أجنحة المكر الثلاثة
أجنحة المكر الثلاثة
प्रकाशक
دار القلم
संस्करण संख्या
الثامنة
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م
प्रकाशक स्थान
دمشق
शैलियों
ـ[أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها: التبشير - الاستِشراق - الاستعمار]ـ
دراسة وتحليل وتوجيه (ودراسة منهجية شاملة للغزو الفكري)
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (المتوفى: ١٤٢٥هـ)
الناشر: دار القلم - دمشق
الطبعة: الثامنة، ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ترجمة المؤلف [ووالده] _________ قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: هذه التراجم - كلها - ليست في المطبوع، وإنما أثبتناها هنا للفائدة
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف] بقلم: أيمن بن أحمد ذو الغنى وُلدَ فضيلة الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني الدِّمشقي سنة ١٣٤٥هـ (١٩٢٧م)، في أحد أعرق أحياء دمشقَ، حيِّ المَيدان، لأُسرة علمٍ ودعوة وجهاد؛ فأبوه العلاَّمةُ المربِّي المجاهد حاملُ لواء الدَّعوة في الشام، الإمامُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني، عضوُ المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ، وتَرجعُ أُصولُ أسرة الشيخ إلى عَرَب بني خالد الذين تمتدُّ منازلُهم إلى بادية حَماة من أرض الشام. نشأ فقيدُنا في بيت أبيه الذي كان دارَةَ علمٍ وتوجيه، ومَجْمَعَ فقهٍ وفَتوى، وتَرَعرَعَ في أكناف والده، يَحوطُه بعنايته ورعايته، ويُعدُّه ليكونَ خليفةً له في العلم والدَّعوة. تلقى الشيخُ العلمَ في المدرسة الشَّرعيَّة النَّموذجيَّة التي أسَّسها أبوه الإمامُ وسمَّاها: معهدَ التوجيه الإسلاميِّ، وهي مدرسةٌ داخليَّة مجانيَّة، كان نظامُ التعليم فيها فريدًا مُتميِّزًا، على طريقة علماء المسلمينَ المتقدِّمينَ، والدراسةُ فيها دراسةً موسوعيَّة أصيلة، يتدرَّجُ فيها الطلاَّبُ من مبادئ العلوم إلى أعلى المستَويات. وكان الشيخُ حسن يدرِّب طلاَّبَه - ومنهم ابنُه عبد الرحمن - على إعداد خُطَب ودُروس ومُحاضَرات، وإلقائها، وهم لا يزالون حَديثي الأسنان، مما كان له أعظمُ الأثر في تمكُّنهم من الخَطابة والوعظ والتعليم، وفي تكوين شخصيَّاتهم العلميَّة والدَّعَويَّة. تخرَّجَ المُترجَم في معهد أبيه سنة ١٣٦٧هـ (١٩٤٧م)، وكان أبوه عَهِدَ إليه بالتدريس في معهده وهو ابنُ ١٥ سنة، ثم أسنَدَ إليه بعد تخرُّجه تدريسَ عدد من العلوم، منها: الفقه، والأُصول، والتوحيد، والمنطِق، والبلاغة. وفي سنة ١٣٧٠هـ التحقَ بكُلِّية الشريعة في الأزهر الشَّريف، وحازَ منها الإجازةَ العاليةَ (ليسانس في الشريعة)، ثم حازَ شهادةَ العالِميَّة مع إجازةٍ في التدريس (ماجستير في التَّربية وعلم النفس) . بعد تخرُّجه في الأزهر عملَ مُدرِّسًا في ثانويات دمشقَ الشرعيَّةِ والعامَّةِ، إضافةً إلى التدريس في معهد أبيه ﵀. وتولَّى مُديريَّةَ التعليم الشرعيِّ التابعةَ لوِزارَة الأوقاف، وكان في إدارَته حكيمًا رَشيدًا، يعملُ بهمَّةٍ وصمتٍ، ومن أهمِّ ما أنجزَهُ في إبَّان إدارته: تأسيسُ عددٍ من المدارس الشرعيَّة في بعض المحافظات السوريَّة، منها ثانويةٌ شرعيَّة للإناث بدمشقَ، وأُخرى بحلبَ. في سنة ١٣٨٧هـ (١٩٦٧م) انتقلَ إلى الرياض أستاذًا في جامعة الإمام محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة، قضى فيها سنتين، ثم انتقل إلى مكَّةَ المكرَّمَةِ فعمل أستاذًا في جامعة أمِّ القُرى زُهاءَ ثلاثين عامًا، حتى بلغَ السبعين. اختيرَ الشيخُ عبد الرحمن عضوًا في المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ في مكَّةَ المكرَّمَةِ، وعضوًا في مجلس هيئة الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة. وكان له الكثيرُ من المشاركات في المؤتمرات والنَّدوات، منها: مؤتمرُ التعليم الإسلاميِّ، ومؤتمرُ الاقتصاد الإسلاميِّ، اللذان عُقِدا في مكَّةَ المكرَّمَةِ، ومؤتمرُ الأدب الإسلاميِّ الذي عُقِد في (لكهنو) الهند، ومؤتمرُ الدعوة والدُّعاة الذي عُقِدَ في المدينة المنوَّرَة على ساكنها أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم. وله مشاركاتٌ كثيرةٌ في إلقاء المحاضَرات العامَّة، والأُمسيَّات، والنَّدوات العلميَّة، ضمن الأنشطة الثقافيَّة داخلَ جامعة أمِّ القُرى وخارجَها. وله إسهاماتٌ تلفازيَّة وإذاعيَّة، وقد استمرَّ في تقديم أحاديثَ إذاعيَّةٍ يوميَّة أو أُسبوعيَّة ما يزيدُ على ٣٠ عامًا. كان الشيخُ ﵀ شديدَ الحرص على وقته، فلا يكادُ يُرى إلا قارئًا أو كاتبًا، أو محاضرًا أو مناقشًا، وكان ذا دَأَبٍ وجَلَدٍ على العلم والعمل المتواصل، وكان موسوعيَّ الثقافة، واسعَ الاطِّلاع. تميَّز نتاجُه العلميُّ بالغَزارة مع العُمق والشُّمول، وقد جمعَ في كتاباته بين القديم والحديث، وبين التخصُّص الشرعيِّ الدقيق والعلوم الدنيويَّة العصريَّة. من نتاجه المطبوع: أولًا - سلسلةُ في طريق الإسلام، منها: ١ - العقيدةُ الإسلاميَّة وأُسُسُها. ٢ - الأخلاقُ الإسلاميَّة وأُسُسُها. ٣ - الحضارةُ الإسلاميَّة وأُسُسُها ووَسائلُها. ٤ - الأمَّةُ الربانيَّة الواحدَة. ٥ - فقهُ الدَّعوة إلى الله، وفقهُ النُّصْح والإرشاد. ثانيًا - دراساتٌ قرآنيَّة، منها: ١ - قواعدُ التدبُّر الأمثَل لكتاب الله ﷿. ٢ - مَعارجُ التفكُّر ودقائقُ التدبُّر (وهو تفسير بديع للقرآن الكريم في ١٥ مجلدًا) . ٣ - أمثالُ القرآن وصُوَرٌ من أدبه الرَّفيع. ثالثًا - سلسلةُ أعداء الإسلام، منها: ١ - مَكايدُ يهوديَّةٌ عبرَ التاريخ. ٢ - صراعٌ مع الملاحِدَة حتى العَظْم. ٣ - أجنحَةُ المكر الثلاثةُ وخَوافيها (التبشير، الاستشراق، الاستعمار) . ٤ - الكَيدُ الأحمرُ (دراسة واعية للشيوعيَّة) . ٥ - غَزوٌ في الصَّميم. ٦ - كَواشِفُ زُيوفٍ في المذاهب الفكريَّة المعاصرَة. ٧ - ظاهرةُ النفاق وخَبائثُ المنافقين في التاريخ. رابعًا - سلسلةُ من أدب الدَّعوة الإسلاميَّة، منها: ١ - مبادئُ في الأدب والدَّعوة. ٢ - البلاغةُ العربيَّة (أُسُسُها وعُلومُها وصُوَرٌ من تَطبيقاتها) . ٣ - ديوانُ ترنيمات إسلاميَّة (شعر) . ٤ - ديوانُ آمَنتُ بالله (شعر) . خامسًا - كتبٌ متنوِّعَة: ١ - ضَوابطُ المعرفة وأصولُ الاستدلال والمناظَرة. ٢ - بَصائرُ للمسلم المعاصِر. ٣ - الوالدُ الداعيةُ المربِّي الشيخُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني (قصَّة عالم مجاهد حَكيم شُجاع) . ٤ - التحريف المعاصر (ردٌّ على كتاب د. محمد شحرور: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) . ولزوجته الدَّاعية المربِّية عائدة راغب الجرَّاح الأستاذة بجامعة أمِّ القُرى سابقًا - رحمها الله تعالى (توفِّيت قبل الشيخ بزُهاء سنتين) - كتاب: عبدُ الرَّحمن حَبَنَّكَة المَيدانيُّ العالم المفكِّر المفسِّر (زوجي كما عرفته)، صدرَ عن دار القلم بدمشقَ، ضمن سلسلة: علماء ومفكِّرون معاصرون، لمحاتٌ من حياتهم، وتعريفٌ بمؤلَّفاتهم. في ليلة الأربعاء ٢٥ من جُمادى الآخرة ١٤٢٥هـ قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني، عن ٨٠ سنة، في إثْر مرض خَبيث ألمَّ به. شُيِّعَت جِنازةُ الشيخ عصرَ يوم الأربعاء، وكانت جِنازةً حافلةً مشهودةً، خرجَ فيها آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والكُبَراء والعامَّة، تملؤُهم الحسرةُ وتَمُضُّهُم الأحزان، وصُلِّي عليه في جامع الأمير مَنْجَك في حيِّ المَيدان، وأبَّنَهُ عقِبَ الصَّلاة شيخُ قرَّاء الشام فضيلةُ الشَّيخ محمد كريِّم راجح، وألقى ولدُه الدكتور وائل قصيدةً في رثائه، ثم وُوريَ في مثواهُ الأخير من دار الدُّنيا بمقبرة الجُورَة في المَيدان. رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجَزاهُ عن دَعوته وجهاده خيرَ ما يجزي المحسنينَ، وأخلفَ في الأمَّة أمثاله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العَليِّ العظيم.
الشيخ حسن حبنكة الميداني [والد المؤلف] بقلم د: يحيى الغوثاني لقد كان الشيخ حسن حبنكة ذا هيبة كبيرة في قلوب أهل الشام ولا زلنا نذكر ونحن صغار شَبَبة كيف كنا نتطلع إلى رؤية وجهه ومحياه عندما يدخل إلى بعض المحافل أو يحضر إحدى المناسبات.... وإن أنس لا أنس ذلك الحفل المهيب الذي حضر فيه أكابر علماء دمشق ليسلموا شهادات التقدير والتخرج لطلبة معهد الفرقان وذلك عام ١٩٧٦ م وقد امتلأ المكان بأكابر القوم وحشد من أهل العلم وألقى العلماء كلماتهم وكان قمر هذه الحفل الشيخ حسن حبنكة الميداني ﵀ وتشرفنا بتسليم شهاداتنا من يده
١ـ مولده ونسبه: ولد الشيخ حسن حبنكة ﵀ في العام ١٣٢٦ هجرية والموافق لعام ١٩٠٨ ميلادية في دمشق في حيِّ الميدان، المعروف بأصالته العربية، وحبه للدين، ومحافظته على العادات والشيم الرفيعة. ويعود نسب الشيخ إلى عرب بني خالد، وهم قبيلة معروفة من قبائل العرب، ولها منازل في بادية حماة من أرض الشام. نشأ الشيخ في أحضان عائلة تتصف بالاستقامة والصلاح، فوالده الحاج مرزوق عُرف بتدينه ومواظبته على الطاعات، وحب فعل الخير، والبر بوالديه وبخاصة والدته، التي كان لها الخادم البار في سنيِّ كبرها وعجزها، وكان مواظبًا على العبادة في وقت السحر، ويخرج إلى صلاة الفجر مبكرًا فيصلي ويجلس للذكر وتلاوة القرآن، وكان ذا رغبة صادقة في أن يكون ولده (حسن) عالمًا. وأما والدة الشيخ فهي الحاجة خديجة المصري، من قرية الكسوة جنوب دمشق، وهي من النساء الصالحات العفيفات، وقد توفيت أثناء عودتها من رحلة الحج عن طريق البحر، مع ابنها الشيخ حسن.
٢ـ نشأته وطلبه للعلم: نشأ الشيخ منذ طفولته متوقد الذكاء، قوي الحافظة طموحًا، محبًا للعلم والفضيلة والمجد، فتعلم في الكُتاب القراءة والكتابة والقرآن، ثم أرسله أبوه إلى مدرسة في أطراف دمشق، يشرف عليها الشيخ شريف اليعقوبي وكان أهل علم وصلاح، وبعد أن أنهى صفوف المدرسة عنده اتجه إلى أستاذ آخر، كان قد سمع به في حيِّه وهو الشيخ طالب هيكل، وكان له علم بشيء من النحو والصرف والفقه على مذهب الإمام الشافعي، فاستفاد منه في هذه العلوم، ثم تعرف على عالم آخر من المعروفين بالعلم والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الشيخ عبد القادر الأشهب، فتلقى عنه أوسع مما تلقى عن شيخه السابق، لكن رغبته في العلم، وطموحه في التحصيل، كانا يدفعانه إلى المزيد من العلم، والجلوس بين يدي العلماء، لاسيما وقد سمع بكبار العلماء في قلب مدينة دمشق، فبدأ الاتصال بهم واحدًا فواحدًا، ليروي نهمه العلمي، وكان والده يشجعه على ذلك، وقد تكفل به وبأسرته، بعد أن زوجه في سن صغيرة في الخامسة عشر من عمره. تابع الشيخ مسيرته العلمية، بكل همة واجتهاد ونشاط، ينهل من مختلف العلوم العربية والشرعية، وحتى بعض العلوم الكونية مثل الطب وعلم النبات، خصوصًا وقد أكرمه الله ﷿ بالتعرف على ثلة من جهابذة العلماء، كان في مقدمتهم الشيخ محمود العطار وهو فقيه حنفي وعالم متمكن، فتتلمذ على يديه سنين طوالًا، كما اتصل بالعلامة التقي الورع والأصولي والفقيه البارع، الشيخ أمين سويد رحمه الله تعالى ولازمه ملازمة طويلة، ثم التقى عالمًا ضليعاَ بعلوم اللغة العربية لاسيما البلاغة والأدب وحسن صياغة النصوص والإنشاء هو الشيخ عبد القادر الاسكندراني ﵀ الذي أفاده في هذه العلوم كثيرًا، كما استفاد من عالم كردي متمكن في العلوم العقلية (المنطق والفلسفة وأصول الفقه) فقرأ عليه عددًا من الكتب في هذه العلوم، كما تتلمذ على الشيخ عطا الكسم مفتي الديار الشامية، فلازمه مدة سمع خلالها مسائل كثيرة من الفقه الحنفي، وأكرمه الله ﵎ بالاتصال بعلامة الشام وشيخ مشايخها الشيخ بدر الدين الحسني الذي أفرد له وقتًا خاصًا، ليقرأ عليه فيه واستمر ذلك حتى وفاة الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى فاستفاد من علمه وروحانيته الشيء الكثير. هؤلاء هم أشهر الأساتذة والمشايخ، الذين تلقى عنهم، واغترف من غزير علومهم ومعارفهم واقتبس من أخلاقهم وصفاتهم، مع ما وهبه الله من عقل ذكي وبديهة حاضرة وحب شديد للمعرفة بحيث أصبح من خيرة العلماء علمًا وعملًا ودعوة.
٣ـ مرحلة الدعوة والتعليم: لم يكن الشيخ محبًا للعلم، والاستزادة منه، ليملأ به عقله وذهنه فحسب، ومن ثم يتغنى بأمجاد العلم ويتعالى به على الناس، بل كان العلم هو وسيلته إلى الدعوة إلى الله ﷿، وإصلاح المجتمع، وتربية العلماء الراسخين، الذين يقودون حركة الإصلاح والنهوض بمجتمعهم، لذلك رأيناه يسلك طريق الدعوة والتعليم، وهو بعد ما يزال صغيرًا طالب علم، فملأ وقته مابين طلب للعلم ومابين التعليم والوعظ والإرشاد، وأصبح له طلاب يقصدونه، ليقرؤا عليه بعض الكتب في مختلف العلوم بعد أن عاينوا تمكنه وحسن أسلوبه وشرحه. ولما قامت النهضة العلمية الدعوية في دمشق، على يد العالم الداعية الشيخ علي الدقر رحمه الله تعالى كان الشيخ حسن أحد أركانها، وقدم لها كل إمكاناته وكان مديرًا لإحدى المدارس التي أنشأها بالتعاون مع الجمعية الغراء جمعية الشيخ علي الدقر، وهي مدرسة (وقاية الأبناء) وشهدت المدرسة في عهد إدارته نجاحًا باهرًا، وتخرج منها طلاب علم غدوا فيما بعد من أكابر علماء الشام، وفي هذه الأثناء لم ينقطع الشيخ حسن عن التعليم والدعوة في جامع منجك مقرِّ دعوته الرئيسي، حيث كان الطلاب يتوافدون عليه صباحًا ومساءً، ويتنقلون من علم إلى علم وفق منهج جادٍ صارمٍ، لتبنى شخصياتهم العلمية بناءً قويًا راسخًا، وكانت فكرة إنشاء معهد شرعي له نظامه المتكامل، وصفوف متدرجة، فكرة قد شغلت ذهن الشيخ وصمم على تنفيذها مستعينًا بالله ومتوكلًا عليه، وتم له ما أراد حين قام (معهد التوجيه الإسلامي) بإشراف الشيخ حسن وبمعونة طلابه المتقدمين، الذين تعب على تدريسهم وتعليمهم، ليكونوا من خيرة الأساتذة بل والعلماء ولقد تخرج من هذا المعهد، العدد الكبير من طلاب العلم، من سوريا ولبنان والأردن وتركيا وبعض البلاد الإفريقية، والذين أصبح الكثير منهم علماء البلاد ومراجع الناس في العلم والفتوى. ولم يعتن الشيخ كثيرًا بالتأليف، لأنه كان منصرفًا إلى تربية الرجال المؤمنين الصادقين وتخريج العلماء المتمكنين، وطلابه اليوم والحمد لله هم في مقدمة علماء سوريا، أمثال أخيه العالم الفقيه واللغوي الأديب، والخطيب الحكيم، الشيخ صادق حبنكة حفظه الله وبارك في حياته، والشيخ حسين خطاب رحمه الله تعالى شيخ قراء الشام العالم العامل، والداعية المؤثر، وخلفه الشيخ محمد كريم راجح شيخ قراء الشام حاليًا الخطيب المفوه، والأديب الشاعر والفقيه الحاذق، والشيخ الدكتور مصطفى الخن الفقيه الأصولي، الأديب والمدرس في كليات الشريعة في دمشق وفي المملكة العربية السعودية، والشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي العالم المفكر الفقيه الأصولي والداعية المشهور، ونجل الشيخ الأكبر الشيخ عبد الرحمن حبنكة رحمه الله تعالى العالم المطلع، والمصنف المكثر الأستاذ في كلية الشريعة في جامعة أم القرى في مكة المكرمة.
٤ـ أسلوبه في التعليم: كان الشيخ حريصًا على أن يُخرِّج علماء، يتقنون ما تعلموه ليستطيعوا بذله للناس بكل ثقة وأمانة فكان مع الطلاب المبتدئين، كثير الشرح والبيان لمسائل العلم الذي يتلقونه، يعطيهم مفاتيح العلوم ويحثهم على الرجوع إلى الكتب لفهم عباراتها، وحفظ مسائلها، وأما الطلاب المتقدمون، فكان يدربهم على استخراج المسائل من مظانها، وتحليل القضايا إلى عناصرها، تحليلًا عقليًا منطقيًا ويمرنهم على المناظرة والمحاورة، لتكون لكل منهم شخصيته العلمية المستقلة، التي تعتمد على قدراتها وتثق بإمكاناتها.
٥ـ مشاركاته العلمية: كانت للشيخ مكانته العلمية والدينية المتميزة، ولذلك لما تأسست جمعية لعلماء سوريا باسم (رابطة العلماء) كان الشيخ أحد أعضائها البارزين، فكان الشيخ أبو الخير الميداني رئيسًا لها والشيخ حسن حبنكة أمينًا عامًا لها، وقد قامت هذه الرابطة بدور توجيهي بالغ الأثر في الحياة العامة للبلاد. وشارك الشيخ أيضًا في رابطة العالم الإسلامي، واختير عضوًا فيها عن سوريا خلفًا للشيخ مكي الكتاني رحمه الله تعالى، وكان يحضر اجتماعاتها السنوية في مكة المكرمة مشاركًا بعلمه ورأيه.
٦ـ اهتمامه بالمجتمع والأعمال الخيرية: إن مثل الشيخ حسن حبنكة رحمه الله تعالى، في وراثته لهدي النبوة التي كانت رحمة للناس في كافة مجالات حياتهم، لايمكن أن يكون بمعزل عن حياة الناس، وعن المشاركة في حلِّ أزماتهم وتخفيف معاناتهم، ورفع شأنهم في كل أمر، لذلك وجَّه الشيخ عنايته إلى أفراد حيِّه أولًا يبحث عن الفقراء والمحتاجين والمرضى والأيتام، ليحوطهم بكل ما يستطيع تقديمه لهم، وذلك بمعونة أهل الخير والإحسان، وراح يوجه إلى قيام وإنشاء الجمعيات الخيرية، التي تتولى جمع التبرعات من زكوات وصدقات، لتوزع على المستحقين بكل أمانة ودقة، وكانت فاتحة هذه الجمعيات (جمعية أسرة العمل الخيري) ثم توسع هذا العمل المبرور، إلى باقي أحياء وحارات الميدان ومدينة دمشق، كما كان الشيخ أيضًا ملاذ الناس في معضلات أمورهم، ومشاكلهم يهرعون إليه للنظر فيها والمساعدة على حلها، فكان بيت الشيخ دارًا للقضاء والشورى وفضِّ المنازعات.
٧ـ مواقفه الإسلامية الشجاعة: إن من أعظم ما يتميز به الشيخ حسن رحمه الله تعالى جرأته في الحق، وشجاعته في مواجهة الباطل، وهي صفة رافقته منذ يفاعته وشبابه المبكر، فحينما اندلعت الثورة السورية على المستعمر الفرنسي عام ١٩٢٥م وكان الشيخ يطلب العلم، وهو في مقتبل العمر في السابعة عشر من عمره، هبَّ ليشارك الثوار المجاهدين، وانضوى تحت لواء واحد من مشاهيرهم، وهو الشيخ محمد الأشمر رحمه الله تعالى وشارك في قتال المغتصبين المحتلين. ولما أرادت فرنسا فرض (قانون الطوائف)، محاولة بذلك تغيير العديد من قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية، قام الشيخ خطيبًا ينبه العقول، ويفضح الألاعيب ويُلهب المشاعر، وكان لموقفه هذا أثره البالغ في إبطال العمل بذلك القانون المنحرف. وهكذا كان الشيخ ﵀ في كل مرة وفي أي عهد من العهود، لسان الحق الجريء المقدام الذي ينافح عن عقيدة الأمة وتشريعها وتاريخها، مرتكزًا في ذلك على علم راسخ، ووعي يدرك أبعاد القضايا، وحكمة تزن الأمور بميزان دقيق حساس، وقلب عميق الصلة بالله والتوكل عليه واحتساب الأجر والثواب عنده وحده، ولقد لقي الشيخ في سبيل ذلك من المكاره والأذى الشيء الكثير، ولكنه وبفضل الله ومعونته خرج ظافرًا منتصرًا.
٨ - صفاته الشخصية ومشاركاته الأدبية ومختارات من شعره: لقد أوتي الشيخ ﵀ من الصفات الذاتية والمحامد الخلقية نصيبًا موفورًا، فكان حاد الذكاء حاضر البديهة، وكان عميق التفكير، صادق الفراسة، وكان فصيح اللسان واسع الشرح والبيان وخطيبًا جماهيريًا يملك قلوب وأفكار مستمعيه، وكان محدثًا بارعًا يأسر مَن يحدثه بحسن بيانه وجواهر لفظه، وكان ﵀ عظيم الصبر على الناس كثير التسامح حريصًا على تأليف القلوب، وكان كثير الاهتمام بعيادة المرضى والدعاء لهم بالشفاء، وكان حكيمًا في فضِّ المنازعات وإطفاء نيران الفتنة بين الناس، وكان ﵀ عفيفًا يعلم طلابه ويدربهم على العفة والترفع عن الدنايا والصغائر، وكان متواضعًا وخصوصًا لرجل صالح أو عالم فاضل أو شيخ كبير السن أو امرأة عجوز، وهو في ذات الوقت كان عزيزًا لم يُهن نفسه لغني من أجل غناه، ولا لذي وجاهة في قومه من أجل وجاهته، ولم يمالئ ذا سلطان وهو في سلطانه، وكان الشيخ ذا حس ونفس أدبي واضح، وربما نظم شعرًا وجدانيًا دينيًا، لكنه فيه مقلٌّ إذ لم يُفرِّغ نفسه له وفي مناسبة من مناسبات الحج فاضت مشاعره ببعض أبيات ومما قاله فيها: صفق القلب للحجاز وثارا.... شفه الشوق للحبيب فطارا واقتفت إثره الجسومُ غرامًا.... فجرى الركب في الرمال وسارا يا ديار الحبيب يا أنس قلبي.... عدل الدهر في الهوى أو جارا يا بقاع الأنوار من فيض ربي.... حدثيني عن الرسول جهارا
٩ - صفاته التربوية: كان ﵀ مربيًا شديد الملاحظة والمتابعة، لا تكاد تفوته كبيرة ولا صغيرة من حركات مَن هم في دائرة تربيته وتوجيهه، وكان من أساليبه التربوية إلجاء مَن يشرف على تربيتهم إلى ممارسة الأمور التي يحرص أن يربيهم عليها، من أعمال وأقوال وتعليم وتوجيه. وكان أخشى ما يخشاه أن يُصاب من هو في دائرة تربيته بالغرور بنفسه فيستكبر أو يقنع بما وصل إليه فلا يتابع مسيرته متناميًا متكاملًا. وكان من أساليبه التربوية أيضًا تصيد أيِّ حدث يمكن الاستفادة منه لتربية العقائد والمفاهيم الإسلامية وتثبيتها وتعميقها.
١٠ - وفاته: أصيب الشيخ بجلطة قلبية، نتيجة الإجهاد والتعب المتواصل، وما يحمل من هموم الأمة وآلامها ولكنها مرت بسلام، إلا أن همة الشيخ وصحته لم تعد كما كانت من قبل، وفي فجر الاثنين في ١٤ذي القعدة /١٣٩٨ هجرية الموافق ١٦/١٠/١٩٧٨م التحق الشيخ بالرفيق الأعلى عن عمر ناهز السبعين عامًا، وكان قد أزمع السفر إلى مكة المكرمة، لحضور مؤتمر من مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي، ثم الحج إلى بيت الله الحرام، وما إن أشيع النبأ حتى عم الحزن والأسى بلاد الشام قاطبة، وتقاطرت الوفود من كل الجهات لتشييع جنازته، التي كانت جنازة ضخمة مشى فيها مئات الآلاف من محبي الشيخ وطلابه وعارفيه، وصُلي عليه في الجامع الأموي الكبير في قلب دمشق، ثم دُفن في حيِّه حيِّ الميدان بجوار المسجد الجامع الذي سعى في إنشائه وإعماره والذي سُمي فيما بعد جامع الحسن.تغمد الله الشيخ حسنًا بواسع رحمته، ورفع مقامه في عليين، وجزاه عن جهاده ودعوته وتعليمه أفضل ما يُجازى العاملون، وجمعنا به مع أشياخنا وأحبابنا في مستقر رحمته، تحت لواء الحبيب المصطفى ﷺ.
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف] بقلم د: يحيى الغوثاني مولده وتعليمه: ولد الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في دمشق بحي الميدان سنة ١٩٢٧م / ١٣٤٥ هـ، ونشأ في بيت علم ودعوة تحيط به ظروف قلَّما تيسَّرت لغيره، فهو سليل إحدى العائلات الدمشقيّة العريقة التي عُرِفت بالعلم، وهو والعلم والدعوة - بدءًا من نشأته الأولى منذ ما يزيد عن ستين عامًا - توءمان لا يفترقان، وكان لوالده الشيخ حسن حبنكة فضل تربيته وتأديبه وتعليمه. درس الشيخ عبد الرحمن في "معهد التوجيه الإسلامي"، الذي أنشأه والده ﵀، وتخرج فيه عدد من علماء دمشق المعروفين.. كالشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ الدكتور مصطفى سعيد الخنّ، والشيخ حسين خطَّاب ﵀، والدكتور مصطفى البغا، وغيرهم. ثم درس الشيخ في الأزهر الشريف، وعمل بعد تخرجه في مديرية التعليم الشرعي التابعة لوزارة الأوقاف السورية، ثم عضوًا لهيئة البحوث في وزارة التربية والتعليم في سوريا، ثم انتقل إلى السعودية بعد عام ١٩٦٧م ليعمل أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم أستاذًا في جامعة أم القرى في مكة قرابة ثلاثين عامًا.
من مؤلفاته: قدّم الشيخ عبد الرحمن حبنكة كتبا قيمة زادت على الثلاثين كتابا أثرى بها المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي؛ حيث تعدَّدت إسهاماته وتنوعت في مجالات متعددة: في العقيدة، والدعوة، والأدب، والأخلاق، والدراسات القرآنية، وسلسلة أعداء الإسلام: "اليهود - الشيوعية - التيارات المعاصرة - الغزو الفكري"، وغيرها، ونذكر من كتبه ما يلي: - العقيدة الإسلاميَّة وأسسها. - الأخلاق الإسلاميَّة وأسسها. - قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله. - أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع. - مكايد يهوديَّة عبر التاريخ. - صراع مع الملاحدة حتى العظم. - أجنحة المكر الثلاثة. - ديوان "ترنيمات إسلاميَّة"، شعر. - ديوان "آمنت بالله"، شعر. - ديوان "أقباس" في منهج الدعوة وتوجيه الدعاة. - ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. - مبادئ في الأدب والدعوة. - معارج التفكر ودقائق التدبر. - نوح ﵇ وقومه في القرآن. - تدبر سورة الفرقان. - روائع من أقوال الرسول. - الصيام ورمضان في السنة والقرآن. - براهين وأدلة إيمانية. - ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة. - غزو في الصميم. - الكيد الأحمر. - ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين. - كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة. - بصائر للمسلم المعاصر. - التحريف المعاصر في الدين. - الحضارة الإسلامية. - توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. - فقه الدعوة إلى الله تعالى. - البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها وصور من تطبيقاتها. - صفات عباد الرحمن في القرآن. - - قدّم لكتاب: منهج التربية النبوية للطفل مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح.
من آرائه ومواقفه التاريخية: ومن آرائه البارزة في طبيعة اليهود ما ذكره في كتابه: "مكايد يهودية عبر التاريخ"، الذي كشف فيه حقيقة الكيان الصهيوني والعقيدة الصهيونية؛ حيث بين أنها قائمة على الظلم والعدوان منذ عهد الرسول ﷺ وحتى يومنا هذا. وقال: إن الدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعبًا له صفاته وخصائصه المميزة يجده شعبًا شريرًا، خائنًا، ملتويًا، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصريًا، مغرورًا، جشعًا، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب الأخرى. انظر: ص١٣- ٢٠. ومن آرائه المشهورة أنه ذكر أربع نقاط يمكن للإنسان أن يقيس نفسه بها ويعرف ما إذا كان قوي الإرادة أم ضعيفها وهى: ١- سرعة مبادرته للخيرات والطاعات. ٢- التفاؤل بالخير دائما. ٣- تلقي الأحداث بصبر ورضي. ٤- ملك النفس عند الغضب. وقال: إن الإنسان إذا أراد أن يقوي إرادته الفعلية فعليه بما يلي: ١- تقوية إيمانه بالله تعالى وبصفاته الحسنى وبقضائه وقدره. ٢- التدريب العملي من خلال مجاهدة النفس. ٣- ممارسات العبادات. ومن مواقفه التاريخية في مضمار التصدي لما يسمى بالغزو الفكري أنه في أحد صباحات نيسان ١٩٦٧م تسلل أحد الغزاة الفكريين إلى إحدى المطبوعات الدورية الحكومية في سوريا، ودس مقالا تخريبيا للفكر الإسلامي، فما كان منه ﵀ إلا أن تصدى له في منبر جامع الميدان ملهبا مشاعر الجماهير المسلمة التي اندفعت إلى الشوارع في مظاهرات صاخبة، وأغلقت المحال؛ حيث كان الظرف السياسي في تلك الآونة شديد التأزم والخطورة، فتحركت الدولة بسرعة لامتصاص الأزمة، وفعلا وقع على من له علاقة بما نشر في المجلة أحكام مشددة. رحم الله الشيخ عبد الرحمن حبنكة، فسجله الحافل بالتصدي للغزو الفكري وأكثر من ثلاثين عاما قدم فيها في المملكة العربية السعودية خلاصة فكره المنير لهي إضاءات أنارت قلوب وعقول شباب الأمة المسلمة.
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف] بقلم: وصفي عاشور أبو زيد، باحث مصري في العلوم الشرعية عبد الرحمن حبنكة (١٣٤٥ - ١٤٢٥ هـ) توفي في العاصمة السورية دمشق ساعة مبكرة من صباح يوم الأربعاء / ٨ / ٢٠٠٤ م، عن عمر مديد مبارك يناهز السابعة والسبعين عاما.. من قدر الله الذي جرى على أمتنا الإسلامية في التسع سنوات الأخيرة أن رزئت بموت كوكبة من أكابر علمائها، على رأسهم: المفكر الداعية الشيخ محمد الغزالي، والإمام الأكبر الشيخ جاد الحق، والكاتب الإسلامي خالد محمد خالد، والمفسر الملهم الشيخ الشعراوي، والفقيه المحقق مصطفى الزرقا، والمحدث المدقق ناصر الدين الألباني، والخطيب المؤيَّد عبد الحميد كشك، والأديب الفقيه علي الطنطاوي، واللغوي الحُجة محمود محمد شاكر، والمصلح الألمعي أبو الحسن الندوي، والعالم الزاهد عبد العزيز بن باز، وراهب العلم الأستاذ محمد عبد الحليم أبو شقة، والفقيه الداعية الشيخ السيد سابق، والعالم المربي محمد الصالح العثيمين، والفقيه الأصولي الدكتور محمد بلتاجي حسن، وغيرهم وغيرهم، فلم يمض القرن العشرون إلا ومعه جل علمائه ودعاته ومصلحيه. واليوم يودعنا أحد هؤلاء المفكرين الأعلام الذين كرسوا حياتهم للدعوة إلى الله وتربية الأجيال، وتأليف الكتب، ومقارعة المتغربين والمستشرقين، والحفاظ على مبادئ الإسلام ومثله العليا ومقاصده الكبرى، والتصدي للغزو الفكري حتى لقَّبه أحد زملائه بـ "أبو الغزو الفكري والثقافة الإسلاميَّة". إنه العالم المفكر الداعية الشيخ الدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني مولده وتعليمه: ولد الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في دمشق بحي الميدان سنة ١٩٢٧م / ١٣٤٥ هـ، ونشأ في بيت علم ودعوة تحيط به ظروف قلَّما تيسَّرت لغيره، فهو سليل إحدى العائلات الدمشقيّة العريقة التي عُرِفت بالعلم، وهو والعلم والدعوة - بدءًا من نشأته الأولى منذ ما يزيد عن ستين عامًا - توءمان لا يفترقان، وكان لوالده الشيخ حسن حبنكة فضل تربيته وتأديبه وتعليمه. درس الشيخ عبد الرحمن في "معهد التوجيه الإسلامي"، الذي أنشأه والده ﵀، وتخرج فيه عدد من علماء دمشق المعروفين.. كالشيخ الداعية الفقيه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ الدكتور مصطفى سعيد الخنّ، والشيخ حسين خطَّاب ﵀، والدكتور مصطفى البغا، وغيرهم. ثم درس الشيخ في الأزهر الشريف، وعمل بعد تخرجه في مديرية التعليم الشرعي التابعة لوزارة الأوقاف السورية، ثم عضوًا لهيئة البحوث في وزارة التربية والتعليم في سوريا، ثم انتقل إلى السعودية بعد عام ١٩٦٧م ليعمل أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم أستاذًا في جامعة أم القرى في مكة قرابة ثلاثين عامًا. من مؤلفاته: قدّم الشيخ عبد الرحمن حبنكة كتبا قيمة زادت على الثلاثين كتابا أثرى بها المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي؛ حيث تعدَّدت إسهاماته وتنوعت في مجالات متعددة: في العقيدة، والدعوة، والأدب، والأخلاق، والدراسات القرآنية، وسلسلة أعداء الإسلام: "اليهود - الشيوعية - التيارات المعاصرة - الغزو الفكري"، وغيرها، ونذكر من كتبه ما يلي: - العقيدة الإسلاميَّة وأسسها. - الأخلاق الإسلاميَّة وأسسها. - قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله. - أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع. - مكايد يهوديَّة عبر التاريخ. - صراع مع الملاحدة حتى العظم. - أجنحة المكر الثلاثة. - ديوان "ترنيمات إسلاميَّة"، شعر. - ديوان "آمنت بالله"، شعر. - ديوان "أقباس" في منهج الدعوة وتوجيه الدعاة. - ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. - مبادئ في الأدب والدعوة. - معارج التفكر ودقائق التدبر. - نوح ﵇ وقومه في القرآن. - تدبر سورة الفرقان. - روائع من أقوال الرسول. - الصيام ورمضان في السنة والقرآن. - براهين وأدلة إيمانية. - ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة. - غزو في الصميم. - الكيد الأحمر. - ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين. - كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة. - بصائر للمسلم المعاصر. - التحريف المعاصر في الدين. - الحضارة الإسلامية. - توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. - فقه الدعوة إلى الله تعالى. - البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها وصور من تطبيقاتها. - صفات عباد الرحمن في القرآن. - منهج التربية النبوية للطفل مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح. من آرائه ومواقفه التاريخية: ومن آرائه البارزة في طبيعة اليهود ما ذكره في كتابه: "مكايد يهودية عبر التاريخ"، الذي كشف فيه حقيقة الكيان الصهيوني والعقيدة الصهيونية؛ حيث بين أنها قائمة على الظلم والعدوان منذ عهد الرسول ﷺ وحتى يومنا هذا. وقال: إن الدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعبًا له صفاته وخصائصه المميزة يجده شعبًا شريرًا، خائنًا، ملتويًا، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصريًا، مغرورًا، جشعًا، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب الأخرى. انظر: ص١٣- ٢٠. ومن آرائه المشهورة أنه ذكر أربع نقاط يمكن للإنسان أن يقيس نفسه بها ويعرف ما إذا كان قوي الإرادة أم ضعيفها وهى: ١- سرعة مبادرته للخيرات والطاعات. ٢- التفاؤل بالخير دائما. ٣- تلقي الأحداث بصبر ورضي. ٤- ملك النفس عند الغضب. وقل: إن الإنسان إذا أراد أن يقوي إرادته الفعلية فعليه بما يلي: ١- تقوية إيمانه بالله تعالى وبصفاته الحسنى وبقضائه وقدره. ٢- التدريب العملي من خلال مجاهدة النفس. ٣- ممارسات العبادات. ومن مواقفه التاريخية في مضمار التصدي لما يسمى بالغزو الفكري أنه في أحد صباحات نيسان ١٩٦٧م تسلل أحد الغزاة الفكريين إلى إحدى المطبوعات الدورية الحكومية في سوريا، ودس مقالا تخريبيا للفكر الإسلامي، فما كان منه ﵀ إلا أن تصدى له في منبر جامع الميدان ملهبا مشاعر الجماهير المسلمة التي اندفعت إلى الشوارع في مظاهرات صاخبة، وأغلقت المحال؛ حيث كان الظرف السياسي في تلك الآونة شديد التأزم والخطورة، فتحركت الدولة بسرعة لامتصاص الأزمة، وفعلا وقع على من له علاقة بما نشر في المجلة أحكام مشددة. رحم الله الشيخ عبد الرحمن حبنكة، فسجله الحافل بالتصدي للغزو الفكري وأكثر من ثلاثين عاما قدم فيها في المملكة السعودية خلاصة فكره المنير لهي إضاءات أنارت قلوب وعقول شباب الأمة المسلمة.
ترجمة المؤلف [ووالده] _________ قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: هذه التراجم - كلها - ليست في المطبوع، وإنما أثبتناها هنا للفائدة
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف] بقلم: أيمن بن أحمد ذو الغنى وُلدَ فضيلة الشيخ العلاَّمة عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني الدِّمشقي سنة ١٣٤٥هـ (١٩٢٧م)، في أحد أعرق أحياء دمشقَ، حيِّ المَيدان، لأُسرة علمٍ ودعوة وجهاد؛ فأبوه العلاَّمةُ المربِّي المجاهد حاملُ لواء الدَّعوة في الشام، الإمامُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني، عضوُ المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ، وتَرجعُ أُصولُ أسرة الشيخ إلى عَرَب بني خالد الذين تمتدُّ منازلُهم إلى بادية حَماة من أرض الشام. نشأ فقيدُنا في بيت أبيه الذي كان دارَةَ علمٍ وتوجيه، ومَجْمَعَ فقهٍ وفَتوى، وتَرَعرَعَ في أكناف والده، يَحوطُه بعنايته ورعايته، ويُعدُّه ليكونَ خليفةً له في العلم والدَّعوة. تلقى الشيخُ العلمَ في المدرسة الشَّرعيَّة النَّموذجيَّة التي أسَّسها أبوه الإمامُ وسمَّاها: معهدَ التوجيه الإسلاميِّ، وهي مدرسةٌ داخليَّة مجانيَّة، كان نظامُ التعليم فيها فريدًا مُتميِّزًا، على طريقة علماء المسلمينَ المتقدِّمينَ، والدراسةُ فيها دراسةً موسوعيَّة أصيلة، يتدرَّجُ فيها الطلاَّبُ من مبادئ العلوم إلى أعلى المستَويات. وكان الشيخُ حسن يدرِّب طلاَّبَه - ومنهم ابنُه عبد الرحمن - على إعداد خُطَب ودُروس ومُحاضَرات، وإلقائها، وهم لا يزالون حَديثي الأسنان، مما كان له أعظمُ الأثر في تمكُّنهم من الخَطابة والوعظ والتعليم، وفي تكوين شخصيَّاتهم العلميَّة والدَّعَويَّة. تخرَّجَ المُترجَم في معهد أبيه سنة ١٣٦٧هـ (١٩٤٧م)، وكان أبوه عَهِدَ إليه بالتدريس في معهده وهو ابنُ ١٥ سنة، ثم أسنَدَ إليه بعد تخرُّجه تدريسَ عدد من العلوم، منها: الفقه، والأُصول، والتوحيد، والمنطِق، والبلاغة. وفي سنة ١٣٧٠هـ التحقَ بكُلِّية الشريعة في الأزهر الشَّريف، وحازَ منها الإجازةَ العاليةَ (ليسانس في الشريعة)، ثم حازَ شهادةَ العالِميَّة مع إجازةٍ في التدريس (ماجستير في التَّربية وعلم النفس) . بعد تخرُّجه في الأزهر عملَ مُدرِّسًا في ثانويات دمشقَ الشرعيَّةِ والعامَّةِ، إضافةً إلى التدريس في معهد أبيه ﵀. وتولَّى مُديريَّةَ التعليم الشرعيِّ التابعةَ لوِزارَة الأوقاف، وكان في إدارَته حكيمًا رَشيدًا، يعملُ بهمَّةٍ وصمتٍ، ومن أهمِّ ما أنجزَهُ في إبَّان إدارته: تأسيسُ عددٍ من المدارس الشرعيَّة في بعض المحافظات السوريَّة، منها ثانويةٌ شرعيَّة للإناث بدمشقَ، وأُخرى بحلبَ. في سنة ١٣٨٧هـ (١٩٦٧م) انتقلَ إلى الرياض أستاذًا في جامعة الإمام محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة، قضى فيها سنتين، ثم انتقل إلى مكَّةَ المكرَّمَةِ فعمل أستاذًا في جامعة أمِّ القُرى زُهاءَ ثلاثين عامًا، حتى بلغَ السبعين. اختيرَ الشيخُ عبد الرحمن عضوًا في المجلس التأسيسيِّ لرابطة العالم الإسلاميِّ في مكَّةَ المكرَّمَةِ، وعضوًا في مجلس هيئة الإغاثة الإسلاميَّة العالميَّة. وكان له الكثيرُ من المشاركات في المؤتمرات والنَّدوات، منها: مؤتمرُ التعليم الإسلاميِّ، ومؤتمرُ الاقتصاد الإسلاميِّ، اللذان عُقِدا في مكَّةَ المكرَّمَةِ، ومؤتمرُ الأدب الإسلاميِّ الذي عُقِد في (لكهنو) الهند، ومؤتمرُ الدعوة والدُّعاة الذي عُقِدَ في المدينة المنوَّرَة على ساكنها أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم. وله مشاركاتٌ كثيرةٌ في إلقاء المحاضَرات العامَّة، والأُمسيَّات، والنَّدوات العلميَّة، ضمن الأنشطة الثقافيَّة داخلَ جامعة أمِّ القُرى وخارجَها. وله إسهاماتٌ تلفازيَّة وإذاعيَّة، وقد استمرَّ في تقديم أحاديثَ إذاعيَّةٍ يوميَّة أو أُسبوعيَّة ما يزيدُ على ٣٠ عامًا. كان الشيخُ ﵀ شديدَ الحرص على وقته، فلا يكادُ يُرى إلا قارئًا أو كاتبًا، أو محاضرًا أو مناقشًا، وكان ذا دَأَبٍ وجَلَدٍ على العلم والعمل المتواصل، وكان موسوعيَّ الثقافة، واسعَ الاطِّلاع. تميَّز نتاجُه العلميُّ بالغَزارة مع العُمق والشُّمول، وقد جمعَ في كتاباته بين القديم والحديث، وبين التخصُّص الشرعيِّ الدقيق والعلوم الدنيويَّة العصريَّة. من نتاجه المطبوع: أولًا - سلسلةُ في طريق الإسلام، منها: ١ - العقيدةُ الإسلاميَّة وأُسُسُها. ٢ - الأخلاقُ الإسلاميَّة وأُسُسُها. ٣ - الحضارةُ الإسلاميَّة وأُسُسُها ووَسائلُها. ٤ - الأمَّةُ الربانيَّة الواحدَة. ٥ - فقهُ الدَّعوة إلى الله، وفقهُ النُّصْح والإرشاد. ثانيًا - دراساتٌ قرآنيَّة، منها: ١ - قواعدُ التدبُّر الأمثَل لكتاب الله ﷿. ٢ - مَعارجُ التفكُّر ودقائقُ التدبُّر (وهو تفسير بديع للقرآن الكريم في ١٥ مجلدًا) . ٣ - أمثالُ القرآن وصُوَرٌ من أدبه الرَّفيع. ثالثًا - سلسلةُ أعداء الإسلام، منها: ١ - مَكايدُ يهوديَّةٌ عبرَ التاريخ. ٢ - صراعٌ مع الملاحِدَة حتى العَظْم. ٣ - أجنحَةُ المكر الثلاثةُ وخَوافيها (التبشير، الاستشراق، الاستعمار) . ٤ - الكَيدُ الأحمرُ (دراسة واعية للشيوعيَّة) . ٥ - غَزوٌ في الصَّميم. ٦ - كَواشِفُ زُيوفٍ في المذاهب الفكريَّة المعاصرَة. ٧ - ظاهرةُ النفاق وخَبائثُ المنافقين في التاريخ. رابعًا - سلسلةُ من أدب الدَّعوة الإسلاميَّة، منها: ١ - مبادئُ في الأدب والدَّعوة. ٢ - البلاغةُ العربيَّة (أُسُسُها وعُلومُها وصُوَرٌ من تَطبيقاتها) . ٣ - ديوانُ ترنيمات إسلاميَّة (شعر) . ٤ - ديوانُ آمَنتُ بالله (شعر) . خامسًا - كتبٌ متنوِّعَة: ١ - ضَوابطُ المعرفة وأصولُ الاستدلال والمناظَرة. ٢ - بَصائرُ للمسلم المعاصِر. ٣ - الوالدُ الداعيةُ المربِّي الشيخُ حسن حَبَنَّكَة المَيداني (قصَّة عالم مجاهد حَكيم شُجاع) . ٤ - التحريف المعاصر (ردٌّ على كتاب د. محمد شحرور: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) . ولزوجته الدَّاعية المربِّية عائدة راغب الجرَّاح الأستاذة بجامعة أمِّ القُرى سابقًا - رحمها الله تعالى (توفِّيت قبل الشيخ بزُهاء سنتين) - كتاب: عبدُ الرَّحمن حَبَنَّكَة المَيدانيُّ العالم المفكِّر المفسِّر (زوجي كما عرفته)، صدرَ عن دار القلم بدمشقَ، ضمن سلسلة: علماء ومفكِّرون معاصرون، لمحاتٌ من حياتهم، وتعريفٌ بمؤلَّفاتهم. في ليلة الأربعاء ٢٥ من جُمادى الآخرة ١٤٢٥هـ قضى الله قضاءه الحقَّ بوفاة الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة المَيداني، عن ٨٠ سنة، في إثْر مرض خَبيث ألمَّ به. شُيِّعَت جِنازةُ الشيخ عصرَ يوم الأربعاء، وكانت جِنازةً حافلةً مشهودةً، خرجَ فيها آلافُ المشيِّعينَ من العلماء والكُبَراء والعامَّة، تملؤُهم الحسرةُ وتَمُضُّهُم الأحزان، وصُلِّي عليه في جامع الأمير مَنْجَك في حيِّ المَيدان، وأبَّنَهُ عقِبَ الصَّلاة شيخُ قرَّاء الشام فضيلةُ الشَّيخ محمد كريِّم راجح، وألقى ولدُه الدكتور وائل قصيدةً في رثائه، ثم وُوريَ في مثواهُ الأخير من دار الدُّنيا بمقبرة الجُورَة في المَيدان. رحمَ الله الشيخَ رحمةً واسعة، وجَزاهُ عن دَعوته وجهاده خيرَ ما يجزي المحسنينَ، وأخلفَ في الأمَّة أمثاله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العَليِّ العظيم.
الشيخ حسن حبنكة الميداني [والد المؤلف] بقلم د: يحيى الغوثاني لقد كان الشيخ حسن حبنكة ذا هيبة كبيرة في قلوب أهل الشام ولا زلنا نذكر ونحن صغار شَبَبة كيف كنا نتطلع إلى رؤية وجهه ومحياه عندما يدخل إلى بعض المحافل أو يحضر إحدى المناسبات.... وإن أنس لا أنس ذلك الحفل المهيب الذي حضر فيه أكابر علماء دمشق ليسلموا شهادات التقدير والتخرج لطلبة معهد الفرقان وذلك عام ١٩٧٦ م وقد امتلأ المكان بأكابر القوم وحشد من أهل العلم وألقى العلماء كلماتهم وكان قمر هذه الحفل الشيخ حسن حبنكة الميداني ﵀ وتشرفنا بتسليم شهاداتنا من يده
١ـ مولده ونسبه: ولد الشيخ حسن حبنكة ﵀ في العام ١٣٢٦ هجرية والموافق لعام ١٩٠٨ ميلادية في دمشق في حيِّ الميدان، المعروف بأصالته العربية، وحبه للدين، ومحافظته على العادات والشيم الرفيعة. ويعود نسب الشيخ إلى عرب بني خالد، وهم قبيلة معروفة من قبائل العرب، ولها منازل في بادية حماة من أرض الشام. نشأ الشيخ في أحضان عائلة تتصف بالاستقامة والصلاح، فوالده الحاج مرزوق عُرف بتدينه ومواظبته على الطاعات، وحب فعل الخير، والبر بوالديه وبخاصة والدته، التي كان لها الخادم البار في سنيِّ كبرها وعجزها، وكان مواظبًا على العبادة في وقت السحر، ويخرج إلى صلاة الفجر مبكرًا فيصلي ويجلس للذكر وتلاوة القرآن، وكان ذا رغبة صادقة في أن يكون ولده (حسن) عالمًا. وأما والدة الشيخ فهي الحاجة خديجة المصري، من قرية الكسوة جنوب دمشق، وهي من النساء الصالحات العفيفات، وقد توفيت أثناء عودتها من رحلة الحج عن طريق البحر، مع ابنها الشيخ حسن.
٢ـ نشأته وطلبه للعلم: نشأ الشيخ منذ طفولته متوقد الذكاء، قوي الحافظة طموحًا، محبًا للعلم والفضيلة والمجد، فتعلم في الكُتاب القراءة والكتابة والقرآن، ثم أرسله أبوه إلى مدرسة في أطراف دمشق، يشرف عليها الشيخ شريف اليعقوبي وكان أهل علم وصلاح، وبعد أن أنهى صفوف المدرسة عنده اتجه إلى أستاذ آخر، كان قد سمع به في حيِّه وهو الشيخ طالب هيكل، وكان له علم بشيء من النحو والصرف والفقه على مذهب الإمام الشافعي، فاستفاد منه في هذه العلوم، ثم تعرف على عالم آخر من المعروفين بالعلم والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الشيخ عبد القادر الأشهب، فتلقى عنه أوسع مما تلقى عن شيخه السابق، لكن رغبته في العلم، وطموحه في التحصيل، كانا يدفعانه إلى المزيد من العلم، والجلوس بين يدي العلماء، لاسيما وقد سمع بكبار العلماء في قلب مدينة دمشق، فبدأ الاتصال بهم واحدًا فواحدًا، ليروي نهمه العلمي، وكان والده يشجعه على ذلك، وقد تكفل به وبأسرته، بعد أن زوجه في سن صغيرة في الخامسة عشر من عمره. تابع الشيخ مسيرته العلمية، بكل همة واجتهاد ونشاط، ينهل من مختلف العلوم العربية والشرعية، وحتى بعض العلوم الكونية مثل الطب وعلم النبات، خصوصًا وقد أكرمه الله ﷿ بالتعرف على ثلة من جهابذة العلماء، كان في مقدمتهم الشيخ محمود العطار وهو فقيه حنفي وعالم متمكن، فتتلمذ على يديه سنين طوالًا، كما اتصل بالعلامة التقي الورع والأصولي والفقيه البارع، الشيخ أمين سويد رحمه الله تعالى ولازمه ملازمة طويلة، ثم التقى عالمًا ضليعاَ بعلوم اللغة العربية لاسيما البلاغة والأدب وحسن صياغة النصوص والإنشاء هو الشيخ عبد القادر الاسكندراني ﵀ الذي أفاده في هذه العلوم كثيرًا، كما استفاد من عالم كردي متمكن في العلوم العقلية (المنطق والفلسفة وأصول الفقه) فقرأ عليه عددًا من الكتب في هذه العلوم، كما تتلمذ على الشيخ عطا الكسم مفتي الديار الشامية، فلازمه مدة سمع خلالها مسائل كثيرة من الفقه الحنفي، وأكرمه الله ﵎ بالاتصال بعلامة الشام وشيخ مشايخها الشيخ بدر الدين الحسني الذي أفرد له وقتًا خاصًا، ليقرأ عليه فيه واستمر ذلك حتى وفاة الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى فاستفاد من علمه وروحانيته الشيء الكثير. هؤلاء هم أشهر الأساتذة والمشايخ، الذين تلقى عنهم، واغترف من غزير علومهم ومعارفهم واقتبس من أخلاقهم وصفاتهم، مع ما وهبه الله من عقل ذكي وبديهة حاضرة وحب شديد للمعرفة بحيث أصبح من خيرة العلماء علمًا وعملًا ودعوة.
٣ـ مرحلة الدعوة والتعليم: لم يكن الشيخ محبًا للعلم، والاستزادة منه، ليملأ به عقله وذهنه فحسب، ومن ثم يتغنى بأمجاد العلم ويتعالى به على الناس، بل كان العلم هو وسيلته إلى الدعوة إلى الله ﷿، وإصلاح المجتمع، وتربية العلماء الراسخين، الذين يقودون حركة الإصلاح والنهوض بمجتمعهم، لذلك رأيناه يسلك طريق الدعوة والتعليم، وهو بعد ما يزال صغيرًا طالب علم، فملأ وقته مابين طلب للعلم ومابين التعليم والوعظ والإرشاد، وأصبح له طلاب يقصدونه، ليقرؤا عليه بعض الكتب في مختلف العلوم بعد أن عاينوا تمكنه وحسن أسلوبه وشرحه. ولما قامت النهضة العلمية الدعوية في دمشق، على يد العالم الداعية الشيخ علي الدقر رحمه الله تعالى كان الشيخ حسن أحد أركانها، وقدم لها كل إمكاناته وكان مديرًا لإحدى المدارس التي أنشأها بالتعاون مع الجمعية الغراء جمعية الشيخ علي الدقر، وهي مدرسة (وقاية الأبناء) وشهدت المدرسة في عهد إدارته نجاحًا باهرًا، وتخرج منها طلاب علم غدوا فيما بعد من أكابر علماء الشام، وفي هذه الأثناء لم ينقطع الشيخ حسن عن التعليم والدعوة في جامع منجك مقرِّ دعوته الرئيسي، حيث كان الطلاب يتوافدون عليه صباحًا ومساءً، ويتنقلون من علم إلى علم وفق منهج جادٍ صارمٍ، لتبنى شخصياتهم العلمية بناءً قويًا راسخًا، وكانت فكرة إنشاء معهد شرعي له نظامه المتكامل، وصفوف متدرجة، فكرة قد شغلت ذهن الشيخ وصمم على تنفيذها مستعينًا بالله ومتوكلًا عليه، وتم له ما أراد حين قام (معهد التوجيه الإسلامي) بإشراف الشيخ حسن وبمعونة طلابه المتقدمين، الذين تعب على تدريسهم وتعليمهم، ليكونوا من خيرة الأساتذة بل والعلماء ولقد تخرج من هذا المعهد، العدد الكبير من طلاب العلم، من سوريا ولبنان والأردن وتركيا وبعض البلاد الإفريقية، والذين أصبح الكثير منهم علماء البلاد ومراجع الناس في العلم والفتوى. ولم يعتن الشيخ كثيرًا بالتأليف، لأنه كان منصرفًا إلى تربية الرجال المؤمنين الصادقين وتخريج العلماء المتمكنين، وطلابه اليوم والحمد لله هم في مقدمة علماء سوريا، أمثال أخيه العالم الفقيه واللغوي الأديب، والخطيب الحكيم، الشيخ صادق حبنكة حفظه الله وبارك في حياته، والشيخ حسين خطاب رحمه الله تعالى شيخ قراء الشام العالم العامل، والداعية المؤثر، وخلفه الشيخ محمد كريم راجح شيخ قراء الشام حاليًا الخطيب المفوه، والأديب الشاعر والفقيه الحاذق، والشيخ الدكتور مصطفى الخن الفقيه الأصولي، الأديب والمدرس في كليات الشريعة في دمشق وفي المملكة العربية السعودية، والشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي العالم المفكر الفقيه الأصولي والداعية المشهور، ونجل الشيخ الأكبر الشيخ عبد الرحمن حبنكة رحمه الله تعالى العالم المطلع، والمصنف المكثر الأستاذ في كلية الشريعة في جامعة أم القرى في مكة المكرمة.
٤ـ أسلوبه في التعليم: كان الشيخ حريصًا على أن يُخرِّج علماء، يتقنون ما تعلموه ليستطيعوا بذله للناس بكل ثقة وأمانة فكان مع الطلاب المبتدئين، كثير الشرح والبيان لمسائل العلم الذي يتلقونه، يعطيهم مفاتيح العلوم ويحثهم على الرجوع إلى الكتب لفهم عباراتها، وحفظ مسائلها، وأما الطلاب المتقدمون، فكان يدربهم على استخراج المسائل من مظانها، وتحليل القضايا إلى عناصرها، تحليلًا عقليًا منطقيًا ويمرنهم على المناظرة والمحاورة، لتكون لكل منهم شخصيته العلمية المستقلة، التي تعتمد على قدراتها وتثق بإمكاناتها.
٥ـ مشاركاته العلمية: كانت للشيخ مكانته العلمية والدينية المتميزة، ولذلك لما تأسست جمعية لعلماء سوريا باسم (رابطة العلماء) كان الشيخ أحد أعضائها البارزين، فكان الشيخ أبو الخير الميداني رئيسًا لها والشيخ حسن حبنكة أمينًا عامًا لها، وقد قامت هذه الرابطة بدور توجيهي بالغ الأثر في الحياة العامة للبلاد. وشارك الشيخ أيضًا في رابطة العالم الإسلامي، واختير عضوًا فيها عن سوريا خلفًا للشيخ مكي الكتاني رحمه الله تعالى، وكان يحضر اجتماعاتها السنوية في مكة المكرمة مشاركًا بعلمه ورأيه.
٦ـ اهتمامه بالمجتمع والأعمال الخيرية: إن مثل الشيخ حسن حبنكة رحمه الله تعالى، في وراثته لهدي النبوة التي كانت رحمة للناس في كافة مجالات حياتهم، لايمكن أن يكون بمعزل عن حياة الناس، وعن المشاركة في حلِّ أزماتهم وتخفيف معاناتهم، ورفع شأنهم في كل أمر، لذلك وجَّه الشيخ عنايته إلى أفراد حيِّه أولًا يبحث عن الفقراء والمحتاجين والمرضى والأيتام، ليحوطهم بكل ما يستطيع تقديمه لهم، وذلك بمعونة أهل الخير والإحسان، وراح يوجه إلى قيام وإنشاء الجمعيات الخيرية، التي تتولى جمع التبرعات من زكوات وصدقات، لتوزع على المستحقين بكل أمانة ودقة، وكانت فاتحة هذه الجمعيات (جمعية أسرة العمل الخيري) ثم توسع هذا العمل المبرور، إلى باقي أحياء وحارات الميدان ومدينة دمشق، كما كان الشيخ أيضًا ملاذ الناس في معضلات أمورهم، ومشاكلهم يهرعون إليه للنظر فيها والمساعدة على حلها، فكان بيت الشيخ دارًا للقضاء والشورى وفضِّ المنازعات.
٧ـ مواقفه الإسلامية الشجاعة: إن من أعظم ما يتميز به الشيخ حسن رحمه الله تعالى جرأته في الحق، وشجاعته في مواجهة الباطل، وهي صفة رافقته منذ يفاعته وشبابه المبكر، فحينما اندلعت الثورة السورية على المستعمر الفرنسي عام ١٩٢٥م وكان الشيخ يطلب العلم، وهو في مقتبل العمر في السابعة عشر من عمره، هبَّ ليشارك الثوار المجاهدين، وانضوى تحت لواء واحد من مشاهيرهم، وهو الشيخ محمد الأشمر رحمه الله تعالى وشارك في قتال المغتصبين المحتلين. ولما أرادت فرنسا فرض (قانون الطوائف)، محاولة بذلك تغيير العديد من قوانين الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية، قام الشيخ خطيبًا ينبه العقول، ويفضح الألاعيب ويُلهب المشاعر، وكان لموقفه هذا أثره البالغ في إبطال العمل بذلك القانون المنحرف. وهكذا كان الشيخ ﵀ في كل مرة وفي أي عهد من العهود، لسان الحق الجريء المقدام الذي ينافح عن عقيدة الأمة وتشريعها وتاريخها، مرتكزًا في ذلك على علم راسخ، ووعي يدرك أبعاد القضايا، وحكمة تزن الأمور بميزان دقيق حساس، وقلب عميق الصلة بالله والتوكل عليه واحتساب الأجر والثواب عنده وحده، ولقد لقي الشيخ في سبيل ذلك من المكاره والأذى الشيء الكثير، ولكنه وبفضل الله ومعونته خرج ظافرًا منتصرًا.
٨ - صفاته الشخصية ومشاركاته الأدبية ومختارات من شعره: لقد أوتي الشيخ ﵀ من الصفات الذاتية والمحامد الخلقية نصيبًا موفورًا، فكان حاد الذكاء حاضر البديهة، وكان عميق التفكير، صادق الفراسة، وكان فصيح اللسان واسع الشرح والبيان وخطيبًا جماهيريًا يملك قلوب وأفكار مستمعيه، وكان محدثًا بارعًا يأسر مَن يحدثه بحسن بيانه وجواهر لفظه، وكان ﵀ عظيم الصبر على الناس كثير التسامح حريصًا على تأليف القلوب، وكان كثير الاهتمام بعيادة المرضى والدعاء لهم بالشفاء، وكان حكيمًا في فضِّ المنازعات وإطفاء نيران الفتنة بين الناس، وكان ﵀ عفيفًا يعلم طلابه ويدربهم على العفة والترفع عن الدنايا والصغائر، وكان متواضعًا وخصوصًا لرجل صالح أو عالم فاضل أو شيخ كبير السن أو امرأة عجوز، وهو في ذات الوقت كان عزيزًا لم يُهن نفسه لغني من أجل غناه، ولا لذي وجاهة في قومه من أجل وجاهته، ولم يمالئ ذا سلطان وهو في سلطانه، وكان الشيخ ذا حس ونفس أدبي واضح، وربما نظم شعرًا وجدانيًا دينيًا، لكنه فيه مقلٌّ إذ لم يُفرِّغ نفسه له وفي مناسبة من مناسبات الحج فاضت مشاعره ببعض أبيات ومما قاله فيها: صفق القلب للحجاز وثارا.... شفه الشوق للحبيب فطارا واقتفت إثره الجسومُ غرامًا.... فجرى الركب في الرمال وسارا يا ديار الحبيب يا أنس قلبي.... عدل الدهر في الهوى أو جارا يا بقاع الأنوار من فيض ربي.... حدثيني عن الرسول جهارا
٩ - صفاته التربوية: كان ﵀ مربيًا شديد الملاحظة والمتابعة، لا تكاد تفوته كبيرة ولا صغيرة من حركات مَن هم في دائرة تربيته وتوجيهه، وكان من أساليبه التربوية إلجاء مَن يشرف على تربيتهم إلى ممارسة الأمور التي يحرص أن يربيهم عليها، من أعمال وأقوال وتعليم وتوجيه. وكان أخشى ما يخشاه أن يُصاب من هو في دائرة تربيته بالغرور بنفسه فيستكبر أو يقنع بما وصل إليه فلا يتابع مسيرته متناميًا متكاملًا. وكان من أساليبه التربوية أيضًا تصيد أيِّ حدث يمكن الاستفادة منه لتربية العقائد والمفاهيم الإسلامية وتثبيتها وتعميقها.
١٠ - وفاته: أصيب الشيخ بجلطة قلبية، نتيجة الإجهاد والتعب المتواصل، وما يحمل من هموم الأمة وآلامها ولكنها مرت بسلام، إلا أن همة الشيخ وصحته لم تعد كما كانت من قبل، وفي فجر الاثنين في ١٤ذي القعدة /١٣٩٨ هجرية الموافق ١٦/١٠/١٩٧٨م التحق الشيخ بالرفيق الأعلى عن عمر ناهز السبعين عامًا، وكان قد أزمع السفر إلى مكة المكرمة، لحضور مؤتمر من مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي، ثم الحج إلى بيت الله الحرام، وما إن أشيع النبأ حتى عم الحزن والأسى بلاد الشام قاطبة، وتقاطرت الوفود من كل الجهات لتشييع جنازته، التي كانت جنازة ضخمة مشى فيها مئات الآلاف من محبي الشيخ وطلابه وعارفيه، وصُلي عليه في الجامع الأموي الكبير في قلب دمشق، ثم دُفن في حيِّه حيِّ الميدان بجوار المسجد الجامع الذي سعى في إنشائه وإعماره والذي سُمي فيما بعد جامع الحسن.تغمد الله الشيخ حسنًا بواسع رحمته، ورفع مقامه في عليين، وجزاه عن جهاده ودعوته وتعليمه أفضل ما يُجازى العاملون، وجمعنا به مع أشياخنا وأحبابنا في مستقر رحمته، تحت لواء الحبيب المصطفى ﷺ.
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف] بقلم د: يحيى الغوثاني مولده وتعليمه: ولد الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في دمشق بحي الميدان سنة ١٩٢٧م / ١٣٤٥ هـ، ونشأ في بيت علم ودعوة تحيط به ظروف قلَّما تيسَّرت لغيره، فهو سليل إحدى العائلات الدمشقيّة العريقة التي عُرِفت بالعلم، وهو والعلم والدعوة - بدءًا من نشأته الأولى منذ ما يزيد عن ستين عامًا - توءمان لا يفترقان، وكان لوالده الشيخ حسن حبنكة فضل تربيته وتأديبه وتعليمه. درس الشيخ عبد الرحمن في "معهد التوجيه الإسلامي"، الذي أنشأه والده ﵀، وتخرج فيه عدد من علماء دمشق المعروفين.. كالشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ الدكتور مصطفى سعيد الخنّ، والشيخ حسين خطَّاب ﵀، والدكتور مصطفى البغا، وغيرهم. ثم درس الشيخ في الأزهر الشريف، وعمل بعد تخرجه في مديرية التعليم الشرعي التابعة لوزارة الأوقاف السورية، ثم عضوًا لهيئة البحوث في وزارة التربية والتعليم في سوريا، ثم انتقل إلى السعودية بعد عام ١٩٦٧م ليعمل أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم أستاذًا في جامعة أم القرى في مكة قرابة ثلاثين عامًا.
من مؤلفاته: قدّم الشيخ عبد الرحمن حبنكة كتبا قيمة زادت على الثلاثين كتابا أثرى بها المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي؛ حيث تعدَّدت إسهاماته وتنوعت في مجالات متعددة: في العقيدة، والدعوة، والأدب، والأخلاق، والدراسات القرآنية، وسلسلة أعداء الإسلام: "اليهود - الشيوعية - التيارات المعاصرة - الغزو الفكري"، وغيرها، ونذكر من كتبه ما يلي: - العقيدة الإسلاميَّة وأسسها. - الأخلاق الإسلاميَّة وأسسها. - قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله. - أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع. - مكايد يهوديَّة عبر التاريخ. - صراع مع الملاحدة حتى العظم. - أجنحة المكر الثلاثة. - ديوان "ترنيمات إسلاميَّة"، شعر. - ديوان "آمنت بالله"، شعر. - ديوان "أقباس" في منهج الدعوة وتوجيه الدعاة. - ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. - مبادئ في الأدب والدعوة. - معارج التفكر ودقائق التدبر. - نوح ﵇ وقومه في القرآن. - تدبر سورة الفرقان. - روائع من أقوال الرسول. - الصيام ورمضان في السنة والقرآن. - براهين وأدلة إيمانية. - ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة. - غزو في الصميم. - الكيد الأحمر. - ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين. - كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة. - بصائر للمسلم المعاصر. - التحريف المعاصر في الدين. - الحضارة الإسلامية. - توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. - فقه الدعوة إلى الله تعالى. - البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها وصور من تطبيقاتها. - صفات عباد الرحمن في القرآن. - - قدّم لكتاب: منهج التربية النبوية للطفل مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح.
من آرائه ومواقفه التاريخية: ومن آرائه البارزة في طبيعة اليهود ما ذكره في كتابه: "مكايد يهودية عبر التاريخ"، الذي كشف فيه حقيقة الكيان الصهيوني والعقيدة الصهيونية؛ حيث بين أنها قائمة على الظلم والعدوان منذ عهد الرسول ﷺ وحتى يومنا هذا. وقال: إن الدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعبًا له صفاته وخصائصه المميزة يجده شعبًا شريرًا، خائنًا، ملتويًا، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصريًا، مغرورًا، جشعًا، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب الأخرى. انظر: ص١٣- ٢٠. ومن آرائه المشهورة أنه ذكر أربع نقاط يمكن للإنسان أن يقيس نفسه بها ويعرف ما إذا كان قوي الإرادة أم ضعيفها وهى: ١- سرعة مبادرته للخيرات والطاعات. ٢- التفاؤل بالخير دائما. ٣- تلقي الأحداث بصبر ورضي. ٤- ملك النفس عند الغضب. وقال: إن الإنسان إذا أراد أن يقوي إرادته الفعلية فعليه بما يلي: ١- تقوية إيمانه بالله تعالى وبصفاته الحسنى وبقضائه وقدره. ٢- التدريب العملي من خلال مجاهدة النفس. ٣- ممارسات العبادات. ومن مواقفه التاريخية في مضمار التصدي لما يسمى بالغزو الفكري أنه في أحد صباحات نيسان ١٩٦٧م تسلل أحد الغزاة الفكريين إلى إحدى المطبوعات الدورية الحكومية في سوريا، ودس مقالا تخريبيا للفكر الإسلامي، فما كان منه ﵀ إلا أن تصدى له في منبر جامع الميدان ملهبا مشاعر الجماهير المسلمة التي اندفعت إلى الشوارع في مظاهرات صاخبة، وأغلقت المحال؛ حيث كان الظرف السياسي في تلك الآونة شديد التأزم والخطورة، فتحركت الدولة بسرعة لامتصاص الأزمة، وفعلا وقع على من له علاقة بما نشر في المجلة أحكام مشددة. رحم الله الشيخ عبد الرحمن حبنكة، فسجله الحافل بالتصدي للغزو الفكري وأكثر من ثلاثين عاما قدم فيها في المملكة العربية السعودية خلاصة فكره المنير لهي إضاءات أنارت قلوب وعقول شباب الأمة المسلمة.
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف] بقلم: وصفي عاشور أبو زيد، باحث مصري في العلوم الشرعية عبد الرحمن حبنكة (١٣٤٥ - ١٤٢٥ هـ) توفي في العاصمة السورية دمشق ساعة مبكرة من صباح يوم الأربعاء / ٨ / ٢٠٠٤ م، عن عمر مديد مبارك يناهز السابعة والسبعين عاما.. من قدر الله الذي جرى على أمتنا الإسلامية في التسع سنوات الأخيرة أن رزئت بموت كوكبة من أكابر علمائها، على رأسهم: المفكر الداعية الشيخ محمد الغزالي، والإمام الأكبر الشيخ جاد الحق، والكاتب الإسلامي خالد محمد خالد، والمفسر الملهم الشيخ الشعراوي، والفقيه المحقق مصطفى الزرقا، والمحدث المدقق ناصر الدين الألباني، والخطيب المؤيَّد عبد الحميد كشك، والأديب الفقيه علي الطنطاوي، واللغوي الحُجة محمود محمد شاكر، والمصلح الألمعي أبو الحسن الندوي، والعالم الزاهد عبد العزيز بن باز، وراهب العلم الأستاذ محمد عبد الحليم أبو شقة، والفقيه الداعية الشيخ السيد سابق، والعالم المربي محمد الصالح العثيمين، والفقيه الأصولي الدكتور محمد بلتاجي حسن، وغيرهم وغيرهم، فلم يمض القرن العشرون إلا ومعه جل علمائه ودعاته ومصلحيه. واليوم يودعنا أحد هؤلاء المفكرين الأعلام الذين كرسوا حياتهم للدعوة إلى الله وتربية الأجيال، وتأليف الكتب، ومقارعة المتغربين والمستشرقين، والحفاظ على مبادئ الإسلام ومثله العليا ومقاصده الكبرى، والتصدي للغزو الفكري حتى لقَّبه أحد زملائه بـ "أبو الغزو الفكري والثقافة الإسلاميَّة". إنه العالم المفكر الداعية الشيخ الدكتور عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني مولده وتعليمه: ولد الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة في دمشق بحي الميدان سنة ١٩٢٧م / ١٣٤٥ هـ، ونشأ في بيت علم ودعوة تحيط به ظروف قلَّما تيسَّرت لغيره، فهو سليل إحدى العائلات الدمشقيّة العريقة التي عُرِفت بالعلم، وهو والعلم والدعوة - بدءًا من نشأته الأولى منذ ما يزيد عن ستين عامًا - توءمان لا يفترقان، وكان لوالده الشيخ حسن حبنكة فضل تربيته وتأديبه وتعليمه. درس الشيخ عبد الرحمن في "معهد التوجيه الإسلامي"، الذي أنشأه والده ﵀، وتخرج فيه عدد من علماء دمشق المعروفين.. كالشيخ الداعية الفقيه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والشيخ الدكتور مصطفى سعيد الخنّ، والشيخ حسين خطَّاب ﵀، والدكتور مصطفى البغا، وغيرهم. ثم درس الشيخ في الأزهر الشريف، وعمل بعد تخرجه في مديرية التعليم الشرعي التابعة لوزارة الأوقاف السورية، ثم عضوًا لهيئة البحوث في وزارة التربية والتعليم في سوريا، ثم انتقل إلى السعودية بعد عام ١٩٦٧م ليعمل أستاذًا في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، ثم أستاذًا في جامعة أم القرى في مكة قرابة ثلاثين عامًا. من مؤلفاته: قدّم الشيخ عبد الرحمن حبنكة كتبا قيمة زادت على الثلاثين كتابا أثرى بها المكتبة الإسلامية والفكر الإسلامي؛ حيث تعدَّدت إسهاماته وتنوعت في مجالات متعددة: في العقيدة، والدعوة، والأدب، والأخلاق، والدراسات القرآنية، وسلسلة أعداء الإسلام: "اليهود - الشيوعية - التيارات المعاصرة - الغزو الفكري"، وغيرها، ونذكر من كتبه ما يلي: - العقيدة الإسلاميَّة وأسسها. - الأخلاق الإسلاميَّة وأسسها. - قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله. - أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع. - مكايد يهوديَّة عبر التاريخ. - صراع مع الملاحدة حتى العظم. - أجنحة المكر الثلاثة. - ديوان "ترنيمات إسلاميَّة"، شعر. - ديوان "آمنت بالله"، شعر. - ديوان "أقباس" في منهج الدعوة وتوجيه الدعاة. - ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة. - مبادئ في الأدب والدعوة. - معارج التفكر ودقائق التدبر. - نوح ﵇ وقومه في القرآن. - تدبر سورة الفرقان. - روائع من أقوال الرسول. - الصيام ورمضان في السنة والقرآن. - براهين وأدلة إيمانية. - ابتلاء الإرادة بالإيمان والإسلام والعبادة. - غزو في الصميم. - الكيد الأحمر. - ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين. - كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة. - بصائر للمسلم المعاصر. - التحريف المعاصر في الدين. - الحضارة الإسلامية. - توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية. - فقه الدعوة إلى الله تعالى. - البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها وصور من تطبيقاتها. - صفات عباد الرحمن في القرآن. - منهج التربية النبوية للطفل مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح. من آرائه ومواقفه التاريخية: ومن آرائه البارزة في طبيعة اليهود ما ذكره في كتابه: "مكايد يهودية عبر التاريخ"، الذي كشف فيه حقيقة الكيان الصهيوني والعقيدة الصهيونية؛ حيث بين أنها قائمة على الظلم والعدوان منذ عهد الرسول ﷺ وحتى يومنا هذا. وقال: إن الدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعبًا له صفاته وخصائصه المميزة يجده شعبًا شريرًا، خائنًا، ملتويًا، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصريًا، مغرورًا، جشعًا، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب الأخرى. انظر: ص١٣- ٢٠. ومن آرائه المشهورة أنه ذكر أربع نقاط يمكن للإنسان أن يقيس نفسه بها ويعرف ما إذا كان قوي الإرادة أم ضعيفها وهى: ١- سرعة مبادرته للخيرات والطاعات. ٢- التفاؤل بالخير دائما. ٣- تلقي الأحداث بصبر ورضي. ٤- ملك النفس عند الغضب. وقل: إن الإنسان إذا أراد أن يقوي إرادته الفعلية فعليه بما يلي: ١- تقوية إيمانه بالله تعالى وبصفاته الحسنى وبقضائه وقدره. ٢- التدريب العملي من خلال مجاهدة النفس. ٣- ممارسات العبادات. ومن مواقفه التاريخية في مضمار التصدي لما يسمى بالغزو الفكري أنه في أحد صباحات نيسان ١٩٦٧م تسلل أحد الغزاة الفكريين إلى إحدى المطبوعات الدورية الحكومية في سوريا، ودس مقالا تخريبيا للفكر الإسلامي، فما كان منه ﵀ إلا أن تصدى له في منبر جامع الميدان ملهبا مشاعر الجماهير المسلمة التي اندفعت إلى الشوارع في مظاهرات صاخبة، وأغلقت المحال؛ حيث كان الظرف السياسي في تلك الآونة شديد التأزم والخطورة، فتحركت الدولة بسرعة لامتصاص الأزمة، وفعلا وقع على من له علاقة بما نشر في المجلة أحكام مشددة. رحم الله الشيخ عبد الرحمن حبنكة، فسجله الحافل بالتصدي للغزو الفكري وأكثر من ثلاثين عاما قدم فيها في المملكة السعودية خلاصة فكره المنير لهي إضاءات أنارت قلوب وعقول شباب الأمة المسلمة.
अज्ञात पृष्ठ
دعاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على أنبيائه الذين اصطفى، ورسله الذين اجتبى، ونعوذ برب الفلق من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد، ونعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس. اللهم من كادنا فكده، ومن بغى علينا فأهلكه. يا من كفانا ولم يكفه شيء، اكفنا شر كيد أعدائنا، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، أو تمكن منا عدونا وعدوك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
1 / 8
القِسمُ الأول الغَزوُ بالحِيَل وَوَسَائل المَكْرِ غَيْر المبَاشِرَة
وفيه أربعة عشر فصلًا:
الفصل الأول: مقدمات عامة.
الفصل الثاني: المبشرون وأعمالهم.
الفصل الثالث: المستشرقون وأعمالهم. الفصل الرابع: الاستعمار والمستعمرون.
الفصل الخامس: عناصر التلاقي والأهداف والأعمال المشتركة للأجنحة الثلاثة. الفصل السادس: وسائل الغزاة وحيلهم.
الفصل السابع: من وسائل الغزو الجديد: التفريغ والملء. الفصل الثامن: خطط العدوّ لغزو الإسلام بتفريغه من مضامينه الصحيحة.
الفصل التاسع: الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين وتقليل أعدادهم. الفصل العاشر: الغزو بفكرة القومية.
الفصل الحادي عشر: أعمال الغزاة ضد اللغة العربية. الفصل الثاني عشر: الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد الخلقي والسلوكي.
الفصل الثالث عشر: الغزو بالمذاهب الاقتصادية.
الفصل الرابع عشر: ما تعانيه الحركات والمؤسسات الإسلامية من قبل الغزاة وأنصارهم.
1 / 15
الفصل الأوّل من القسم الأول مقَدِّمَات عَامَّة
١- الحروب الصّليبية وخيبتها وتحوّل اتجاهها.
٢- الغزو الفكري وخطره.
٣- تاريخ ظاهرة الغزو الفكري.
٤- المهمات الرئيسية لأعداء الإسلام.
٥- المنهج الرئيسي للغزو الفكري.
٦- الوسائل الرئيسية لأعداء الإسلام.
٧- تعريفات للأجنحة الثلاثة.
٨- المؤازرون من الداخل لقوى المكر الخارجية.
1 / 17
(١) الحروب الصليبية وخيبتها وتحول اتجاهها
- العوامل التي مهّدت لطمع الصليبيين بالمسلمين
تواطأت الدول النصرانية كلُّها على الإسلام والمسلمين منذ بيَّتَت المكيدة، ودبرت الخطة، وأعدت العدة للحروب الصليبية، ثم قامت فعلًا بهذه الحروب، وقدمت لها حشودًا كبيرة من رجالها، وأموالها، وأعتدتها، وواتتها فرصة العمل، لأن المسلمين قد أمسَوا في واقع من التخلف والتفرق ومجافاة الإسلام لا يُحسدون عليه، بل يرثى لحالهم فيه.
فالإسلام في مفاهيمه الصحيحة قد كان بينه وبين تطبيقات المسلمين العملية مسافة المخالفة والمعصية والإثم، وكان بينه وبين تصور جمهور المسلمين له خلاف في كثير من الأمور. وكانت الحكومات الإسلامية في مختلف الأمصار متنازعة متنافرة، قد أوهنتها عوامل العداء والطمع والأثرة وحب الذات. وكانت الشعوب الإسلامية قد نالت من كيانها عوامل حب الدنيا، والانغماس في الشهوات، والإخلاد إلى الأرض، وحطمت من قواها عدة عوامل، منها البخل بالأموال وبالأنفس، وفقد الثقة بالنفس، وضعف اليقين بالله والاعتماد عليه، وهذا هو المرض الذي يصيب كل أمة ذات مجد رفيع، متى بدأت عجلات مركبة المجد فيها تنحدر إلى ما دون القمة، بسبب الغرور بمظاهر القوة وتراث المجد، وبسبب الانغماس بالشهوات، والاستغراق في مفاتن الحياة الدنيا من مال وجاه، وبسبب التنازع والتفرق والغفلة عن مكامن الخطر، وإهمال ما يجب عليها من الصيانة المستمرة لكل قواعد مجدها،وأسس عزتها،
1 / 18
سواء أكانت فكرية أم نفسية أم خلقية أم سياسية، وسواء أكانت فردية أم اجتماعية.
وكان هذا الواقع في المسلمين المباين لتعاليم الإسلام من أبرز الأسباب التي مكنت عدوها من أن يجد لنفسه ثغرات في صفوف المسلمين، ينفذ منها إلى نواصي قوتهم، فيعمل على توهينها، وتجزئتها، وتبديد ما يستطيع منها؛ بكل وسيلة من وسائل القوة والبأس، أو الخديعة والمكر.
ولدى البحث والتأمل نلاحظ أن نفوسهم التي بين جنوبهم قد كانت أول عدوٍّ داخلي لهم مكن لعدوّهم من خارج الحدود أن يدخل إليهم، ويقاتلهم في مرابعهم وأمصارهم، ثم يستولي عليهم، ويستعمر لنفسه بلادهم.
إن العدو من شأنه أن يمكر ويبيت كل سوء، ولكن الذي يمكن عدوه من نفسه أشد عداوة لنفسه من عدوه، لأنه يفعل في نفسه ما لا يفعله أحدٌ به، وذلك بسبب غفلته، أو شهوته أو سوء تفكيره وتقديره وتدبيره أو سوء تصرفه وسوء عمله.
تلخيص العوامل:
١- بعد المسلمين عن تطبيق الإسلام تطبيقًا صحيحًا.
٢- بعد جمهور المسلمين عن فهم الإسلام فهمًا سليمًا.
٣- تنازع حكام وأمراء المسلمين، وتقاتلهم من أجل السلطة.
٤- تعلق جماهير المسلمين بحبّ الدنيا، والانغماس في الشهوات، واتباع الهوى.
٥- البخل بالأموال والأنفس، وكراهية الموت.
٦- ضعف اليقين بالله، وفقد الثقة بالنفس.
- الحروب الصليبية أيقظت المسلمين من نومهم
كانت الحروب الصليبية عاملًا محركًا للمسلمين، وموقظًا لهم من نومهم أو من غفواتهم، حتى يهبوا ويلتفتوا إلى سهام عدوهم، التي بدأت تجتاز الثغور إلى مقاتلهم، ويدركوا واقعهم، ويتبصروا أسباب الضعف الذي أصابهم،
1 / 19
ويعملوا على ترميم القواعد التي تآكلت من بنيانهم، والأسس التي خلخلها المنافقون الذين دخلوا في صفوفهم، عاملين على تقويض كل حقيقة للإسلام، وكل مجد للمسلمين، فكان موقف المسلمين يومئذٍ يحمل خطتين من خطط العمل، على شيء من الضعف في تركيزهما.
الخطة الأولى: خطة الدفاع عن البلاد الواقعة هدفًا للعدو الصليبي، ضمن الإمكانات التي تسمح بها حالة تجميع القوى المبعثرة عند حلول الأزمة.
الخطة الثانية: خطة العمل على إصلاح الداخل الذي نخرت عظامه أسباب الفساد والتخلف والفرقة بين صفوف المسلمين.
وقيّض الله للمسلمين الشهيد نور الدين، ثم البطل صلاح الدين، ثم فيضًا آخر من أبطال المسلمين عربًا وغير عرب، ولم يتم للمسلمين النصر على عدوهم ورد كيدهم إلا بمقدار ما أصلحوا من واقعهم، وقوّموا من معوجهم.
اجتهدوا وجهِدوا في إزالة عوامل الضعف من صفوفهم، فاستجمعوا قوتهم، وردتهم المحنة الكبرى التي أصابتهم إلى الله، فالتجأوا إليه، والتمسوا النصر من عنده، فألهمهم الله أن يحققوا في أنفسهم أسباب النصر، ثم منحهم من فضله التأييد على عدوهم، لما استكملوا من شروطه وأسبابه ما يكفي لتأييدهم بالنصر وفق سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
وتم جلاء الصليبيين عن بلاد المسلمين بعد حقبة من الدهر، كانت سياط التأديب الإلهي فيها تصيبهم من كل جانب، وقد لبثوا خلالها بين كر وفر مع عدوين: عدو صليبي محارب، وعدو من داخل الأنفس يغري بالجبن والبخل، وبالدعة واتباع الشهوات، ويغذي بالتحاسد والتباغض والفرقة ومعصية الله والرسول، وبالتثاقل عن كل واجب، وتباطؤ الهمة عن كل إصلاح أو تغيير.
ولدى التأمل في الحكمة الربانية، نرى أن في تسليط جيوش الصليبيين على بلاد المسلمين حينئذٍ لونًا من ألوان التأديب الرباني، الذي رد للمسلمين شيئًا من كيانهم الذاتي، الذي كان به مجدهم واصطفاؤهم على الأمم، والذي كانوا به أمةً وسطًا، وخير أمةٍ أخرجت للناس، ألا وهو كونهم مسلمين حقًا،
1 / 20
عقيدةً وعملًا، ودعوة إلى الله وجهادًا في سبيله، فهم يحققون في أنفسهم كل أسباب النصر التي أمر الله بها، في عباداتهم، وفي معاملاتهم، وفي نظم حياتهم، وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي جهادهم في سبيل نشر دين الله، والدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين.
إنه ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده نسب ولا قرابة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فليس أحد بأكرم عند الله من أحد من هذه الناحية، الناس كلهم عباده مخلوقون بقدرته، ولكن لله أوامر ونواهي وسننًا، وعلى مقدار نصيب العبد من التقوى يكون نصيبه من إكرام الله وتأييده، وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء وفق حكمته، وحكمته قضت بنصر المؤمنين "وكان حقًا علينا نصر المؤمنين"، ومهما ابتعد الخصمان عن طاعة الله وتأييد دينه وكَلَهما الله لأسبابهما الدنيوية، وأغرى بينهما العداوة والبغضاء.
- تجربة حروب أقنعت الصليبيين بضرورة التحوّل إلى مخطّط آخر
كانت خطة مدبري الحروب الصليبية القيام بحرب مادية مسلحة بالأسلحة العسكرية، لغزو بلاد المسلمين، واستلاب أموالهم، وهدم حضارتهم، وتحويلهم عن دينهم الذي هو مصدر قوتهم ووحدتهم، ومنبع حضارتهم وتقدّمهم في شتّى المجالات الإنسانية.
كانت هذه خطة الصليبيين، يوم كانت عقول المسلمين وأفكارهم ونفوسهم لا تسمح لعوامل التنصير أن تؤثر فيها، يوم كانت العواصم الإسلامية في العالم تعيش في خيرات مجدٍ خلَّفَهُ المدّ الإسلامي في العلم والحضارة والتقدّم، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية المادّية والنظرية، بالإضافة إلى ألوان المعارف الروحية الدينية، والكمالات الأخلاقية، والنظم التشريعية الشاملة كل شؤون السلوك الإنساني الفردية والاجتماعية، والكفيلة بضمان الحق والعدل والسعادة.
بينما كانت عواصم العالم الآخر غارقة في أوحال الجهالة والتخلف، والبعد
1 / 21
عن القيم الحقيقية للأخلاق الفاضلة الكريمة، والكمالات الإنسانية، والمفاهيم الصحيحة للحياة، بدءًا ومعاشًا ومعادًا.
ثم أرسل مدبرو الحروب الصليبية عيونهم إلى البلاد الإسلامية، وبثوا جواسيسهم، ليتحسَّسُوا واقع المسلمين، وليكتشفوا مواطن القوة والضعف لديهم، وليتخذوا لهم من ضمن البلاد الإسلامية أعوانًا لهم يوالونهم.
وقد ظفروا من ذلك بنصيب كبير تصيّدوه من أهل الذمّة، ومن الطوائف والفرق المنحرفة، التي كانت قد نشأت في جسم الأمة الإسلامية بأنواع الكيد اليهودي والمجوسي والصليبي، وليحدّدوا لأنفسهم أخيرًا الثغرات التي يمكن أن يظفروا بها، إذا جمعوا جموعهم، وأعدّوا عدّتهم، وهيَّئوا قوتهم.
ثم لما سنحت لهم الفرصة ركبت قراصنتهم البحار، ولعاب الأمل بانتزاع الأرض المباركة من أيدي المسلمين يسيل على عرض أشداقهم، وأحلام الظفر بعرش المشرق العربي الإسلامي، وسائر بلاد المسلمين تتراقص لهم، واحتلوا بعض الثغور الإسلامية على حين غِرّة من المسلمين، يرافقها ضعف في قوتهم، وتفرق في صفوفهم.
واستمرت الحروب بينهم وبين المسلمين قرابة قرنين كاملين، هما القرنان
1 / 22
الثاني عشر والثالث عشر من الميلاد، ثم انتهت بجلائهم بعد أن أسسوا لأنفسهم في المشرق العربي الإسلامي عروشًا صغيرة تابعة لممالكهم من وراء البحار.
ولما كتب الله عليهم الجلاء، على أيدي الأبطال المسلمين الذين رفعوا راية الإسلام، وقاتلوا في سبيل الله، وباعوا الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فأظفرهم الله بعدوهم، وأيدهم بنصره، كانت عظة هذه الحروب في نفوس الصليبيين وجوب تحويل المعركة مع المسلمين من حرب سافرة مسلحة توقظهم من سباتهم، وتعيدهم إلى أسس دينهم، وتحيي فيهم روح الجهاد في سبيل الله، إلى حرب مقنَّعةٍ يدخل في حسابها الغزو الفكري والنفسي والخلقي، والغزو الحضاري والمدني والاقتصادي، وأخذ مفكروهم يضعون الخطط لتنفيذ هذه الحروب المقنّعة.
وبدأ جنود هذه الحروب القادمون بأقنعة شتى ينفذون خططها بكل مكر ودهاء وخبث، متسترين بالعلم أو بالتجارة أو بالصناعة أو بتحسين مظاهر المدنية أو بالتعاون والمحبة الإنسانية أو بالطب والمستشفيات أو بالخبرات الفنية في مختلف مجالات الحياة إلى غير ذلك من أقنعة جميلة مقبولة لدى أنفس الشعوب. وكانت ثمرة هذه الحروب المقنّعة وافرة لأعداء الإسلام والمسلمين.
- التحول الصليبي إلى خطط الغزو الفكري مع ما يتيسر لهم من غزو عسكري
إذن فقد كان الاتجاه عند أعداء الإسلام والمسلمين منذ قرون خلت أن يباشروا أولًا بالغزو المادي المسلح، ليؤدي وظيفته المادية من جهة، وليكون سبيلًا للغزو الفكري والنفسي والخلقي من جهة ثانية، حتى إذا تم للغازي الاحتلال الفكري والنفسي كانت ضحيته مركبًا ذلولًا يصرفها طوع بنانه، ومرتعًا سهلًا يفعل به ما يريد.
ثم تحول الاتجاه عند أعداء الإسلام بعد تجاربهم الطويلة مع المسلمين، فغدا أن يعملوا على تهيئة الشعوب الإسلامية من الداخل، وذلك بأسلوب الغزو الفكري والنفسي والخلقي عن طريق عملائهم وأجرائهم، وتحت ستار
1 / 23
المبادئ التي تزعم أنها إنسانية، لتكون الشعوب مؤهلة فكريًا ونفسيًا لتسليم قيادهم طائعة مختار لأعدائها، في غزو مادي لا يحمل الغزاة فيه سلاحًا، ولا يكلفهم قتالًا.
لقد أدركوا بعد التجارب الطويلة أن الغزو المادي قبل الغزو الفكري والنفسي والخلقي يولد في الشعوب رد فعل عنيف، يحمي أكثريتها من تقبل الغزو بكل أنواعه، لما فيه من العداء السافر، والتسلط بالقهر والغلبة المكروه للنفوس، حتى إذا تحركت كوامن النهضة في الشعوب، وواتتها الفرصة، ردت الغزاة على أعقابهم، وكان عمر الاحتلال في البلاد قصيرًا، في حساب تاريخ الشعوب، مهما عظمت فيها قلاعه، وتكاثرت فيها جيوشه.
والغزو الجديد الفكري والنفسي والخلقي الذي خططوا له يحمل في ثناياه أفدح الأخطاء على كيان الشعوب الإسلامية، ووحدتها وأسس مجدها، ويجعلها طعمة سائغة يزدردها العدو دون أن يجد من ذلك غصَّةً في حلقومه، كما يفقدها كل مقوم من مقوماتها الإنسانية الراقية، التي بها كانت خير أمة أخرجت للناس، ويجعلها كبقرة حلوب، تُعلفُ بمقدار ما تستثمر من لبن أو لحم أو حرث.
وما دام الإنسان إنسانًا فإن معظم تصرفاته خاضعة لإرادته، وإرادته خاضعة لمفاهيمه في الحياة خيرًا كانت هذه المفاهيم أم شرًا، وقد أدرك المخططون للغزو الجديد أن المكر والحيلة أجدى في الإنسان من أية وسيلة، وأن القوى المختلفة التي في أيدي المسلمين يمكن بالمكر والحيلة أن تسخر ضدهم، وذلك إذا تحولت أفكارهم عن مفاهيم إسلامهم، وفسد منطقهم وإدراكهم للأمور، وغدت تصوراتهم تخدم أغراض عدوهم منهم، وانتهى المخططون إلى أن وضعوا لأنفسهم القاعدة التالية: " إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره، ينتحر به " وكذلك فعلوا وكذلك يفعلون باستمرار في الشعوب الإسلامية. وكلما استجمعت هذه الشعوب شيئًا من قوتها، وأبصرت مراكز عدوها، وأرادت أن ترفع رأسها إلى المجد مكر بها أعداؤها وأعداء دينها، فأفسدوا لديها جانبًا من جوانب الفهم السليم للأمور، والفكر الصحيح في معالجة المشكلات الكبرى،
1 / 24
ثم استدرجوها إلى مزالق خطرة تلجأ فيها إلى استخدام أسلحتها ضد أنفسها، فتكون بمثابة من ينحر نفسه حماقة وجهلًا.
فمن أهم واجبات المسلمين والحالة هذه أن يتبصروا دائمًا بهذا السلام الجديد الخطر، ويصروا على الاستمساك بمفاهيمهم الصحيحة التي تهديهم إليها تعاليم دينها، مهما زيَّن لهم أعداؤهم غيرها.
* * *
(٢) الغزو الفكري وخطره
تعريف الغزو الفكري:
الغزو الفكري: عنوان أطلق في الثلث الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للثلث الثالث من القرن العشرين الميلادي، على المخططات والأعمال الفكرية والتثقيفية والتدريبية والتربوية والتوجيهية وسائر وسائل التأثير النفسي والخلقي والتوجيه السلوكي الفردي والاجتماعي، التي تقوم بها المنظمات والمؤسسات الدولية والشعبية من أعداء الإسلام والمسلمين، بغية تحويل المسلمين عن دينهم تحويلًا كليًَّا أو جزئيًَّا، وتجزئتهم وتمزيق وحدتهم وتقطيع روابطهم الاجتماعية، وإضعاف قوتهم لاستعمارهم فكريًا ونفسيًا، ثم استعمارهم سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا استعمارًا مباشرًا أو غير مباشر.
وأُعطي هذا العنوان لأن الفكر أهم عناصره بدءًا أو انتهاءً.
خطر الغزو الفكري
إن اليد التي يمكن أن تضغط على زناد المدفع، فتنطلق منه قذيفة تدك بنيانًا شامخًا، والتي يمكن أن تحرك مفتاحًا فينبعث منه صاروخ يروّع ويقتل ألوفًا
1 / 25
من الناس، والتي يمكن أن تغمز زرًا في آلة فتندفع منها قنبلة ذرية أو هيدروجينية فتدكّ مدينة، وتقتل شعبًا، وتقوّض حضارة، والتي يمكن أن تخطّ أمرًا إلى جيش فيتوجّه إلى حربٍ طاحنة يتحكم بها ويوجّه حركاتها - نفس صاحبها التي تسيطر عليها فكرة مهيمنة على عقله فعواطفه فإرادته.
من هذا يظهر لنا أن الفكرة من وراء القوى الإنسانية أقوى قوة تتحكم بهذه القوة، وأقدر الناس على التحكم بالقوى المادية هم أقدرهم على تزويد العقول بالأفكار التي يريدون إقناع العقول بها،وأعجز الناس في ذلك هم أكثرهم تهاونًا ببث الأفكار التي يمكن أن تخدم غاياتهم.
ومهما بلغت أمة من الضعف في القوى المادية أمام أمة أخرى، فإنما تستطيع أن تستخدم لغاياتها قوى الأمم الأخرى، متى استطاعت أن تغذي عقولهم بما تشاء من أفكار، وتملأ قلوبهم بما تشاء من قناعات ومعتقدات.
وقد أدرك أعداء الإسلام هذه الحقيقة، وهالتهم قوة المسلمين الضاربة في أكثر من نصف المعمورة أيام كان للمسلمين تلك القوة، فأخذوا يحركون جيوش الغزو الفكري من كل مكان، ويوجهونها شطر بلاد المسلمين، ليهدموا الوحدة الفكرية الناظمة لهم في سلك وحدة جماعة المسلمين، ولتكون مُحدَثات الأفكار التي تدخل إلى أفرادهم بمثابة جيش سحري غير مرئي، يمعن في صفوف المسلمين قتلًا وتشريدًا، ويمعن في قلاعهم هدمًا وتخريبًا، دون أن يصيبه سهم واحدٌ في هذه الحرب الخبيثة، التي يغفل عنها السواد الأعظم من الذين توجّه ضدّهم هذه الحرب.
وكان في مقدمة أعداء الإسلام الذين خططوا لهذا الغزو الفكري طائفة يهود، وقد كانوا بمثابة الشيطان في عصابة المجرمين، ثم سار الصليبيون هذه المسيرة ضد المسلمين بتعصب مقيت، بعد خيبة الحروب الصليبية، وجندوا لذلك الجيوش الكثيرة، وجربوا خلال عدة قرون مخططات شتى، أخضعوها للتطوير والتحسين، لتُظفرهم بمكاسب أوفر مما يبتغون تحقيقه في الشعوب الإسلامية.
1 / 26
وكان لهذا الغزو الشيطاني الخبيث أثره البالغ، وقطف أعداء الإسلام من ثمره، ووهنت قوة المسلمين، وتشتت شملهم، واستجاب كثير من أبناء المسلمين لوساوس الغزاة ودسائسهم، فاتبعوهم في كثير من أفكارهم، ونظم حياتهم وطرائق عيشهم وأخلاقهم وعاداتهم.
ويتابع أعداء الإسلام عمليات هذا الغزو الشيطاني الخبيث، بغية القضاء على الإسلام، وتحويل المسلمين عنه تحويلًا تامًا، ومن وسائلهم تحريف الحقائق الإسلامية وتشويهها، وتزيين زيوف الأفكار الغازية وتحسينها.
وكان ما بذله أعداء الإسلام من جهود يكفي لتحقيق ما جعلوه هدفًا لهم، لولا أن الإسلام حق من عند الله، ولولا أن الله ﷿ يصونه من أعدائه ويحميه باستمرار، وذلك بما يقيض له من رجال يحافظون عليه ويدافعون عنه، لا يضرّهم من خالفهم.
ألا وإن من واجب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يتنبهوا إلى هذا الغزو المركز على عقولهم وقلوبهم ونفوسهم أفرادًا وجماعات، ويفيدوا من خطط أعدائهم، ويحملوا أفكارهم ومعارفهم الحقة إلى العالم أجمع، وليس عليهم في إقناع الناس بالإسلام كبير عناء، يكفيهم أن يعرضوا تعاليمه عرضًا منطقيًا ميسرًا بألسنتهم وأقلامهم، وأن يلتزموا بمنهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وأن يحملوا أنواره بأعمالهم وتطبيقاتهم، ويخلصوا لله في أقوالهم وأعمالهم، وما أسرع ما يقطفون ثمرات جهودهم وافرة بإذن الله تعالى، وتوفيقه ونصره المبين.
* * *
(٣) تاريخ ظاهرة الغزو الفكري
بدأت ظاهرة الغزو الفكري للإسلام والمسلمين منذ فجر الإسلام، وكان دهاة هذا الغزو الماكر الخبيث من اليهود.
1 / 27
فقد واجه اليهود الإسلام والمسلمين في المدينة بألوان مختلفات، وأشكال شتى، من وسائل الكيد للتأثير على الإسلام بغية التحريف فيه، وللتأثير على مشركي العرب بغية صدهم عن الدخول في الإسلام، وللتأثير على المسلمين بغية إخراجهم وتشجيعهم على الردة عنه.
واستخدموا وسيلة النفاق ضمن وسائلهم الكثيرة، ولكن الله ﷿ حمى دينه ورسوله والمسلمين من مكايدهم، مدة عصر الرسول، ومدة خلافة أبي بكر وعمر ﵄ حتى سقط عمر صريع اغتيال كان للمكر اليهودي أصابع خبيثة خفيّة فيه.
ثم كان لهم في المسلمين عبر تاريخهم حتى عصرنا هذا مكايد كثيرة، من مكايد الغزو الفكري، ظهرت في مؤامرات المنافق اليهودي "عبد الله بن سبأ" التي نجم عنها ظهور فرق الشيعة الغلاة، وأشنعهم الذين ألَّهوا علي بن أبي طالب ﵁، ثم ظهرت في مؤامرات المنافق اليهودي "ميمون بن ديصان القَدَّاح" التي نجم عنها ظهور فرق الباطنية على اختلاف نزغاتها، وما كان من عصاباتهم من كيد ضدّ الإسلام والمسلمين الذي اكتوى المسلمون بناره طوال قرون. ثم ظهرت في مكايد يهود "الدونمة" ضد السلطنة العثمانية الإسلامية وضد المسلمين عامة. ثم ظهرت في مؤسسي الشيوعية في بلدان العالم الإسلامي، وناشري المذاهب الفكرية المعاصرة الرامية إلى هدم الدين والأخلاق والشرائع والنظم الاجتماعية الحسنة.
ومع المكر اليهودي التقى المكر المجوسي منذ القرن الأول الهجري، ومع ظهور الإسلام وانتشاره ضعف مكر المجوس، ولم يبق منه إلا مسائل فكرية مندسة، في بعض أصحاب الأهواء من الفرق المنحرفة المنتمية إلى الإسلام والمسلمين.
وكان للنصارى تحركات في الغزو الفكري المندس منذ فجر الإسلام، إلا أنها لم تكن ذات أثر قوي ظاهر، حتى قامت الحروب الصليبية، وباءت بالخيبة، وبدأ مفكروهم يخطّطون لتنصير العالم الإسلامي، أو صرفه عن الإسلام ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين.
1 / 28
ثم اتسعت دوائر الغزو الفكري اليهودية النصرانية التبشيرية والاستشراقية، مرافقة للتحركات الاستعمارية التي قامت بها الدول النصرانية ضد العالم الإسلامي، وأخذت وسائل هذا الغزو تتنامى وتتكامل، وتجري فيها تعديلات وتبديلات نبّهت عليها التجارب وساعدت عليها الوسائل الحضارية الحديثة، حتى أخذت نضجها الشيطاني في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) .
فقد كانت وسائله تبشيرًا بالنصرانية بصورة بدائية، تستخدم المناقشة والمجادلة في المسائل العقدية الدينية، وهذه مُنيت بالهزائم المنكرة، أمام جدليات علماء المسلمين ومناظراتهم، حتى أمام صغار مثقفي المسلمين وعامتهم.
ثم تواصى الغزاة بترك هذه الوسيلة من وسائل الغزو الفكري، وبالتحول إلى وسائل أخرى ليس فيها مواجهة صريحة مباشرة.
صور من حملات الغزو الفكري
وفيما يلي صور من حملات الغزو الفكري التبشيري الاستعماري:
(١) تحت عنوان الحركة التبشيرية: جاء في كتاب "لبنان في التاريخ" "وكان من نتائج الحروب الصليبية فكرة اجتذاب المسلمين إلى اعتناق المسيحية عن طريق الإقناع، بدلًا من طريق القوة والإكراه. وهي فكرة كان لها فيما بعد أبعد الأثر في الحياة الثقافية في الشرق الأدنى.
إن الخيبة التي منيت بها الحملات الصليبية في الوصول إلى غايتها، وموت الدوافع التي كانت تدفع بالناس للالتحاق بها، مهّد الطريق لفكرة جديدة: استمالة المسلمين واجتذابهم بطرق سلميّة وديّة، وهذه الفكرة هي أساس مبدأ التبشير المسيحي".
ففي عام (١١٥٤م) أسس راهب صليبي في الأرض المقدسة رهبنة عرفت فيما بعد بالرهبنة الكرملية،نسبة إلى جبل الكرمل حيث كانت تقيم.
ثم انتشروا في سورية ولبنان، وقد أسسوا لهم مركزًا في طرابلس. وتلا
1 / 29
ذلك تأسيس رهبنتين جديدتين، عند مستهل القرن الثالث عشر: الفرنسسكان والدومينيكان.
وبعد مدة قصيرة أُسست إرسالية تبشيرية فرنسسكانية في مدينة طرابلس، وأُسس ديرٌ لهم في بيروت.
وفي عام (١٢٣٠م) وصلت دمشق إرسالة دومينيكانية، ومن ثَمَّ تقدّمت إلى طرابلس وعكة، وأماكن أخرى، حيث أسست لها أديرة.
وكتب أحد أساقفة الدومينيكان "وليم الطرابلسي" سنة (١٢٧٠م) كتابًا جاء فيه: نريد مرسلين لا جنودًا، لاسترداد الأرض المقدسة.
وقد لاقت هذه الفكرة الجديدة استحسانًا عظيمًا عند رجل يدعى "ريموند لَلْ" الذي أصبح زعيم الحركة المفوه (توفي عام ١٣١٥م) كان "لَلْ" قسطلانيًا يجيد العربية".
الوجود المسيحي في الخليج
وجاء في الترجمة الملخصة عن الوجود المسيحي في الخليج العربي إعداد: أحمد فون، ونفر من المؤسسة الإسلامية في ليستر - بريطانيا، ما يلي:
بدأ وصول الكنائس الغربية ووكلاؤها بالمنطقة في عصر الاستعمار، وفي عام (١٨٧٠م) قامت الكنيسة الأمريكية الإصلاحية بمدّ نشاطها إلى التاريخ، من خلال جهودها الطيّبة والعلمية، وذلك في مقرّها القديم في العراق.
أما الكنيسة الإنكليكية فكان لها صلة قديمة مع الجيوش البريطانية، الموجودة في الخليج.
والكاثوليك وصلوا خاصة من الهند وإفريقية الشرقية، وكثير من موظفي الشركات البترولية أسسوا الكنائس على المستوى المحلّي، وبالإضافة إلى ذلك توجد الكنائس الجديدة التي أقامتها الطبقة العاملة المهاجرة من الهند والباكستان.
إن عدد المسيحيين الوطنيين بدول الخليج ليس بكثير، بل هو قليل جدًا، إذ يقدّر عددهم بأقل من (١٥٠) وهناك مصادر أخرى تقول بأنهم (٥٠٠) على
1 / 30
الشاطئ الممتد من الكويت إلى عدن. ولكن عددهم كثير بين العمال المهاجرين والمسيحيين المقيمين في دولة الكويت والبحرين وقطر وأبو ظبي ودُبي وعمان، إذ يصل عددهم إلى (٦٠.٠٠٠) ستين ألفًا وذلك مقابل مجموع السكان الذي يقدر بحوالي (٣.١) مليون شخص، وهذه هي القوة العددية المسيحية بالمنطقة التي كانت مسلمة كلّيًّا.
منظمات التبشير المسيحية:
يعدد المؤلف أسماء المنظمات التبشيرية ويذكر أنه توجد ١٢ بعثة إنجليزية في منطقة الخليج و٤٢ أمريكية، وكلها تصنف تحت ثلاثة أقسام رئيسية:
١- جمعية البعثات الكنسية.
٢- جمعية الكنيسة العالمية.
٣- زمالة الإنجيل والبعثة الطبية.
ويعدد المنظمات المختلفة العاملة في منطقة دول الخليج ويذكر:
١- جمعية البعثة الكنسية (cms) مؤسسة عام ١٧٩٩م، ويذكر منها ٣ في البحرين، وواحد في عمان، وواحدة في أبو ظبي وتعمل في مجال وزارة الصحة والتعليم وميزانيتها لعام ١٩٧٩م هي ٢.١٠٠.١٠٨ جنيه استرليني.
٢- زمالة الإخلاص للمسلمين (FFM) مؤسسة عام ١٩١٥م، وتعمل مباشرة في وسط المسلمين ومهمتها تنظيم المؤتمرات وإعداد الكتب للمسلمين وخاصة الذين ينتصرون منهم.
٣- جمعية تنصير الشرق الأوسط (MECO) تأسست عام ١٩٧٦م، ومهمتها الرئيسية إنتاج الكتب ونشرها في أوساط المسلمين وباللغة العربية وخاصة للشرق الأوسط ومنطقة الخليج، وأحدث مشروع لها الإنجيل للأطفال بالعربية وطبع في قبرص، وتنظيم تدريب المبشرين في دولة الإمارات العربية المتحدة.
٤- الكنيسة الإصلاحية في أمريكا (RCA) وهي بروتستانتية أمريكية تعود لعام
1 / 31
١٨٥٧م، وباشرت نشاطها في البحرين والكويت وعمان منذ عام ١٨٨٩ وميزانيتها ٤.٥٣٣.٧٦٣ دولار سنويًا، ولها ٦ بعثات في البحرين ٣ في الكويت ١٢ في عمان.
٥- عملية التحريك (OM) تأسست عام ١٩٥٨م، وتهتم بتنظيم وتدريب المبشرين المتطوعين لفترات قصيرة، ومن أهم أعمالها أنه تتبعها سفينتان عائمتان متنقلتان تحويان مخازن هائلة من الكتب ومراكز لتدريب المبشرين، اسمها لوجوس وبها ١٦ بعثة متفرغة، ودولوس وبها ٢٥ بعثة متفرغة، الأولى متخصصة في آسيا وموانئ الخليج، والثانية في أمريكا الشمالية.
٦- بعثة الإنجيل المتحدة (TEAM) تأسست عام ١٨٩٠م في إسكندنافيا، وتغير اسمها عام ١٩٤٩م، وهي منظمة دولية تهتم بالأمور التربوية والطبية والإذاعية، ومركز الخليج الرئيسي في أبو ظبي، وميزانيتها ٩ ملايين دولار سنويًا، ويتركز نشاطها في المستشفى التابعة لها في أبو ظبي، ولها ١٥ بعثة في الإمارات العربية المتحدة.
٧- الصليب الإفنجيلي على اتساع العالم (WEC)، تأسست عام ١٩١٣م.... وتهتم بالأمور الطبية والثقافية والتدريب والكتب وأعمال الترجمة وتدير عيادة في دولة الإمارات العربية المتحدة ولها خمسة أعضاء متفرغين.
تعرض المؤلف بعد ذلك إلى سرد تاريخ البعثات التنصيرية، ووضع الكنائس التي في منطقة الخليج. فسرد دول البحرين والكويت وعمان وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة واستعرض في كل دولة منها البعثات والكنائس والمعاهد التابعة لها.
١- البحرين:
ذكر أن أول بعثة دخلتها كان منذ عام ١٨٩٠م حيث دخلها المدعو (صموئيل زويمر)، ومنذ عام ١٨٩٤م والكنيسة لها وجود في مجال الطب، وأنشأ عيادات طبية في كل من البحرين والكويت ومسقط وعمان. وهذه
1 / 32
الطريقة مكّنت الاتصال المباشر بالمسلمين،إلى أن تأسس المستشفى الأمريكي في البحرين عام ١٩٠٢ م، ثم المدارس للبنين والبنات،ومن الأهمية بمكان الأدب النصراني، والإذاعة النصرانية، والمكتبة النصرانية المدعوة مكتبة العائلة في البحرين حيث تبيع الإنجيل والكتب النصرانية الأخرى بمعدل ١/٢ مليون دولار سنويًا، وأما الراديو فهو باللغة العربية وموجه إلى منطقة الخليج، وله أهمية كبرى ويرسل من إسبانيا وفرنسا ويعدد الكنائس والملل التابعة لها: الكنيسة السورية الأرثوذكسية - الكاثوليكية - الرومانية والإنجيلية والكنيسة الوطنية الإفنجيلية (بروتستانت)، وكنيسة الله،والمباني التابعة لها في المنامة والعوالي. يلفت النظر هن إلى أن الكنيسة لاوطنية البروتستانتية تضم ١٥٠ عربيًا نصرانيًا، منهم ٦٠ يحملون الجنسية البحرينية، وتتمتع بميزات خاصة. ويعدد المؤلف الكنائس والمستشفيات والمدارس التابعة لها في البحرين.
٢- الكويت:
يقول المؤلف إنه منذ عام ١٩٢٠ م أسست الكنيسة الإصلاحية مستشفى بالكويت، أدير من قبل الأمريكان حتى عام ١٩٦٧م، حيث استولت عليها الحكومة الكويتية وكذلك المدارس ويوجد روم كاثوليك وأرثوذكس في الكويت، وركّزوا جهودهم لتنصير المسلمين، وتوجد اليوم مكتبة نصرانية في الكويت، تلبي حاجات النصارى وربما المسلمين وكذلك راديو التنصير يلعب دورًا هامًا كما هو الحال في البحرين. ويعدد المؤلف الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية في الكويت والمباني التابعة لها والمدارس والمكتبات ومما هو جدير بالذكر أن الكويت هي البلد الوحدي في الخليج التي بها مجلس اتحاد للكنائس.
٣- أما بالنسبة لعمان:
فإن زويمر وزميله كانتين قد دخلا البلاد، وأسسا بعثة طبية ومدارس كستار لنشاطهما، ويتركز النشاط الآن في المكتبات والكتب النصرانية، والإنجيل والإذاعة. أما عن الكنائس ففيها نشاط كبير للإصلاحيين الأمريكان والكاثوليك والأثوذكس. وتوجد (٥) كنائس في ماطرا ومسقط وثلاث
1 / 33