فقالت: «إذا كنت أنت مكان أبي هل ترى سعيدا كفئا لي؟»
قال: «نعم؛ فإنه من خيار الشبان تعقلا وذكاء ومهارة، ولاسيما الآن، فإنه قد أحرز ثقة صاحب مصر أحمد بن طولون لمهارته في فن الهندسة فآثره على جميع مهندسي مصر. وأظنك تعلمين السبب.»
قالت: «كلا ما هو؟»
قال: «لما أفضت حكومة مصر إلى ابن طولون هذا وهو تركي الأصل وجنده أتراك كان عرف الفسطاط (قصبة المسلمين بمصر) لا يقبلونه إذ يرون أنهم أصحاب الدولة وفيهم ظهر النبي صاحب الشريعة الإسلامية، وكانوا في أول الإسلام يعدون الأتراك والفرس ومن إليهم من الأمم أقل منهم ويسمونهم الموالي. فلما تغلب العنصر التركي في بغداد على أيام المعتصم انحط شأن العرب وخرجت مقاليد الدولة من أيديهم وتولاها الأتراك والفرس وغيرهم وصار العرب ينظرون إلى هؤلاء بعين البغض والحسد ولم يعد ابن طولون يأمن القيام بينهم، فعزم على أن يبني لنفسه بلدا يجعله معقلا له ولجنده، فابتنى بين الفسطاط والمقطم قطائع أنزل فيها رجاله وبنى بها قصرا له فأعوزه الماء؛ لأن القطائع بعيدة عن النيل ومرتفعة عنه، فأراد أن يجري الماء إليها فلم يجد من يستطيع ذلك سوى سعيد فإنه تعهد له بجره وقد وضع له رسما هندسيا لم يستطعه سواه، وباشر العمل وأظنه فرغ منه الآن وجرى الماء إلى القطائع، فإذا رأى العمل متقنا كافأ سعيدا مكافأة يحسده عليها كثيرون.»
فسرت سرور المحب بما يناله حبيبه من التقدم، ثم انقبضت نفسها مخافة أن يحول ذلك الرقي دون مرادها وهي لم تعلم رأيه فيها بعد وإن كان قلبها يدلها على الحب المتبادل، فأصبحت في شوق إلى مقابلته لترى ما يبدو منه ولا تعرف وسيلة للاجتماع به؛ لأنه كان يقضي معظم أيامه في الفسطاط والقطائع.
وانتهت من الاعتراف فوقف القسيس ورفع يده على رأسها وباركها وصلى ودعا لها، فقبلت يده والصليب الذي يحمله وخرجت، وانصرف هو إلى غرفة يقطنها ملاصقة للكنيسة. ولم يعرض عليها أن يوصلها إلى بيت أبيها وقد أمسى المساء؛ لعلمه أنها لا تخرج إلا وخادمها العم زكريا معها، ولم يدر أنها أتت وحدها خلسة في ذلك اليوم.
سعيد
خرجت دميانة من الكنيسة وقد غربت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف، ولكن القمر كان في ربعه الأول. فظلت بضع دقائق تتردد ثم مضت تخطو بغير انتباه حتى تجاوزت النخلة وأطلت على البساتين. وأشرفت على النيل وقد أكمد لون مائه من غيوم الجو فوقه لكن سطحه ازداد لمعانا لانكسار ضوء القمر على وجهه المتجعد كأن الزمان أثر فيه فتكمش مثل تكمش وجوه الشيوخ، فسارت وحدها وهي تستغيث بصاحب الكنيسة وحامية تلك الناحية؛ كي لا يراها أحد حتى تدخل غرفتها.
وفيما هي كذلك سمعت وقع حوافر جواد ألفت سماع مثله مارا بجانب منزل أبيها، وسمعت صهيل الجواد فخفق قلبها وأدركت أنه جواد سعيد، وأنها ستلتقي به وحده في الليل هناك وليس لها عهد بمثل هذه الحرية، ولا سبق لها أن كلمت سعيدا بغير التحية أمام والدها، وكانت منفعلة مما قالته وسمعته على كرسي الاعتراف، فوقعت في حيرة؛ لا تدري: أتتوارى من الطريق حتى لا يراها أم تقف له وتتحين الفرصة لمعرفة ما في قلبه، وكلا الأمرين شاق.
وكان هو قد بلغ موضعها، وما كاد يقع بصره عليها حتى عرفها، فترجل مسرعا، وتقدم وهو ممسك لجام جواده بيساره، ووقف بين يدي دميانة وقفة الإجلال وعليه لباس السفر، وعلى رأسه الكوفية والعقال بدل القلنسوة أو العمامة، وقد التف بعباءة من الحرير فوق القباء والسراويل، وكان أسمر بيضي الوجه عسلي العينين - مع وداعة وذكاء - قصير الحاجبين صغير الفم، خفيف الشاربين واللحية تلوح الصحة في محياه، ويتدفق الذكاء والحدة من عينيه. وكان وقوفه مواجها للقمر، فظهرت تلك الملامح ظهورا واضحا وزادها ضوء القمر هيبة.
अज्ञात पृष्ठ