فتقدم نحوه وقال: «إن ابن طولون عازم على بناء جامع كبير في القطائع ، ولن يجد من يحسن هندسته غير سعيد.»
فقال: «وهل يعرف ابن طولون ذلك؟»
قال: «لا يلبث أن يعرفه متى احتاج إليه.»
فأطرق زكريا كأنما فتح عليه باب الفرج، ثم ودع أبو الحسن وانصرف، فركب جوادا من جياد مرقس وطلب الفسطاط. فلما أطل عليها ترك الجواد في خان وحدثته نفسه بأن يسير توا إلى حلوان؛ لمشاهدة دميانة، لكنه أحب أن يتمم ما جال في خاطره أولا، ثم يعود إليها بالبشارة.
صدقات ابن طولون
تنكر زكريا بلباس الفقراء المتسولين، ومشى إلى القطائع، واتفق وصوله إلى قصر ابن طولون في ساعة تفريق الصدقات.
وكان لابن طولون في الإحسان يوم مشهور، يعرف بيوم الصدقة تفتح فيه أبواب القصر كلها لا يمنع داخل ولا يرد سائل. وكانت صدقاته على أهل الستر والفقراء وأهل التجمل متواترة. وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس في القدور من الفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة، في اثنين منها فالوذج والاثنان الآخران على القدر.
وكانت تعمل في داره وينادى: «من أحب أن يحضر طعام الأمير فليحضر.» وتفتح الأبواب فيدخل الناس الميدان وابن طولون في مجلسه الذي يشرف منه عليهم، فينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون أو يحملون فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته.
ولقد قال له مرة إبراهيم بن قراطغان - وكان على صدقاته: «أيد الله الأمير إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقة فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشا والمعصم الرائع فيه الحديدة والكف فيها الخاتم.» فقال: «يا هذا كل من مد يده إليك فأعطه؛ فهذه هي الطبقة المستورة التي ذكرها الله - سبحانه وتعالى - في كتابه، فقال: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.» فاحذر أن ترد يدا امتدت إليك، وأعط كل من يطلب منك.»
فلما وصل زكريا إلى القصر رأى ابن طولون جالسا في مقعده وعليه قلنسوته وقباؤه وقد تهلل وجهه سرورا بما يشاهد من آثار نعمته على الناس. وكان زكريا قد عزم أن يطلب مقابلته ليخاطبه رأسا، فعلم ألا سبيل إلى ذلك في تلك الساعة، فأجل الأمر إلى الغد. وخوفا من وقوع الشبهة عليه تقدم في جملة طلاب الصدقة، فمد يده فنال حظه فأكل وهو كيفما تحرك يفتقد الأنبوبة، وكان قد علقها بحبل في عنقه ودسها داخل أثوابه تحت ذراعه.
अज्ञात पृष्ठ