Al-Harakah Al-Wahhabiya (Response to an Article by Mohammed Al-Bahi Criticizing Wahhabism)
الحركة الوهابية (رد على مقال لمحمد البهى في نقد الوهابية)
अन्वेषक
أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله التويجري
प्रकाशक
دار السنة
संस्करण संख्या
الأولى ١٤٢٨ هـ
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٨ هـ
शैलियों
مقدمة
لأستاذنا الدكتور محمد البهي١ كتيب نشرته "دار الفكر" ببيروت، عالج فيه الفكر الإسلامي في تطوره وتتبعه في أدواره المختلفة بين الصعود والهبوط، وبين الحركة والجمود.
وقد عقد في هذا الكتيب فصلًا عن الحركة الوهابية، باعتبارها امتدادًا للحركة الدينية الإصلاحية التي قام بها في القرن الثامن الهجري شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀.
وقد ملأ الدكتور الكبير مقاله عن الوهابية بمزاعم لا تتفق مع الحق، ولا سند لها من الواقع، ونقدها نقدًا جانب في الإنصاف، ولم يراع فيه موازين البحث العلمي.
ومعلوم أن النقد النزيه لأي أمر من الأمور، هو الذي لا يغمط الحسنات بقدر ما لا يغفل السيئات، ولكن دكتورنا لم يذكر لهذه الحركة المباركة ولا حسنة واحدة، بل كل ما ورد في مقاله عيوب ومثالب، وإلقاء التهم جزافًا بلا حساب، مما يوحي بأنه كان واقعًا تحت تأثير عوامل معينة.
نعم، إن الذي يقرأ النقد الموجه من الدكتور البهي للحركة، ثم يوازن بينه وبين المبادئ الذاتية لتلك الحركة، وما قامت به في الماضي ولا
_________
١ هو الدكتور محمد كامل البهي، من الوزراء المصريين. ولد بمصر، وتخرج بالأزهر، ثم التحق بالجامعات الألمانية، وتأثر بأفكار جمال الدين الأفغاني. عاد إلى بلده مدرسًا في كلية أصول الدين. وتولى وزارة الأوقاف، له العديد من المؤلفات. وكانت له جهود فيما يُسمى بتطوير الأزهر. توفي رحمه الله تعالى سنة ١٤٠٣هـ. انظر مشكورًا: موسوعة أعلام مصر ص ٤٠١، ومئة شخصية مصرية ص ٢٠٥-٢٠٧.
1 / 18
تزال تقوم به من إصلاحات ضخمة في مجالي العقيدة والعمل، يعجب للمصادر التي اعتمد عليها الدكتور في نقده، بحيث لا يداخله أدنى شك في أنه استقى ذلك مما كتبه أعداء الحركة عنها.
وعهدنا بالدكتور الكبير أنه يسلك دائمًا في كل ما يكتبه سبيل التحقيق العلمي، ويلتزم جانب الدقة والتمحيص، وقد تعلمنا نه ذلك أثناء تتلمذنا له في مادة الفلسفة الإسلامية بالدراسات العليا بكلية أصول الدين إحدى كليات الجامعة الأزهرية. وكان لي أنا شخصيًا شرف إشرافه على رسالتي التي حصلت بها على العالمية من درجة أستاذ، وكانت بعنوان: "ابن تيمية السلفي".
ولكنه في هذا الفصل من كتابه خالف معهوده، فألقى القول على عواهنه، من غير تثبت ولا تحقيق.
ونستأذن أستاذنا الكبير أن نناقش ما كتبه عن تلك الحركة قضية قضية، فإنه مهما كان عزيزًا علينا وحبيبًا إلى قلوبنا، فإن الحق آثر عندنا حتى من نفوسنا، وقديمًا ناقش أرسطو فلسفة أستاذه أفلاطون وقال في ذلك كلمته المشهورة:
"أفلاطون صديق، والحق صديق، ولكن الحق آثر لدينا من أفلاطون"١.
_________
١ ومن هذا المنطلق قال الإمام ابن قيم الجوزية ﵀ في شرحه لمنازل السائرين للإمام الهروي وفي أثناء تعقبه لبعض أخطائه ﵀: "شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه، وكل ما عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك. ونحن نحمل كلامه على أسحن محامله ثم نبين ما فيه" أنظر مشكورًا "مدارج السالكين بين منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
1 / 19
تمهيد
...
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد:
فإن من حق الشيخ محمد بن عبد الوهاب علينا أن ننصفه؛ لأنه لم يقل، ولم يفعل، إلا ما يستحق الإنصاف، بل والإشادة به، والدعاء له.
إن الرجل- بأدب جم، وتواضع شديد، ورغبة خالصة فيما عند الله- كان يقول لنا في كل موقف: إنه لم يأت بجديد، ولم يبتدع شيئًا من عنده، وإنه متبع لا مبتدع، منطلق من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، ومن سنة رسوله ﷺ القولية والفعلية والتقريرية، وأن مردّ كل آرائه، وأقواله وأعماله الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح.
فما بال بعض الناس يعمدون إلى ظلم هذا الرجل؟.
وأنا أحيانًا أسأل –متعجبًا- نفسي: لما يظلمونه؟.
وكيف يظلمونه؟ وما الذي يحملهم على ظلمه، ومنهجه هو منهجه الذي ألمحنا إليه؟!.
أتراهم يرفضون منهج التشبث بكتاب الله وسنة رسوله ومنهج السلف الصالح، ويريدون منهجًا آخر يتجاوز القرآن والسنة. ويسقط عليهما
1 / 2
من الأهواء والانحرافات، ثم يزعمون – بعد ذلك- أن منهجهم منهج إسلامي!!.
إنه موقف يدعو إلى الحيرة....ويبعث على الباحث فيما وراء المواقف والكلمات!.
والحق: أن هذا هو الفرق بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ وبين خصومه هداهم الله، الذين هاجموه، جهلًا ما يدعو إليه تارة، وعن علم تارة أخرى ... وسواء أكان ذلك عن جهل أم عن علم، فإنه رفض لمنهجه الذي يتشبث فيه بالانقياد الكامل للكتاب والسنة، فأصحاب الأهواء والانحرافات يرفضون هذا الانقياد، حتى وإن جادلوا لكي يبقوا في دائرة الإسلام، محاربين كل من يحاول تبصيرهم بأنهم -عرفوا أو لم يعرفوا - يخرجون عن الإسلام؛ لأنه يجعلون "العقل" مكان الوحي، و"الهوى" مكان النص، و"الضغوط العصرية" مكان الثوابت الإسلامية، ويريدون - أدركوا أو لم يدركوا- أن يدور الكتاب والسنة وراء تقلبات العصور، منقادين لا قائدين، يتكيّفان وفق متقلبات الآراء والأفكار والسلوكيات، حتى ولو خرجت على نواميس الفطرة ... ولا يكيّفان الحياة وفقًا لما أنزل الله.
لمن يكن عمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا الجهاد، انطلاقًا من القرآن والسنة الصحيحة؛ كي تعود أمة التوحيد إلى التوحيد؛ لأن في ضياع عقيدة التوحيد أو تشويهها أو مزجها بأوشاب الشرك وأدرانه،
1 / 3
في عقيدة المسلم، ضياعًا لها في العالم الإنساني كله، فلا يبقى هناك دين صحيح يكون حجة على الناس يوم القيامة!!!.
وهذ مخالف لسنن الله.
وقد أحسن الشيخ العلامة محمد خليل هراس في هذا الرد حين عرض هذه القضية على هذا النحو.
أجل: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- في كل رسائله، وفي كل دروسه، وفي كل جولاته، وحتى عندما واتته الفرصة، بعد رحلة جهاد طويلة، كي يجد الدولة التي تنصره وتحمل معه رسالة التوحيد، بالكلمة والفعل، وبالدعوة والعمل، في كل ذلك كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب داعيًا إلى الاحتكام لكتاب الله وسنة رسوله، وإلى عودة قيادتهما لأمة الإسلام ومجتمعات المسلمين ... وكان يرى أن هذه العودة الصحيحة تناسب العقل الصحيح، ولا تصادره، وأنها تفتح أما المسلمين الممزقين المختلفين ثمرات الوحدة والتقدم، بل والتفوق على الحضارات المعاصرة والمناوئة لهم، كما كان شأن أسلاهم مع هذا الدين.
وبالكلمة القوية المؤمنة المنطلقة من قلب سليم مخلص لهذا الدين زاهدًا في عرض الدنيا، والمنطلقة من عقل أحسن فقه الإسلام فقهًا متوازنًا شاملًا، وعاش الإسلام إيمانًا وعبادة وعملًا وجهادًا بالكلمة والعمل ... وبهذه الكلمة، ومن هذا المنطلق، قدم الشيخ محمد بن عبد الوهاب العقيدة الإسلامية الصحيحة، إنه لم يشغل نفسه بحروب مع أحد، وعلى العكس مما يظنه الذين لا يعرفون تاريخ الشيخ فقد،
1 / 4
ابتعد عن أسلوب المناوأة والتناطح، لأن هذا الأسلوب لا يفتح القلوب ولا العقول لتقبل الحق، بل يدفعها إلى العناد والمكابرة والدفاع عن آرائها لمجرد الغلبة، فلم يجعل الشيخ همه الوحيد الحرب على أصحاب الطرق، ولا على المتعصبين للآراء المذهبية، ولا على القاعدة العريضة من الجهلة بدين الله الذين يفسدون الحياة بالمنكرات والمباذل، وهم يظنون أنفسهم صالحين، حتى وإن قطعوا طريق الحجيج، واستباحوا دماءهم وأموالهم ...
ولم لا؟ أليسوا يتقربون إلى صاحب ضريح من أجل تكفير سيئاتهم؟ أليسوا يتبركون بشجرة تكفيهم مؤونة العودة الصحيحة على دين الله، والاحتكام إليه، واجتناب نواهيه، والالتزام بأوامره؟!.
ومع كل ذلك، كان الشيخ واعيًا حصيفًا بالمنهج الصحيح للتغيير، فقد أدرك أن هذه الأنواع من الانحرافات، إنما هي ثمار ونتائج، وأن الحل لا يكمن في مقاومة الثمار الطبعية، والنتائج المنطقية، وإنما يكمن في اقتلاع الجذور وإزالة الأسباب.
ولن يتأتى ذلك إلا بالعودة إلى الإسلام الصحيح:
- الإسلام بعقيدته الصافية النقية.
- والإسلام بحضارته الإنسانية الربانية الأخلاقية.
- الإسلام الذي جعل من عبدة الأصنام في مكة والمدينة وجزيرة العرب، طليعة خير أمة أخرجت للناس في مدة وجيزة تعد عجبًا في مسيرة العقائد والحضارات.
1 / 5
ومن هنا عكف الشيخ على الجذور والبواعث، يرويها بالتوحيد والعمل، ويدفع الناس إلى تغيير ما في نفوسهم وعقولهم حتى يغير الله أحوالهم وظروفهم، وحتى يعودوا من جديد خير أمة أخرجت للناس.
فإذا كانت العقيدة هي الأساس، فإن اتباع السلف الصالح هو الطريق، والغاية هي الدعوة لإعلاء كلمة الله بأدوات قادرة على إقناع الناس في هذا العصر، في ضوء فقه رشيد بحقائق الدعوة وأساليب تبليغها.
وهكذا فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- حقيقة الدعوة، وسبلها، وأهدافها، وطبق بسلوكه فقهه لها، فمكن الله لدعوته في الأرض، وأصبحت هي الدعوة الإسلامية الإصلاحية الوحيدة التي قامت على أسسها دولة ناهضة تساعد جميع المسلمين في الأرض، وتقدم نموذجًا معاصرًا لتطبيق شريعة الله في العصر الحديث.
ولم يقف الأمر عند هذا المستوى، بل امتدت أصول الدعوة بجهود المؤمنين بها، وعلى رأسهم قادة الدولة نفسها، إلى أرجاء الأرض امتدادًا يشبه امتداد أشعة الشمس في الصباح بعد ظلام دامس.
وقد أبصر أشعة الشمس من له بصيرة ومبصر، وغفل إن إبصارها من أصاب عينيه بعض العمى، واستطاع رؤية قوة دفعها من وفقه الله، فحلل الأمور تحليلًا دقيقًا محايدًا.
لقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى من أبعد الناس عن التكفير والتطرف والغلو، وقد ورد في ثنايا هذا الكتاب الذي
1 / 6
يسرني أن أقوم بتحقيقه، كثير مما يؤكد ذلك، ومنه دفاع الشيخ عن نفسه في مواجهة خصومه الذين حاولوا أن يلصقوا به تهمة تكفير المسلمين المنحرفين، يقول الشيخ –﵀: "ولا أكفر أحدًا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام".
ويقول: "ومنا ما ذكرتهم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجبًا كيف يدخل هذا عقل عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟.".
ويؤكد هذا الكتاب المفيد ابتعاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - عن التشدد والتكفير والغلو، تأكيده في آداب الداعي إلى الله، على أن الداعي لا بد أن يتحلى بالرفق واللين تحقيقًا لقوله تعالى في مخاطبة نبيه محمد ﷺ: "،،،".
وفي الضوابط التي وضعها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعل الرفق في الصدارة من هذه الضوابط، وهو مؤشر آخر على منهج الشيخ في الدعوة، وقد حفل المنهاج التربوي للشيخ بوسائل تربوية وأخلاقية وتعليمية تؤصل المعاني الإسلامية البعيدة عن التشدد والغلو، والتي تمير به منهج الشيخ كله، دعويًا كان أو تعليميًا أو تربويًا.
وقد جمع الشيخ في منهجه بين النقل والعقل، وقد يظن ظان أن المنهج السلفي طريق للجمود، والأمر عكس ذلك، فالتعصب للرأي المذهبي والابتعاد عن الوحي نقلًا أو نصًا هو الجمود بعينه، فهو يحول الرأي إلى عقيدة، والفكر إلى أصل، مع أنه اجتهاد بشري ...
1 / 7
ويوضح الشيخ منهجه الذين يقوم على ضرورة الانطلاق من الدليل النقلي الثابت، لا على التقليد الأعمى الذي ساد الأمة الإسلامية عقودًا طويلة، ويقوم على فتح باب الاجتهاد القائم على الدليل النقلي، مع الاحترام الكامل لأئمة المذاهب واجتهاداتهم، شريطة ألا تكون اجتهاداتهم سدًا أما اجتهادات بقية الأئمة المؤهلين في بقية العصور، يوضح الشيخ بإيجاز وحسم، معالم هذا المنهج في العبارات التالية:
"ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم، وإنما الشأن إذا اختلفوا: هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به، وأرد المسألة إلى الله ورسوله مقتديًا بأهل العلم، وأنتحل آراء بعضهم من غير حجة، وأعزعم أن الصواب في قوله، فأنت على هذا الثاني، وهو الذي ذمه الله وسماه شركًا، وهو اتخاذ العلماء أربابًا، وأنا على الأول أدعو إليه وأناظر عليه".
والمنهج نفسه طبقه الشيخ في تعامله مع قضايًا المذهب الحنبلي الذي يأخذ بآرائه، ويلتزم في حدود ارتباطها بالنص ارتباطًا جازمًا، أما إذا ظهرت عدة آراء داخل المذهب فيما لو وجدوا روايتين مختلفتين عن الإمام أحمد، أو أقوالًا لأصحابه مختلفة، فيجيب الشيخ قائلًا:
"إذا اختلف كلام أحمد وكلام أصحابه، فنقول في محل النزاع: التراد إلى الله ورسوله، لا إلى كلام أحمد، ولا إلى كلام أصحابه، وقولك إذا استدل كل منها بدليل، فالدلائل الصحيحة لا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: إما
1 / 8
إما استدل بحديث لا يصح، وإما فهم من كلمة صحيحة مفهومًا مخطئًا".
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى- مجتهدًا في مذهب الإمام أحمد، رادًا إلى الكتاب والسنة، ومع ذلك يرميه الجامدون بالجمود، وكان يؤمن بصلاحية الوحي لمواجهة كل العصور، ويثق في أن هذا القرآن دائمًا يهدي للتي هي أقوم، وأن عقولنا يجب أن تسير في فلكه، لا أن يسير الوحي في فلكها، وقد عجز خصومه عن الارتفاع إلى هذا المستوى، فشغبوا عليه، شأن العاجزين وأصحاب الأهواء والمصالح في كل العصور، ولم يحاربهم مع ذلك، لكنهم حاربوه، ولم يحول طردهم من ديارهم، لكنهم طاردوه، وجعلوه ينتقل من مكان إلى مكان يبحث عن الملجأ كما يبحث عن الرجل العظيم، الذي يكون ممكَّنًا في الدنيا؛ ليضم الدين إلى دنياه، ويُقّوِّم دنياه بدينه، ويحمي الدعوة وأصولها ورجالها، فلما وجده وعرف الصدق في كلامه، وقف بجانبه ووراءه، وبشره بالملك الذي تحقق فعلًا على نحو لم يكن متصورًا من قبل، ومع ذلك لم يطلب لنفسه ملكًا ولا شراكة في الملك، ولم يرغب إلا فيها عند الله.
كان سلوكه - بشهادة الجميع - تطبيقًا لعلمه، ومع ذلك فما زال هناك من لا يتقول الله فيه، كما أنه ما زال هناك من لا يتقول الله في أعراض الأنبياء والصحابة، فكيف بالدعاة والمصحلين!!. وعندما تبنى آل سعود الكرام بدءًا من الإمام المجاهد محمد بن سعود ﵀ الدعوة، وجعلوها قضية وجودهم، كان الشيخ ﵀ سعيدًا، وهو يشعر بأنه جندي بارز في دولة التوحيد، ولم
1 / 9
تأخذه العزة بالإثم، ولم يشغب كما يشغب رجال الدنيا، وأدعياء النعرات والأيدلوجيات، ولم يتهارش كما يفعل بعض الدعاة للأسف تهارش الديكة؛ من أجل الحفاظ على وضع متميز ماديًا ومعنويًا، بل لعله كان أسعد الناس، وهو يتفرغ لما نذر حياته له، وهي الدعوة، وكانت سعادته أبلغ، وهو يرى الدولة التي بايع إمامها تنمو صعدًا، بينما كان الدعوة الإصلاحية تتجاوز الجزيرة العربية، وتمشي مع الهواء لتصل إلى آفاق لم تكن لديه وسائل لتوصيلها، لكنها كلمة التوحيد الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فتضيء الطريق للباحثين عن الحق، وتقض مضاجع المنحرفين الذين يبغون عوجًا.
ومات الشيخ قرير العين رحمه الله تعالى.
وبذل الخصوم جهودًا ضخمة وحروبًا دامية، وهزموا الدولة مؤقتًا، لكنها انبعثت بالدعوة من جديد؛ لأن دولة العقيدة لا تموت، ولأن إشعاعات التوحيد والسنة لا تقضي عليها السيوف والمدافع، ولاسيما إذا كانت العقيدة نابعة من وحي الله، تقوم على الحق، وتهدي إلى الحق.
ولقد فؤجئ الناس برجل مجرد من القوة المادية، في ظروف تكاد تكون معقدة ومن خلال ستين رجلًا لا غير، يتقدم بالعقيدة السلفية، فيقيم دولة التوحيد من جديد، ويوحد الجزيرة العربية بالإسلام، ويبدأ من خلال عشرات الوسائل في نشر الدعوة، فتصل - برجال الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ﵀ إلى آفاق الأرض، ولا
1 / 10
تكاد مدينة في العالم الآن إلا وفيها عشرات المساجد والمراكز الإسلامية.
وقد وصل المصحف إلى كل البلاد، وظهرت ترجماته الصحيحة المعتمدة بمعظم اللغات الحية.
إنها الكلمة المخلصة التي تنتشر بعون الله وتوفيقه، على الرغم من كل العقبات، في كل أرجاء الأرض، لتقيم الحجة على الناس، وحتى تكون كلمة الله هي العليا.
هذه الدعوة السلفية - وسامح الله من يطلق عليها مصطلح الوهابية - مع التزامها بالقرآن والسنة الصحيحة ومنهج السلف الصالح، ووضعها لها في المكان الأول، وانطلاقها العقيد والاجتهادي منهما، هذه الدعوة مع ذلك، كانت الأقرب إلى الاجتهاد، وتحريك العقل المسلم، وإبعاده عن مجال التعصب للمذهبية أو للمسلمات الموروثة التي لا أصل لها في دين الله.
لا شك أن الواقع والمشاهد في المملكة العربية السعودية اليوم، بكل ما يعكسه من تطور اقتصادي وزراعي وصناعي وتجاري داخلي وخارجي، ومن تطور علمي، على مستوى المدارس والمعاهد والجامعات والمراكز البحثية، والمنجزات الحضارية العلمية الأخرى.
هذا الواقع المشاهد خير دليل على قدرة الدعوة السلفية الموصولة بكتاب الله وسنة رسوله على التعامل مع كل العصور، وعلى إثبات أن الإسلام يُصلح كل زمان ومكان، بل إن الفقه السلفي الرشيد يرى
1 / 11
أن منجزات الحضارة الإيجابية إنما هي فروض كفاية، كان من الواجب أن يكون المسلمون الأسبق إليها، وبعضها فروض عين، مما يمثل حاجات ملحة للمسلمين، سواء لوجودهم، أم للدفاع عن دينهم وأمتهم وأوطانهم الإسلامية. وأنا أعتقد أن الشيخ الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى إنما كتب هذا الكتاب، خطابًا لكل الناس، ورسالة تعريف وود لجميع المسلمين. هو خطاب للمثقف المسلم، وكل مسلم، تعريفًا بدعوة طالما ظلمها أعداؤها، وبرجل له جهد عظيم طالما غمطه الغامطون، وقد آن أن يعرف المسلمون الحق، وأن يَزِنُوا به الأقوال والرجال، وأن يلتقوا بالتالي على الموازين الثابتة العادلة في دينهم لإنصاف الرجال، لا لأن دينهم دين يفرض عليهم ذلك فحسب، بل لأن النظم الدولية التي تسعى لاستئصالهم جميعًا تحتم عليهم ذلك من جانب آخر. جزى الله الشيخ الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، العالم والمحقق، خير الجزاء، وبارك في جهوده المخلصة، وجعلها في ميزان حسناته بمنه وجوده وإحسانه. وسلام على عباده الذين اصطفى.
تعقيب مهم: ليس للوهابية ولا للإمام محمد بن عبد الوهاب، حركة خاصة بمفهومها الحركي المعاصر، بل دعوته إصلاحية تدعو جميع المسلمين إلى الرجوع للإسلام الصافي النقي، على ما كان عليه محمد بن عبد الله ﷺ وصحابته الكرام.
المحقق
أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله التويجري
جوال: ٠٥٠٤٨٩٢٧٩٠
1 / 12
ترجمة المؤلف:
- هو الشيخ العلامة المحقق - محمد خليل هراس- ﵀.
- نائب رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية سابقًا.
- من محافظة الغربية بجمهورية مصر العربية.
- ولد بقرية الشين - مركز قطور- محافظة الغربية "طنطا"- بمصر عام "١٩١٦م"، وتخرج من الأزهر في الأربعينيات من كلية أصول الدين، وحاز على الشهادة العالمية العالية "الدكتوراه" في التوحيد والمنطق.
- عمل أستاذًا بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر.
- أعير إلى المملكة العربية السعودية، ودرّس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ثم أعير مرة أخرى، وأصبح رئيسًا لشعبة العقيدة في قسم الدراسات العليا في "كلية الشريعة سابقًا/ جامعة أمر القرى حاليًا" بمكة المكرمة.
- عاد إلى مصر، وشغل منصب نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة.
- وفي عام "١٩٧٣م" - قبل وفاتنه بسنتين- اشترك مع الدكتور عبد الفتاح سلامة في تأسيس جماعة الدعوة الإسلامية في محافظة الغربية، وكان أول رئيس لها.
1 / 13
- توفي رحمه الله تعالى عام "١٩٧٥م" عن عمر يناهز الستين.
- كان ﵀ سلفي العقيدة، شديدًا في الحق، قوي الحجة والبيان، أفنى حياته في التعليم والتأليف ونشر السنة وعقيدة أهل السنة والجماعة.
- له مؤلفات عدة منها:
١) تحقيق كتاب "المغني" لابن قدامة، وقط طبع لأول مرة في مطبعة الإمام بمصر.
٢) تحقيق وتعليق على كتاب "التوحيد" لابن خزيمة.
٣) تحقيق وتعليق على كتاب "الأموال" لأبي عُبيد القاسم بن سلام.
٤) تحقيق ونقد كتاب "الخصائص الكبرى" للسيوطي.
٥) تحقيق وتعليق على كتاب "السيرة النبوية" لابن هشام.
٦) شرح "القصيدة النونية" لابن القيم في مجلدين.
٧) تأليف كتاب "ابن تيمية ونقده لمسالك المتكلمين في مسائل الإلهيات".
٨) شرح "العقيدة الواسطية" لابن تيمية.
٩) الحركة الوهابية. رد على مقال للدكتور محمد البهي في نقد الوهابية.
1 / 14
أسس الحركة الوهابية
نشأة الحركة الوهابية:
لقد خصص سعادته الفصل الرابع والأخير من كتابه "الفكر الإسلامي في تطوره١" للكلام عن الحركة الوهابية، فأرخ لها من جانبين:
الأول: من جانب الأحداث السياسية وصلتها بالحكومة القائمة على رعايتها.
الثاني: من جهة أنها حركة دينية ترسمت حركة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀.
ثم قال: "والذي يهمنا من حركة محمد بن عبد الوهاب هو الجانب الثاني بالذات"٢.
ثم قدم ترجمة مختصرة لمؤسس الدعوة ﵀ فذكر رحلاته في طلب العلم إلى معظم العواصم الإسلامية مثل مكة والمدينة في الحجاز، والأحساء في منطقة الخليج العربي، والبصرة وبغداد فيما بين النهرين، ودمشق في سوريا، وأصفهان وقم في إيران، وذكر أنه أقام في هذه الأخيرة مدة تزيد على اثني عشر عامًا قضاها في الدرس والتعلم، وأنه بهذه الرحلة الطويلة ضم معرفة تجريبية واقعية
_________
١ وقد طبع هذا الكتاب طبعتين: الأولى في دار الفكر ببيروت سنة ١٣٩١هـ- ١٩٧١م. والطبعة الثانية في مكتبة وهبة بمصر سنة ١٤٠١هـ - ١٩٨١م. وعدد صفحات الكتاب أحد عشر ومئة صفحة، تحدث في الفصل الأول: عن تقويم الفكر الإسلامي في مرحلته الأولى. والفصل الثاني: التفكير لإعادة بناء المجتمع الإسلامي. والفصل الثالث: عن ابن تيمية. والفصل الرابع: عن محمد بن عبد الوهاب. والفصل الخامس: عن الحركة السنوسية.
٢ انظر مشكورًا: الفكر الإسلامي في تطوره، ص ٧٥.
1 / 20
عن الإسلام والمذاهب الإسلامية١، وأنه شأنه في ذلك شأن أستاذه ابن تيمية من قبل وشأن أصحاب الحركات الإسلامية التي جاءت بعده، وأنه لما عاد إلى بلدته "العيينة" صمم على الجهر بدعوته فجهر بها، ولكنه صادف معارضة شديدة، فرحل من العيينة إلى "الدرعية" في شمال الرياض حيث يقيم الأمير محمد بن سعود الذي رحب به وأظله بحمايته، وهناك تعاهد الشيخ والأمير على أن يبقى الشيخ في مقر الأسرة السعودية، وفي مقابل ذلك يناصر الأمير دعوة الشيخ بقوة السلطان.
وظل الأمر على ذلك إلى أن توفي الشيخ ﵀ في سنة ١٧٩٢م.
وبعد وفاة الشيخ والأمير تعاهد أبناء الأسرتين بالاستمرار في تنفيذ اتفاق والديهما، ولم يزل الوضع في صلة الدعوة الوهابية بالحكومة السعودية على ما كان عليه حتى الوقت الحاضر.
ثم يقول سعادته: "وبهذا التعاهد اجتمع لهذه الدعوة سلطان الحاكم وقوة الإيمان بها، وقلما اجتمع الأمران في حركة دينية، بعد عصر الرسول ﷺ وخلفائه الراشدين سوى هذه الحركة، ومن هنا كان يؤمل كثيرًا في نشاط هذه الحركة"٢.
_________
١ الصحيح المؤكد أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه تعالى لم يرحل لطلب العلم إلى بغداد ودمشق وأصفهان وقم، بل إن المجمع عليه هو ذهابه إلى: مكة المكرمة والمدينة النبوية والأحساء والبصرة. وهذا دليل على قصور الدكتور البهي في معرفة الدعوة وأنه أخذ أغلب معلوماته عن الدعوة من المخالفين لها.
٢ انظر مشكورًا: الفكر الإسلامي في تطوره، ص ٧٧.
1 / 21
ثم أرخ سعادته بعد ذلك الجانب السياسي لهذه الحركة، فبين كيف أفادت من اتساع حكم السعوديين وازدياد نفوذهم في شبه الجزيرة العربية، حتى دخلت مكة والمدينة مع الفتح السعودي للحجاز، وبذلك تهيأت لها الفرصة في موسم الحج لشرح أسسها ونشر تعاليمها.
فانتشرت الدعوة عن طريق هذه اللقاءات التي كانت تتم بمكة والمدينة في موسم الحج، حتى وصلت إلى الهند وأندونيسيا شرقًا، وإلى السودان والشمال الأفريقي غربًا.
ثم تحدث عن اتساع نفوذ السعوديين خارج شبة الجزيرة العربية حتى وصل عمان وزبيد في جنوبي اليمن، ووصل إلى قلب العراق وضواحي دمشق، مما أزعج الخليفة التركي في الإستانة، وأثار مخاوفه، فكلف واليه مصر "محمد علي باشا" بحرب السعوديين وردهم إلى مقر ولايتهم الأول.
ثم يقول سعادته: "ولكن ما لبث النفوذ السعودي أن عاد بالتدريج إلى قوته، وإلى سيطرته نهائيًا على نجد والحجاز على نحو الوضع القائم الآن منذ سنة ١٩٢٥م١".
_________
١ انظر مشكورًا: الفكر الإسلامي في تطوره، ص ٧٩.
الحركة الوهابية تدعو إلى توكيد التوحيد: ثم يبدأ الحديث عن الوهابية، كحركة دينية إصلاحية، فيرجع أسس الدعوة الوهابية على ثلاثة أنواع: الأول: فيما يتصل بالأصول وهي العقيدة.
الحركة الوهابية تدعو إلى توكيد التوحيد: ثم يبدأ الحديث عن الوهابية، كحركة دينية إصلاحية، فيرجع أسس الدعوة الوهابية على ثلاثة أنواع: الأول: فيما يتصل بالأصول وهي العقيدة.
1 / 22
وهنا يقول: "فإنها تدعو إلى توكيد التوحيد ونفي الشرك، بحيث تقصر العبادة على الله وحده".
وهذا كلام جميل وتصور صادق مجمل، لهدف الدعوة في هذه الناحية من التوحيد، أعني توحيد الإلهية الذي يقوم على إخلاص الدين لله، والتوجه إليه وحده بجميع أنواع العبادات، ولها كان هدف الدعوة الأول هو القضاء على كل ما ينافي هذا التوحيد من مظاهر الشرك والوثنية التي كانت قد استشرت في العالم الإسلامي كله، واتخذت صورًا متعددة، كعبادة الموتى، والاستعانة بأصحاب الأضرحة، وتقديم النذور والقرابين لهم، والتبرك بالأحجار والأشجار والمغارات، والاعتقاد في السحر والتنجيم والعرافة وأنواع الشعوذة. فجدت الدعوة في القضاء على ذلك كله، بإزالة ما كان الناس يفتتنون به من القبور والحجارة، ثم ببيان حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وبيان الأمور المنافية له.
وكان كتاب "التوحيد" الذي ألفه مؤسس الحركة ﵀، يُعتبر في ذلك الوقت دستورًا لدعاة الحركة يعلمونه الناس ويشرحون لهم فصوله ومسائله.
ثم يعقب الدكتور على ما تقدم بقوله: "ويفهم من معنى القداسة والعبادة كل معنى يقوم على الاحترام ولو كان بحكم الإلف والعادة"١.
_________
١ انظر مشكورًا: الفكر الإسلامي في تطوره، ص ٨١.
1 / 23
يعني بذلك سعادته أن الوهابيين قد اشتطوا في تحديد مفهوم العبادة، فأدخلوا فيه ما كان من الاحترام والتقديس قائمًا على الإلف والعادة.
لم نسمع قبل اليوم أن الإلف والعادة يجعلان عبادة غير الله مشروعة وسائغة، فإن كان الناس قد ألفوا أن يقيموا القباب على أضرحة الموتى، وأن يستغيثوا بهم في الملمات ويدعوهم لقضاء الحاجات، ويتملقونهم بالنذور والقربانات، وأن يقفوا أمام مقاصيرهم خاشعين، وينادوا متوسلين متذللين، فذلك شيء لا ضير فيه ولا ينافي توحيد العبادة - في نظر دكتورنا- لأنه من قبل الإلف والعادة.
ولو صح منطق الدكتور في الإغضاء عن كل ما يفعل بطريق الإلف والعادة، لما كان هناك داع لإرسال الرسل، فإن أممهم إنما كانت تفعل ما تفعل من ألوان الشرك والمعاصي على سبيل الإلف والعادة، وكذلك المشركون من العرب الذين أمر رسول الله ﷺ بمقاتلتهم، ونزل القرآن بذمهم، وتوعدهم بالنار المؤبدة، ما كانوا يزاولون أعمالهم الشركية، من تقديم النذور ونحر الذبائح ومن الطواف والدعاء، إلا على جهة الإلف والعادة، ولهذا حكى القرآن عنهم أنهم كانوا إذا نهوا قالوا: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ . "الزخرف: ٢٣".
1 / 24