قالوا: «نزلوا عليها في هذا الصباح، وفتكوا بأهلها ونهبوا بيوتها.»
فأجفل زكريا، وخفق قلبه ووقف لحظة وقد جمد الدم في عروقه خوفا على دميانة، فرآه الراكضون واقفا فقالوا له: «ارجع يا عماه وإلا فإنك تذهب فريسة البجة لعنهم الله، فهم كالأبالسة ووجههم كوجوه الشياطين.»
فلم يبال ما سمع، ولم يزده ذلك التحذير إلا رغبة في المسير إلى حلوان ليرى ما جرى لدميانة، وتمنى لو ذهب إلى الفسطاط قبل مجيئه وركب جوادا يسرع به، ولكنه وجد نفسه أقرب إلى حلوان منه إلى الفسطاط فظل مسرعا يعدو والناس يركضون فرارا من القتل والنهب وقد استقر في ذهنه أن دميانة في أمان؛ لأنها في جوار صديقه قعدان العربي.
فلما أطل على حلوان اتجه إلى منزل الرجل وما أشرف عليه من بعيد حتى رأى الخباء منصوبا فاطمأن ولكنه لم ير أحدا حوله، فلما دنا منه رأى الخراب مخيما عليه ولفت نظره وجود جثة ملقاة على الأرض بباب الحديقة عرف أنها جثة غلام صاحبه، فتقدم نحوها فرأى الدم ما زال يسيل منها، فاضطربت جوارحه ولكن لهفته على دميانة أنسته الخوف ومشى في الحديقة فرأى آثار حوافر الخيل بين الأغراس وقد تكسرت وتهشمت، فأسرع حتى أقبل على الخباء فسمع أنينا وتقدم فرأى رجلا مطروحا أرضا فلما وقع نظره عليه عرف أنه صاحبه قعدان فأجفل وصاح: «قعدان! قعدان!» وأكب عليه وأمسك بيده ليجلسه ويفحصه.
فأدار قعدان وجهه إليه والدم يسيل من جرح عميق في كتفه ولم يستطع أن يتكلم. فقال له زكريا: «لا بأس عليك يا أخي ما الذي أصابك.»
فقال بصوت مرتعش متقطع من شدة الضعف: «عفوا يا زكريا، إني لم أستطع الاحتفاظ بدميانة؛ فقد أخذوها مني أخذها لصوص البجة. ويعلم الله أني بذلت جهدي في حمايتها حتى قتل ولدي ورجالي وها أنا ذا كما ترى. فعفوك يا أخي. إني لم أقم بحق الجوار.»
وكان ينطق بصعوبة وزكريا ينظر إليه ويكاد قلبه ينفطر لما رأى من آلامه ولما سمع اعتذاره وكيف أنه ضحى بأهله وبنفسه دفاعا عن جاره أكبر أنفة العرب ونخوتهم وحزن لذهابه قتيلا وفهم من خلال كلامه أنه لم يستطع حماية دميانة فأحب أن يعرف ما جرى لها فقال: «لا بأس عليك يا أخا العرب إنك - والله - قد وفيت حق الجوار وأحييت سنة العرب وهل للإنسان من شيء يبذله في سبيل جاره أعز من أهله ونفسه - شفاك الله وعافاك.» وكان لا يزال قابضا على يده، فهم بإنهاضه وقال: «انهض، اجلس، هل آتيك بما تشربه؟ قم لأغسل جراحك.»
فقال: «لا فائدة من هذا ولا ذاك؛ فإني ميت لا محالة، واعلم يا أخا النوبة أن دميانة حية قد سباها البجة، وأظنهم أخذوا أيضا ابنتي وسائر أهلي.» قال ذلك وتململ وبان التألم في وجهه وصرخ «آه لو كنت أستطيع القيام للحقت به.» واختلج وشهق وأسلم الروح.
فلم يتمالك زكريا عن البكاء رغم اشتغال خاطره بدميانة، وأسف لموت هذا الصديق الذي يندر مثاله، ولكنه لم يجد حيلة ينفعه بها وقد قضى نحبه سوى أن يواريه التراب ولم يجد أحدا يستعين به؛ لأن أهل حلوان كانوا قد هجروها كما هجرها البجة أيضا بعد أن نهبوها خوفا من رجال الحكومة. فاحتفر حفرة دفن قعدان فيها ورجع إلى نفسه وأخذ يفكر فيما يجب عمله للاهتداء إلى دميانة، واسترجع في ذهنه ما سمعه من قعدان، ففهم من مجمله أن البجة سطوا على حلوان، فنهبوها وسبوا نساءها، وكان زكريا قد عرف البجة وعاشر بعضهم، وهم يقيمون بالصحراء الشرقية، يعيشون على الغزو والنهب، وكلهم أشداء أهل بادية وخشونة. فلما تصور دميانة معهم اقشعر بدنه؛ لعلمه أنهم لا يعرفون حراما ولا رادع لهم من دين؛ فقد كانوا لا يزالون في الوثنية. •••
كان زكريا يفكر فيما حدث وهو يمشي على غير هدى نحو الجهة التي حسب البجة نزلوا منها أو عادوا إليها لعله يقف لهم على أثر يرى من يرشده إليهم. وصعد في طريقه أكمة أشرف منها على الصحراء من بعيد، ونظر فلم ير أحدا، ولكنه عرف من آثار الحوافر أن القوم كانوا هناك وذهبوا، فحدثته نفسه أن يقصهم وحده متشوقا للعثور على دميانة، ثم عاد إلى رشده فرأى أنه يجهل مقرهم وأنه يعجز عن إنقاذ دميانة منهم لو عرفه. فوقف محتارا، ثم انتبه إلى الأنبوب، فافتقده فإذا هو لا يزال تحت ذراعه، فتذكر دميانة وما قاسته من البلاء والعذاب حتى إذا دنت منها ساعة الهناء ساقها سوء الطالع إلى السبي. فقال في نفسه: «ليكن اسم الله مباركا كأن هذه الفتاة على تقواها وطيب عنصرها وما توافر لها من أسباب السعادة خلقت لتشقى! أين أنت الآن يا دميانة؟ ماذا أقول لخطيبك إذا سألني عنك؟ أأقول له سباها البجة؟ وهم قوم لا يرعون زماما ولا يوفرون عرضا؟» وغلب عليه الحزن واليأس فبكى وأغرب في البكاء وهو وحده لا سميع له ولا مجيب.
अज्ञात पृष्ठ