وهذا الاعتذار يشبه ما اعتذر به المسلمون عن البسطامي والحلاج، ومن إليهم من القائلين بوحدة الوجود.
وغاية الأخلاق عند سبينوزا هي كمال الطبيعة الإنسانية، فكل علم لا يفضي إلى ذلك فهو في رأيه غير مفيد، وهو يتفق مع الغزالي في هذا المعنى الأخير؛ أي في احتقار كل علم لا يوصل إلى السعادة، وإن اختلفت غايتهما بعض الاختلاف. فإن غاية الأخلاق عند الغزالي هي السعادة الأخروية.
ومع أن سبينوزا يعمل لكمال الطبيعة الإنسانية، فإنه يرى أن التمييز بين النقص والكمال، والخير والشر، من الأمور الاعتبارية، إذ ليس هذا التمييز إلا صورة ننتزعها من الموازنة بين الأشياء. فإذا كان الغزالي يرى أن الخير هو ما أمر الله به، والشر ما نهى الله عنه فإن سبينوزا يرى أن الخير هو النافع، والشر هو الضار. وبعبارة أخرى: الخير هو ما يزيد قوتنا ويعدها للعمل، والشر هو ما يضعفها أو يضع في سبيلها العوائق. وينتج من ذلك أن الخير يحدث الفرح والشر يحدث الحزن.
ويبقى بعد ما سلف أن السعادة كل السعادة في إكمال العقل لأنه في رأيه هو وجودنا الحق، ثم يقرر أن السعادة في الواقع هي طمأنينة النفس، التي تنشأ من معرفة الله، فليس الجهل شرا إلا لأن صاحبه دائم القلق والاضطراب، وليس للحكمة فضل أكثر مما تورث صاحبها من الأمن والسكينة، وهو يتفق مع الغزالي في هذه النقطة الأخيرة.
ومن أظهر الفروق بين الغزالي وسبينوزا نفي الشخصية الإنسانية، ونفي المسئولية. وهذا واضح، لأنه ما دام العالم هو الله، والله هو العالم، فلن يرى سبينوزا للمرء شخصية، ولن يحكم بأنه مسئول. أما الغزالي فيرى جود الشخصية الإنسانية ويرى أهليتها للجزاء والثواب والعقاب، وإن كانت عنده أضعف من أن تدرك شيئا بغير هداية الله. (7) الغزالي وجسندي
Gassendi
ولد «جسندي» في بروفنس بجنوب فرنسا سنة 1592.
اشتغل حينا بتدريس البلاغة والفلسفة، ثم صار قسيسا وسافر إلى هولنده واشتغل بالطبيعيات ولا سيما الفلك والتشريح، ثم دعي لتدريس الرياضيات بالمدرسة الملكية في باريس سنة 1645 وظل بها إلى أن توفي سنة 1655.
وأهم ما يمتاز به جسندي هو دفاعه عن فلسفة أبيقور المتوفي سنة 270 قبل الميلاد. وأبيقور هذا يرى أن غاية الأخلاق هي السعادة الذاتية؛ فليست الفضيلة فضيلة إلا لأنها تجلب لذة، وليست الرذيلة رذيلة إلا لأنها تحدث ألما، ولا قيمة لأي عمل في نفسه إلا بنسبته إلى اللذائذ والآلام. وقد كان أبيقور يدافع عن مذهبه بطريقة تقربه من رضا العقلاء، فكان يرى أنه لا مانع من احتمال الآلام، لأن ما في الخروج على الفضيلة من اللذة لا يساوي ما يعقبه من الألم، وكذلك ما في الصبر على ترك الرذيلة من فوات اللذة العاجلة، يعوض على صاحبه كثيرا من الآلام التي يتعرض لها باقتراف المنكرات.
ولكن الناس فهموا مذهب أبيقور فهما غير صحيح، فحسبوه فقط داعيا إلى اللذة وأخذوا يصفون الرجل الخليع بأنه (أبيقوري) فجاءه «جسندي» فأحيا تعاليم هذا المذهب ودافع عنه. وقد أثر جسندي في عصره تأثيرا شديدا. وحسبه أن كان من تلامذته «موليير».
अज्ञात पृष्ठ