वायलिन वादक के दुःख
أحزان عازف الكمان
शैलियों
رد عليها بثقة لم تكن في محلها تماما: اسمحي لي بزيارته، بإذن الله سأعيد إليه وعيه، تأكدي من هذا. تفرست عيناها فيه لحظات قبل أن تشعل ضوء الصالة وتفتح له الباب. وظل مطرقا برأسه خافضا بصره حتى نبهه صوتها: تفضل، تفضل لتتأكد بنفسك.
دخل من الباب وهو يحيي بصوت متلعثم، وسبقته إلى الحجرة الداخلية ذات الباب الزجاجي العريض. قدم إليها باقة الورد التي أنساه الارتباك والعتمة أن يناولها إياها عند دخوله وسمعها تقول: البيت بيتك، يمكنك أن تجلس معه كما تشاء. ثم وهي تفتح باب الحجرة وتطل على المريض الممدد على السرير السفري الذي بدا هيكله الأبيض العادي كهيكل حيوان بحري في متحف: إنه نائم الآن، أرجوك لا توقظه، ربما يكون من حظك أن يفتح عينيه، وإذا تعبت من الانتظار يمكنك أن تنصرف وتغلق الباب وراءك. أنا مضطرة للذهاب في أمر هام. سأعود بعد ساعة وربما حضرت قبل هديل، أقصد الحمامة. إنها تمر علينا كل يوم قبل الذهاب إلى بيتها. المسكينة تنتظر مثلك ساعات حتى يفتح عينيه، تفضل، اجلس على أحد هذه الكراسي.
كاد أن يقول لها إن حظه سيكون أوفر من حظ الحمامة، لكن السيدة التقطت حقيبتها الجلدية وشكرته على الورد ثم استأذنت مسرعة وأغلقت باب الشقة وراءها.
وجد نفسه وحيدا معه في الحجرة الصغيرة التي هبت عليه منها رائحة الأدوية النفاذة والحيطان البيضاء العارية كأنها في إحدى المستشفيات. كان الضوء شحيحا والمكان تسبح فيه الظلال الصامتة كأرواح الأسلاف؛ الآباء والأجداد والممثلون والمخرجون الذين ذهبوا ولم يذهبوا وماتوا ولا يزالون أحياء. تأمل الستارة البنية الفاتحة والأوراق والزهور الناحلة الألوان كأنها بقع على لوحة فنان حديث، ونظر إلى الرف الخشبي الصغير الذي رصت عليه الزجاجات وعلب الدواء وربطات القطن والشاش ووعاء الحقن، وبعد أن أحس أنه تشاغل عن المريض الممدد على السرير خجلا أو رهبة بالأشياء المتناثرة في نظام دقيق، تشجع واقترب منه. جلس على طرف السرير ووضع قدميه على المشاية الرمادية التي لاحظ خيوطها المتدلية من أطرافها كشعرات من رأس قطة غاضبة.
كان شهاب ممددا على مرتبة السرير الصغير بجسده الضخم كأنه عنترة أو هرقل. رأسه ووجهه الملحم المستدير مائل قليلا ناحية الحائط، وذقنه حليقة ولا أثر للحية الكثة التي نمت واستطالت في وقت من الأوقات حتى كان يداعبه ويسميه أبا ذر حينا وزعيم السيخ حينا آخر، وكذب الكرش الضخم الذي تكور متورما أمامه كل ظنونه التي صورت له وهو في الطريق إليه أنه قد أصبح هزيلا شاحب اللون، وتعجب من المرض الذي يحول إنسانا إلى حصان هائل القوة والحجم في نفس الوقت الذي يشل فيه حركته ويقيد عقله وأعضاءه بقيود أقسى من الحديد.
لم يدر ماذا يفعل. أخذ يتأمله من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى. كانت أول مرة في حياته ينفرد فيها مع جسد مصمت أصم. إنه صديقه بالتأكيد، لكنه مجرد من كل شيء يميز الصديق إلا الجسد الممتلئ كأنه كتلة حجرية محفورة في الجبل. لا شك أنه يأكل ويشرب ويمارس وظائفه الحيوية على أكمل وجه، لكن الحياة التي تباشر سلطانها المهيمن عليه لم تترك له شعاعا واحدا من الوعي يمكن أن يساعده على تعرف أهله وأصدقائه أو يمكن أن يطل مرة واحدة من عينيه، وها هو يغط في نومه كحصان خرافي ضخم، كيف يعامله أو يعرفه بنفسه وهو كما قالت له زوجته قد غاب عن نفسه وعن كل شيء؟
تقلبت الكتلة الحية على الجنب الأيمن ومدت ذراعها إلى الملاءة الخفيفة عند القدمين وشدتها عليه، وانفتحت العينان لحظة ثم انغلقتا، واستدار الجسد ليواجه الحائط فوجد الضيف نفسه في مواجهة الظهر العريض القوي. قال لنفسه: لماذا لا أجرب؟ ألا يمكن أن ترجع إليه لمحة تومض وتشتعل كالبرق في أغصانه وتكتسح الغياب والتحجر من كيانه؟ وإذا كان قد نسي صديقه فهل يمكن أن ينسى التجربة التي زلزلتنا في أول الشباب؟ أخذ يتكلم تاركا نفسه على سجيته، موقنا بأن الأمل لا يصح أن يضعف أو ييئس حتى مع المستحيل ... وبدأ صوته يتدفق كالأمواج المتلاحقة وهو يصعد فوقها ويسقط ويعاود الصعود: أهكذا يا شهاب لا تحس بصديقك ورفيق كفاحك؟ أيمكن أن تنسى جهودنا وسهرنا في حجرة مكتبك ونحن نعد «الكراسي» ونتناقش حول الديكور والأضواء والإخراج وحركات الممثلين؟ ونجاحنا كل ليلة وأصواتنا المجلجلة وجرينا على الخشبة ونحن نحمل المزيد من الكراسي ونرحب بالمدعوين الوهميين ونجلسهم في أماكنهم ثم نستحم في آخر الليل تحت طوفان التصفيق والهتاف من المعجبين؟ لا لا، لا تشمت أحدا فينا، لا تدع أحدا يقول إن الشهاب قد انطفأ وصار رمادا، إن عصام قد اغترب ونسي نفسه وفنه في رمال الصحراء، لا تترك الخشبة للأدعياء والكذابين والمهرجين وتجار الشنطة الثقافية وشيوخ الذهب الأسود، قم يا شهاب، أفق من نومك فالعالم ينتظرك. انهض كالعنقاء من الرماد وثبت قدميك على الخشبة، لم يضع كل شيء، لم يتحطم كل شيء، ستقوم الآن أيها الخطيب وتلقي خطبتك، ستقوم وتقول كل شيء.
لم تبدر من الكتلة الحية بادرة حياة. ظل صوت النفس المتحشرج بالشهيق والزفير يتلاحق في دوامات أشبه بدمدمة بخار ساخنة تتصاعد من فوهة بركان، ونهض عاصم من مكانه على طرف السرير السفري الذي يلمع هيكله بالبياض الناصع كأنه تابوت رخامي. مد ذراعه في هدوء وطاف بها على ذراع شهاب وجنبه الأيمن وظهره العريض الذي أداره له. ثم سحبها بسرعة وهو يمني نفسه بأن الكلمة يمكن أن تنفذ في الحجر وقد تحفر فيه ثقوب الوعي: تعال يا شهاب نتذكر ليلة العرض الأولى. في ذلك المسرح الصغير الذي انتهى عمره القصير بالكارثة. بالطبع لم تنس الحريق الذي أتى عليه ولم نفهم أبدا أسبابه، والتقينا يومها يا شهاب وبكينا وتعاهدنا عهد العنقاء الذي قطعناه أمام الركام المتفحم وكأننا نصلي لإله غامض في قدس أقداسه المحترق، لكن لماذا أبدأ دائما من النهاية؟ يظهر يا شهاب أننا عجزنا ولم يبق لنا إلا الذكريات، لكن تعال نبدأ من البداية، تعال نرتجل التمثيل الليلة كما تقول إحدى مسرحيات صديق احترق هو أيضا وبقي مع ذلك حيا في صدورنا، تصور معي ساعة انفرجت الستارة. كان الصمت يهيمن على القاعة والخشبة وقطع الديكور والمتفرجين كما يهيمن الآن على هذا المكان شبه ظلام، وأنا الزوج العجوز أطل من النافذة اليسرى وأترقب وصول المدعوين، وزوجتي العجوز تدخل دون أن أشعر بها وتوقد مصباح الغاز وينتشر النور الأخضر.
الزوجة: لا شك أنك عالم كبير، أنت موهبة يا حبيبي، كان من الممكن أن تصبح رئيسا أو زعيما أو ملكا أو طبيبا أو قائدا - صحفيا كبيرا أو ممثلا أول أو ماريشالا - لو أنك شئت ذلك فحسب، لو كان لديك الطموح الكافي، لكن ذلك كله سقط في الهوة؛ الهوة السوداء.
وأرد عليها أنا الزوج العجوز : فيم كان يفيدنا ذلك يا حبيبتي؟ لو حدث لما كانت حياتنا أفضل مما كانت، ومع ذلك فنحن سعداء راضون، أليس كذلك؟ نحن في مركز محترم، وأنا قائد ورئيس على كل حال، وما دمت أعمل حارسا لهذا البيت فأنا قائد عظيم.
अज्ञात पृष्ठ