वायलिन वादक के दुःख
أحزان عازف الكمان
शैलियों
قال عبد الحق وهو يتأمل الجسد الناحل والرأس الكبير المشعث الشعر وجانب الوجه الذي تجمدت عليه خيوط الدم المتخسر المغبر بالتراب: ربنا هو الأعلم بعبيده، والحكومة أيضا لا يفوتها شيء، نفسكم معنا يا رجالة . (من أنت أيها المسجى هناك وهم ينحنون عليك الآن ليضعوك على النقالة؟ رجلا تبدو في الأربعين أو الخمسين من عمره. تتسرب أسرار جسده وأفراحه وأحزانه وخطاياه في جسد الأرض، هل تسربت قبل ذلك في قصيدة أو قصة أو كتاب؟ إلى عقل أحد أو قلمه؟ أم احتواها قمقم الصمت وطوقتها أسوار الإهمال؟ مثل برق يمر، مثل صوت المطر، لمع السر لحظة في راحتك فتشنجت تقبض عليه، ثم هوى إلى أطرافك، وابتل شخصك الذاهل عنك وعن العالم بماء الحقيقة. انشقت الروح وشقت قشرتها، وبرز الفتى الحائر والكهل الضائع الذي جلد نفسه وجسده بالتواضع والخجل والانكسار والتردد. أتراه أكمل الآن دورته وأمسك في راحته المتجمعة بوردة الكمال، وردة الموت الذي اختاره ولم يختره؟ أهو يتلفع الآن بالضوء والظل أم ببرودة السكينة والصبر والهزيمة التي نسجتها سنوات عمره العجاف؟ بعيد أنت جدا وقريب - ما أبعد الواقفين حولك بالرغم من قربهم منك - وسرك سيدخل معك إلى وحشة قبرك ليؤنسك كما كانت زوجات الملوك القدماء وخليلاتهم يدخلن معهم في صحبة حراسهم المقربين، ولن نعرف أبدا إن كنت سعيدا بامتلاك السر أم حزينا لأنك فشلت في التعبير عنه بكلمات تغلفه وتبقى لنا ولأولادنا وأحفادنا، لكنك صامت هنا وهناك، مزموم الراحتين والشفتين على سرك، منطفئ ومحروم حتى من الدهشة التي انغلقت عليها أبواب جفنيك، وأبدا أبدا لن نسمع نبض فؤادك أو همسة شفتيك بعد رجوعك من رحلة الوهم والحلم إلى الشاطئ الأخير، أبدا لن تستطيع العبارة أن تغري كآبتك الأزلية بالبوح، لن تخترق قناعك الحديدي سهام العيون الجميلة، ولن يهزك حتى السؤال عنك من الأحباب الهاجرين والغادرين، ربما لأن أسئلة أخرى تباغتك، ولأن لهيبا آخر يتسعر الآن في جوفك، سوالفك اشتعلت بالشيب. رأسك وصدرك يلطخهما وشم دمك القاني المسود، ماذا ترجي الآن؟ ماذا تنتظر؟ وهل يمكن أن تشتعل من رماد انطفائك وردة لزمان بهي، لزمان جميل طالما انتظرته وربما عبرت عنه أو فشلت؟)
وضعوه داخل العربة كأنهم يقذفونه في نفق باهت مظلم السقف والجدران لم تزره أشعة الشمس أبدا ، شكر التومرجي عبد الحق أهل الخير الذين ساعدوه على حمل الجثمان وعزاهم نيابة عن المجهول الذي غطاه بمشمع أصفر كبير وتمتم بقراءة الفاتحة عليه، وبعد أن أغلق الباب بالمفتاح تطلع إلى الواجهة السامقة المخططة باللونين الأحمر والأصفر اللذين يتذكرهما جيدا كما تتذكر قدماه الدرجات العريضة للسلم العالي الذي طالما تقطعت أنفاسه من الصعود عليها في سنوات فتوته وشبابه الأولى. كانت أشعة الشمس الغاربة ترسم وشمها الذهبي الهش على جدران الدار وتعكس مراياها الآفلة على وجوه المتفرجين الذين بدءوا في الانصراف كل إلى حال سبيله. قال لنفسه وهو يتحسس الباب ويتأكد من إحكام غلقه: شاعر؟ وأمام دار الكتب؟ ما أشبه اليوم بالبارحة. ثم استدار متجها إلى الباب الأمامي ليجلس إلى جوار السائق الثرثار، بينما الخواطر والذكريات تفتح أشرعتها وتمخر به بحر الزمن الذي تتلاطم أمواجه ولا تتشابه أبدا، وعاد ينظر إلى واجهة الدار التي جلس أمامها البوابون النوبيون الذين كان يعرفهم جيدا، أو أولادهم الذين ورثوا عنهم الطيبة والنقاء والصدق الذي ربما كانوا آخر شهوده وشواهده: ها هي الأيام والسنوات تمر وكل شيء يتغير فيك ولا يتغير، ويموت شاعر تربى في بطون كتبك وداسته العجلات أمام أبوابك وكل شيء هو كل شيء ولا شيء؛ الزحام هو الزحام، والضجيج هو الضجيج، والقبح هو القبح وإن كان يزداد دمامة ويكتسي بألوان البؤس والبلادة والسأم والتعاسة، وكل شيء لا يحس بك أيها الشاعر ولا شيء، العصافير تطير كعادتها، والشمس تشرق وتغيب كما فعلت بلايين السنين، الفقراء يغطسون في بحار الفقر والأغنياء يتباهون بثرائهم المستفز وقصورهم ومستعمراتهم المسورة وعرباتهم الخنزيرة والشبح وما لا أدري من أسماء، والشعراء الشعراء يغتالون خفية أو علنا أو ينفون عن أوطانهم أو يسقطون صرعى الطغاة أو الشاحنات، وأنت مطروح في هذه العربة ولا أدري إن كان أحد قد سمع عنك. - يا عم عبد الحق، هل سنقضي الليلة هنا؟
فاجأه الصوت فدلف إلى مقعده والتفت إلى صالح الذي كان يأكل بشراهة سندوتشا تفوح منه رائحة الفول. قال وهو يضحك: همك على بطنك وحظك من السماء أيضا؟ ضحك صالح دون أن يخطر على باله الميت المسجى وراء ظهره: صاحب المطعم رجل كله ذوق، يبدو أنه سمعني وأنا أقول لك إنني من صباح ربنا على لحم بطني فأحضر أربع سندوتشات. رحمة ونور على المرحوم، مد يدك باسم الله. - لا أريد، دعني في حالي. - يا رجل سل نفسك، كلنا لها.
سكت عبد الحق ولم يمد يده فقال له ضاحكا وهو يقضم السندوتش الباقي: إذن أسليك بطريقتي.
قال وهو شارد الفكر: وما هي يا شيخ الطرق؟
جلجلت ضحكة صالح وقال: السياسة والكرة، هل عندك غيرهما؟ والنسوان.
قال عبد الحق ولا تنس الجريمة أيضا. هل قرأت اليوم عن الولد الذي ذبح أمه؟
أسرع صالح قائلا: والمرأة التي أكلت ذراع زوجها، والتي عملت منه كفتة بالساطور، الحكاية يا صاحبي وصلت للسيما.
قال عبد الحق كأنما يحدث نفسه: خذ بالك من السكة، أمامك مزلقان وكوبري علوي. ثم وهو يلتفت وراءه وينظر من خلال الزجاج المعتم إلى داخل العربة: ونسيت الشاعر الذي معنا؟ المسكين الذي لطشته الشاحنة؟
قال صالح ولم يستطع أن يكتم ضحكته المتفجرة: حظه ونصيبه، بدل ما يموت من التعذيب أو ينتحر فداء ليلى. (هل خرجت من قبو الحروف والكلمات المهجور ودخلت النفق المظلم الذي ربما يفضي إلى النور؟ أبلغت الآن مدن الحب والحلم التي طالما اشتقت للحياة فيها؟ وهل استقبلك على أبوابها المنقذ فوق جواده الأبيض وشاهدت سيفه الأبيض وزمردة الحق الضائع التي تسطع على مقبضه؟ وأخيرا هل ذقت خبز العدل وتفيأت ظلال السلام وتوحدت بنور الحق والجمال والنظام وحدائق الحسن والمعنى والانسجام؟ كم تسللت من هذا القبو - ومعك قصائدك وقصصك الموءودة في رحم الشوق والحسرة والانتظار - وتجولت في مدن القبح وعاينت جيوش الفقر وجراده الذي أطلقه على حقولنا الملوك والطغاة والسلاطين من كل العصور، خرجت شاهرا شعرك وحبك وحزنك وإصرارك على أسنة رماح قصائدك في وجه الدمامة والحقارة والظلم والنذالة، وذرفت الدمع العاجز على طفل وطفلة يبحثان عن الفتات في أكوام القمامة، وعجوز يفتش في الأعين عن أمل يسند عليه شيخوخته، وبقيت الطفل العجوز الذي يتجول مع أحزانه في شوارع وحدائق مدن الأحلام، وينتظر وينتظر ويسقط كل يوم في حفر الخراب والفساد والغدر واللؤم، وتجرحه الشظايا المتطايرة من مرايا السراب والوهم. أتراك وصلت الآن إلى المدن التي صنع الله بهجتها، وأجرى ماءها وأنبت فيها شجر الحب ونخيله وأزهاره، أم ما زلت تسير على الأشواك وترتطم بالقذارة والحقارة، وتزكم أنفك عفونة الجثث الفاسدة المفسدة التي تزحم المدن وتعوي فيها مسعورة وأنت تسأل نفسك: كيف يترك هؤلاء الموتى بغير قبور ولا أسوار؟ هل رأيت الآن ذلك الذي شعرت في خلواتك أنه سيقتلك ذات يوم؟ وهل انكشف لك السر الذي لم تفهم أبدا أنه على الدوام - كما يدل اسمه - مخبوء ومكشوف. ها أنت ملقى كالحجر ومنكفئ كالقنفذ الجريح داخل جسدك المهان، من يدري إن كنت سترجع أبدا لتحكي لنا عن مدن الحب والحلم والعدل التي نحن لها ونسافر في كل لحظة إليها؟ آه، ماتت اللغة والقصيدة ماتت معك ولن تستطيع أن تعبر عن دهشتك ودهشتنا العاجزة البائسة، منفرد أنت الآن في صحراء صمتك، ترف حولك فراشات الأسئلة وأجنحة المدن التي عرفتها بالقلب وعرفتك بالذكرى والدموع ...)
अज्ञात पृष्ठ