الأَحكام الشرعية إلى قطعيات لا تقبل الخلاف وظنيات في الفقهيات العملية المكتسبة وبعض المصادر التبعية يجوز فيها ذلك، وتفصيله القول في فهوم المجتهدين وفي اختلاف المِذاهب، وتأكيده أن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب على العباد، وتنبيهه إلى ما وقع الناس
المقدمة / 13
- ل -
فيه من الخلط ببن تاريخ التشريع الإسلامي الذي اكتمل في عصر الرسالة بوفاة الرسول ﷺ وبين تاريخ الفقه الإسلامي، وتعريضه بمن اختلَّتْ أذواقهم وساورتهم الأهواء ومجاراة الأغراض، وتحذيره من الفتاوى المغتصبة والفتاوى الطائرة والفتاوى الشاذة الفاسدة، وكل تلك مسائل مهمة تعمق الشيخ بكر درسها بكمال دين، وثبات يقين، وقوة فحص، وعميق نقد:
خدم العلى فخدمته وهي التي ... لا تخدم الأَقوام ما لم تُخدَم
أَجزل الله مثوبته، وأتم عليه نعمته، جزاء من أحسن عملا وبذل نصحا.
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي - جدة
المقدمة / 14
المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب
ولد الإمام في ٢٠/٣/١٦٤ وتوفي في ١٢/٣/٢٤١
عن " ٧٧ " عاما و" ١١ " شهرا و" ٢٢ " يوما
رحمه الله تعالى
تأليف
بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس المجمع
تقديم
معالي الأمين العام للمجمع
د. محمد الحبيب ابن الخوجة
الجزء الأول
دار العاصمة
للنشر والتوزيع
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 4
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةِ من الرسل بقايا من أَهل العلم؛ يَدْعُون من ضل إِلى الهدى، ويَصْبرون منهم على الأَذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بِنُوْرِ الله أَهْلَ العَمَى، فكَمْ مِنْ قَتِيْلٍ لِإبليس قَد أَحيوه، وكم من ضال تائهِ قد هَدَوْه، فما أحسن أَثرهم على الناس، وما أَقبح أَثر الناس عليهم، يَنْفُون عن كتاب الله تعالى تحريفا الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الَّذين عقدوا ألوية البدعة، وأَطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، يَقُوْلون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، وَيَتكَلَمُون بالمتشابه من الكلام، ويَخْدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلين (١) .
_________
(١) هذه الخطبة اقتباس من الخطبة التي افتتح بها الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - كتابه: " الرد على الزنادقة والجهمية " وقد طبعَ مرارا وانظرها في: إعلام الموقعين ": (١/ ٩)، و" اجتماع الجيوش الإسلامية ": (ص٨١)، و" الصواعق المرسلة ": (١/ ١٠٧- ١٠٨)، وكتاب الفوائد ": (ص ١٠٥)، و" جلاء الأفهام ": (ص ٢٤٩) . و" طريق الهجرتين ": (ص. ٦٢) وفيها ذكر أن ابن وضاح في كتابه " البدع والنهي عنها " أسندها بنحوه عن عمر بن الخطاب- ﵁ وهي في كتاب ابن وضّاح برقم/ ٣ ص/ ٣٢.
1 / 5
وأَشهد أَن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريك له في ربوبيَّته، ولا في ألوهيته، ولا في أَسمائه وصفاته، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وعلمه بكلِّ شيء محيط. وأَشهد أَنَّ محمدًا عبده ورسوله المصطفى ونبيه المجتبى صلى الله، وملائكته، وأَنبياؤه، ورسُلُه، والصَّالحون من عباده عليه، وعلى آله، وعلى أَصحابه، وعلى التَّابعين لهم بإحسان إِلى يوم الدِّين وسلَّم تسليما كثيرا
- أَما بعد: فإِنَ التأسي (١)، والمُتَابَعَةَ، والاقْتِدَاءَ، بِصَاحِبِ هَذه الشَريْعَةِ الإسلامية المُبَارَكَةِ الغَرَّاء، خَاتَمِ الأَنبياء والمرسلين، وسَيِّد وَلَدِ آدم أجمعين، نبينا ورسولنا محمد ﷺ: هو رَأْسُ مَالِ المسلم، اعتقادا، وقولًا، وعملًا، في مَدَارِجِ الشرع المُطَهَّر، الكَامِنِ في الوحيين الشريفين.
- وهذا- وايم الله- عنوان محبة العبد لربه، كما قال- سبحانه -: " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [آل عمران/٣١]
- ولُبَابُهُ عِبَادَةُ اللهِ وتوحيده - سبحانه - وهو المقصود من خلق الله للثقلين، كما قال - تعالى -: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " [الذاريات/ ٥٦]
- وهذا مدار دعوة كل نبي ورسول، كما ذكر الله في القرآن عن دعوة: هود، وصالح، وشعيب: " يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ " [الأعراف/ ٦٥، ٧٣، ٨٥]
_________
(١) انظر عن: التأسي، والمتابعة: " شرح الكوكب المنير " ٢/ ١٩٦، و" المسودة " ص/ ١٨٦.
1 / 6
وقال سبحانه- عن دعوة جميعهم: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ " [النحل/ ٣٦]
- وهذا مقتضى الشهادتين في الإسلام: أَن لا يعبد إِلاَّ الله، وأَن لا يُعبد الله إلاَّ بما شرع.
وعلى هذا تدور رَحَى التشريع، ولهذا صارت سورة الفاتحة جامعة لمعاني القرآن الكريم. ثم هذه في آية واحدة منها: " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ".
- وهذا مقتضى أَول أَمر في كتابا الله في أَوائل سورة البقرة: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [البقرة/ ٢١]
وفي هذه الآية والآيتين بعدها مضمون الشهادتين.
- وهذا مقتضى ما أَمر الله به، وقضى وأَوجب، وأَلزم وحكم وهو خير الحاكمين، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. قال - تعالى -: " مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " [يوسف/٤٠]
وقال- سبحانه-: " وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
1 / 7
إِحْسَانًا " [الإسراء/٢٣]
- وهذا الأَمر العظيم، هو فاتحة كتاب الله، وخاتمته، لِإشعار المسلمين، بأَن ما بين الدفتين من آيات القرآن وسُوره، هو لتحقيق عبودية العبد لربه، وتوحيده له، ذلك أَن الله- سبحانه- افتتح كتابه بتوحيده في ألوهيته، وربوبيته، في قوله -تعالى-: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وبتوحيده- تعالى- في أَسمائه وصفاته في قوله- عَز َشأنه-: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وختم كتابه بذلك في " سورة الناس ": قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (*) مَلِكِ النَّاسِ (*) إِلَهِ النَّاسِ) . ومعلوم أن توحيد الله في أَسمائه، وصفاته في هذه السورة على طريق التضمن والالتزام في نوعي التوحيد المذكورين نصًّا.
وهذا الاتباع والتأسي للشرع المطهر في أَبواب الدين كافة هو الطريق الموصل للعبد إِلى رضوان الله، ونعيم جنته.
قال الله- تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء/١٩] .
وَمَنْ تتبَع أَسْرَارَ التنزيل، وجَدَ فِيْهِ مِنْ تعظيم أَمر هذا الدِّين عجبا.
فمن تعظيم الله لدينه أَن من أَخلَّ بتوحيده - سبحانه - مشركا معه غيره، فإِن الله لا يغفر له شركه، قال- تعالى-: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا " [النساء/ ٤٨]
1 / 8