ثم قد تجد نموذجا مصغرا لطنبور اخترعه أحمد العقلة، يديره أمامك ويفرجك عليه قطعة قطعة معددا مزاياه التي تتلخص في أنه ينقل كمية أكبر من الماء، ويمنع الفلاح من الإصابة «بالبلهاريسيا» ... وتتفرج عليه، ولا تجد فيه أي شيء ممكن أن يميزه عن الطنبور العادي المستعمل فعلا، وتقول لأحمد هذا، فيبتسم دون أن يبتسم، ويقول لك: اته ... اته ... اته ... اش اش فهمك ف ف الاختراعات ... ومع هذا فلو أعجبك الطنبور أو الميكروسكوب، أو حتى ماكينة الحلاقة الواردة رأسا من ألمانيا، فلا تنزعج إذا ناولها أحمد لك وأقسم بالله العظيم أنها: ما ماما هي عادت تابعاه.
غير أن أهم شيء في أحمد العقلة أنه لم يكن يطيق رؤية الأعوج ولا يصلحه. إذا رأى أن الكوبري الذي يصل ما بين البلدة والمحطة مهدد بالانهيار، فسرعان ما تجده قد خلع جلبابه، وأدار عكازه كالسيف الطائح في كل اتجاه، وأحضر أخشابا وأسمنتا وحجرا لا تدري من أين، وأصلح الكوبري. وإذا وجد كومة تراب تسد الطريق وتعاكس مرور العربات الداخلة إلى البلدة والخارجة منها، فستجده حالا قد استعار فأسا من دار قريبة، ونزل في التل خبطا وعزقا حتى سواه. «كيف يستعمل الفأس وهو يرتكز على عكاز؟ مسألة أخرى». وإذا خربت طلمبة الجامع يضيق بمحاولات عم باز القاتلة البطء لجمع ثمن إصلاحها من المصلين، وستجده حتما هو الذي لا يصلي، ويتخلص بمهارة من المحاولات التي تبذل لحمله على الصلاة، ستجده قابعا بجوارها يدق «قلبها» ثم يستمع، وأحيانا لا تفعل محاولاته أكثر من أن تزيد فسادها فسادا، ولكنه في أحيان يظل يقاوح حتى يصلحها.
إذا احتجت طعما لتصطاد السمك دلك على أحسن مكان تجد فيه الطعم، بل في أغلب الأحيان يستأذن منك دقيقة، ثم يعود وفي يده كرة الطين المملوءة بالطعم. وإذا قلت إن نفسك في الذرة المشوية مثلا، فثق أنه لن يهدأ حتى يسرق لك ملء حجره، ويشعل راكية نار ويشويها. وكل سعادته حينئذ أن يجلس يراقبك وأنت تلتهم الكيزان في نشوة، ووجهه قد احمر وسال منه العرق من كثرة ما هفهف على النار ونفخ وقلب الكيزان. وإذا عزمت عليه أشاح بوجهه خجلا، وقال لك بسعادة حقيقية: بل بل بل بالهنا والش ش ش فا. بالهنا والشفا.
وفي أي فرح لا بد ستجد عكازه يرتفع وينخفض ويزق وينزق، راقصا مرة، حاملا العريس على كتفه مرة أخرى. وهو الذي ينصب الدولاب والسرير، ثم هو الذي يعشي الناس، ويزكيه الجميع ليقف على حلة اللحم المسلوق، وتلك علامة الثقة المطلقة في أمانته ... وفي أغلب الأحيان ينتهي الفرح دون أن يتعشى. وقد يسكت عن تضحيته هذه أياما، ولكن سيرة الفرح لا بد ستأتي ذات يوم، فيفلت لسانه رغما عنه ويقول: ود ود وديني ليلتها ما ما ما تعشيت.
وأحمد العقلة له مع ساقه قصة مشهورة، بدأت في ذلك اليوم الذي جاء فيه مفتش الصحة للكشف على أحد المتوفين في البلدة، وانتظره أحمد حتى خرج وارتبك كثيرا وهو يحاول مواجهته والحديث إليه؛ فقد كان به ضعف من ناحية الأطباء، ويكن لهم بالذات احتراما لا مزيد عليه، ربما من يوم أن بتر أحدهم ساقه ... سأله أحمد عن حقيقة الإشاعات التي يسمعها، وتقول إن مستشفى القصر العيني يركب لمبتوري الساق أرجلا صناعية مجانية. وأحس الناس من سؤاله أن الموضوع الذي كانوا قد نسوه تماما لم ينسه أحمد للحظة واحدة. وأكد له الطبيب صحة الإشاعة، ولكنه قال له كلاما يثبط أقوى العزائم؛ فقد قال إن عمل ساق صناعية مسألة في حاجة لجهود كبيرة وإقامة، ووساطات لا قبل لأحمد بها، ومن رأيه أن يريح نفسه ويوفر جهوده، ولم يفعل أحمد شيئا أكثر من أنه ظل يهز رأسه، ويقول: ك ك ك كتر خيرك ... كتر خيرك ... وانسحب من أمام الناس الذين التفوا حوله وحول الطبيب والإشفاق يجتاحهم، وكأنهم قد أدركوا في تلك اللحظة فقط أنه ذو عاهة وأنه يستحق الرثاء، هو الذي كانوا يعاملونه باستمرار على أنه ند لهم فقط، ولكن على أنه جبار وقوي لا يستعصي عليه شيء.
وتلفتت البلدة ذات صباح، فلم تجد أحمد، وقيل إنه سافر، وقيل إنه سيغيب.
وفعلا غاب أحمد أطول مدة غابها، حتى بدأت سيرته تطرق الأحاديث، وتكاد مصمصات الشفاه تحدد له مصيرا تعسا مجهولا. ولكن مصير مين؟ ذات عصر وجدوا أحمد نازلا من القطار ماشيا على رصيف المحطة كما يمشي الناس، بساقين، وجلابية بيضاء جديدة. وكادت البلدة كلها تجتمع بشملها حوله تستمع لقصته التي كان يرويها بكلماته التي يخرجها تحت ضغط كغطيان زجاجات الكازوزة، وتتفرج عليه بعد أن جاء من مصر، وعلى ساقه الجديدة الصلبة كالحديد التي لا يستطيع الإنسان أبدا أن يعرفها من ساقه الأخرى. ومن تلقاء نفسه، كان أحمد يردد الحكاية وهو فرحان. سافر طبعا في أول قطار بأبونيهه الدائم فوق السطح، وذهب إلى القصر العيني وسأل وقطع تذكرة، وعرف اسم الطبيب الذي عنده الكشف، بل ذكر للناس أسماء جميع أطباء القصر العيني ورتبهم مضيفا إليهم ألقابا خاصة من عنده ... وسأله الدكاترة أين بترت ساقه؟ وبعشرة قروش أثبت لهم أنه عمل العملية في القصر العيني نفسه ... وقالوا له شهادات من الشئون الاجتماعية أحضر لهم شهادات، تعهدات جاء بالتعهدات، عفاريت زرق أحضر لهم العفاريت الزرق. وأخيرا وجدوا أن الطريقة الوحيدة للتخلص من إلحاحه وإصراره ومناكفاته أن يصنعوا له الساق، فبدءوا يتخذون إجراءات صنعها، ولكنهم أنذروه أنها ستأخذ وقتا طويلا، ربما شهرا وربما أكثر، فقال لهم: على مهلكم قوي ... معاكم لحد سنة واتنين. وظل وراءهم حتى عملوها ... وها هي ذي. ولكن السامعين كانوا يتركون قصة الساق وتشغلهم أسئلة أخرى ... كيف وأين استطاع أحمد أن يقيم كل تلك المدة، وهو الوحيد الساق في البلدة الكبيرة التي يتوه فيها الناس؟ فيقول أحمد ببساطة إنه كان ينفق على نفسه من متاجرته في الزجاجات الفارغة التي كان يبيعها للمترددين على المستشفى، وأحيانا كان يسرح بصندوق ببس أو برطمان هندي.
ويبقى سؤال آخر أين كان يقيم ويبيت؟
وتأتي إجابته: ف ف ف القصر يا ولاد.
فيدهش الناس ويسألونه: داخلية يعني؟!
अज्ञात पृष्ठ