صلى الله عليه وسلم : أي مسجد وضع على وجه الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: البيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. وينقلون عن كعب أنه قال: معقل المؤمنين أيام الدجال البيت المقدس يحاصرهم فيه حتى يأكلوا أوتار قسيهم من الجوع، فبينما هم كذلك إذ يسمعون صوتا من الصخرة، فيقولون: هذا صوت رجل شبعان، فينظرون، فإذا عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا رآه الدجال هرب منه، فيتلقاه بباب لد فيقتله، ويكاد الرواة يتفقون على أنها «عرصة القيامة» ومنها النشر، وإليها الحشر. ويزعمون أن سليمان كان اتخذ في بيت المقدس أشياء عجيبة: منها القبة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، حتى اضمحلت بحيلة غير معروفة! وكان من عجائب بنائه أنه بنى بيتا وأحكمه وصقله، فإذا دخله الفاجر والورع تبين الفاجر من الورع، لأن الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض، والفاجر يظهر خياله أسود! وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا أبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضره، ومن مسها من غيرهم أحرقت يده! قال ياقوت: «وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ.» فيا ليت شعري ماذا عسى أن تكون تلك الصفات؟
إنه لا شك في أن كل ما وصف به بيت المقدس ليس إلا صورة لمبلغ المتقدمين من فهم حقائق الأشياء، فليست زيارته بمخرجة أحدا من ذنوبه، ولا براحمة فقيرا من فقره، ولا بمنقذة سقيما من سقمه، كما يزعمون أن الله قال في ذلك، وليس هناك سند يثق به التاريخ عن بناء المسجد الحرام وبناء بيت المقدس بعده بأربعين سنة، كما يتوهمون أن النبي قال ذلك! ولن يأكل المؤمنون أوتار قسيهم من الجوع حين يحاصرهم الدجال في بيت المقدس، ولن يعود عيسى إلى هذا العالم كما يتوهم كثير من الناس، وهب ذلك، فمن يدرينا أن المؤمنين لن يملكوا يومئذ غير القسي والنبال؟ ولا تنس السلسلة التي علقها في القبة سيدنا سليمان، والتي كان ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، فتلك بلا ريب وليدة الخيال! وما عسى أن يكون ذلك البيت الذي كان إذا دخله فاجر ظهر خياله أسود، وإذا دخله الورع ظهر خياله أبيض؟
اذكر هذه الصورة العجيبة لبيت المقدس، ثم اذكر قول ابن عباس: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي، أو قام فيه ملك. ثم اذكر ما يزعمون من أن أول شيء حسر عنه الطوفان بيت المقدس، وإن فيه ينفخ في الصور يوم القيامة، وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة!
اذكر هذا كله، ثم دعنا نخبرك بأن الغزالي يتمدح في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه كان يرحل إلى بيت المقدس فيدخل الصخرة كل يوم ويغلق بابها على نفسه ويتعبد فيها طول النهار! وإنه انكشف في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها كما قال.
هذه المواطن التي قدسها الخيال، ووضعت في فضلها الأحاديث، أثرت تأثيرا بينا في حياة الغزالي العقلية، وطبعت نظره إلى العالم بطابع خاص. ولولا خوف الإطالة لوصفنا ما رآه في سياحاته من المشاهد والبقاع، ولكن الرغبة في الإيجاز أرضتنا عن الاكتفاء بأشهر ما عرف من البلاد.
الفصل السابع
أعيان ذلك العصر
الذي يهمنا من أعيان العصر الذي عاش فيه الغزالي إنما هو ذكر أساتذته لتأثيرهم في تكوين عقله، غير أنه من الحسن أن نذكر طائفة من علماء ذلك العصر لأن في ذلك تصويرا لحركة العقول إذ ذاك. ونكرر ما قلناه من أن الغرض إنما هو أن نقرب للقارئ زمان الغزالي ومكانه، نوعا من التقريب. فأما تحديد اتجاهات الفكر في تلك الآونة، فلا يسعه هذا المؤلف، الذي يراد به درس آراء الغزالي في الأخلاق.
الشهرستاني
هو أبو الفتح محمد بن عبد الكريم المولود سنة 479 والمتوفى سنة 548. تلقى العلم في نيسابور على أبي الحسن علي بن أحمد المدايني، وقد ذكر السبكي بقية أساتذته في ص78 ج4 من طبقاته. ومن أشهر تآليفه كتاب (الملل والنحل) وهو كتاب جيد قال في مقدمته: «وبعد فلما وفقني الله تعالى لمطالعة مقالات أهل العلم من أرباب الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل، والوقوف على مصادرها ومواردها، واقتناص أوانسها وشواردها، أردت أن أجمع ذلك في مختصر يحوي جميع ما تدين به المتدينون، وانتحله المنتحلون، عبرة لمن استبصر، واستبصارا لمن اعتبر.» وقيمة هذا الكتاب ترجع إلى جمعه أكثر الآراء التي عرفها المسلمون لذلك العهد، ومن عيوبه الإيجاز والغموض في أكثر المواطن التي تحتاج إلى البسط والبيان: وقد رماه معاصروه بزيغ العقيدة والمبالغة في نصرة مذهب الفلاسفة. وسترى فيما بعد أن الشك في عقائد أنصار الفلاسفة كان من علامات ذلك الجيل.
अज्ञात पृष्ठ