فحدثته نفسه بأن يخبره عن مكانها. لكنه خاف أن يستعين مرقس بذلك على الفتك بها فيذهب سعيه هدرا فقال: «لا اعرف أين هي الآن.»
قال: «يظهر أنك تبحث عن حتفك بظلفك، سترى عاقبة أمرك.» قال ذلك وخرج وأغلق الباب وراءه بشده فعلم زكريا أنه صائر إلى السجن بعد قليل. ولم تمض هنيهة حتى جاء الجند فحملوه إلى القطائع، وزجوه في غياهب السجن.
بين قبائل البجة
البجة جيل من الناس كانوا يقيمون بالصحراء بين النيل والبحر الأحمر، تبدأ بلادهم من الشمال بقرية يقال لها «معدن الزمرد» في صحراء قوص وبينها وبين قوص نحو ثلاث مراحل. وكان لذلك المعدن شأن في التاريخ القديم؛ إذ كانوا يستخرجونه من مغاور بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال ويحفر عليه بالمعاول. وآخر بلاد البجة أول بلاد الحبشة، وأبعد بلادهم قرية يقال لها «هجر».
وهم أول أهل بادية يتبعون الكلأ للرعي حيثما يكون، ويقيمون بأخبية من الجلد. وكانت أنسابهم من جهة النساء؛ أي أن الرجل منهم ينتسب إلى والدته على عادة الأجناس المتوحشة.
وهم قبائل كثيرة لكل منها رئيس. وكانوا من عهد الفراعنة يهاجمون ضفاف النيل في الصعيد، فينهبوها ويعودون إلى البادية فلا تقوى الدولة على اللحاق بهم، بل كانت تجاريهم؛ لأنها تحتاج إليهم في استخراج المعادن وحراسة المناجم أو ليكفوا أذاهم عنها.
وكذلك الروم لما ملكوا مصر. ولما فتح المسلمون مصر لم يحاربوهم حتى كانت أيام «ابن الحبحاب» في أوائل القرن الثاني للهجرة، فهادنهم على مال يؤدونه إلى بيت المال، وتوالت المراسلات والمكاتبات والغزوات بينه وبينهم ولما اختل شأن مصر في أوائل الدولة العباسية تمادى البجة في تعديهم حتى صاروا يسطون على ضواحي الفسطاط. فلما تولى ابن طولون صار يتقي غزواتهم بحامية يقيمها وراء المقطم.
فاتفق أثناء قيام دميانة في حلوان أن شرذمة منهم سطت عليها ونهبتها وقتلت كثيرين من أهلها ومنهم «قعدان العربي» وحملوا ابنته ودميانة سبيتين ونقلوهما على جمالهم السريعة الجري الصبورة على العطش. وكانوا يسابقون بها الخيل ويقاتلون عليها وتدور بهم كما يشتهون ويقطعون علها الفيافي والقفار ويتطاردون عليها في الحرب فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل فأخذها صاحبها وإن وقعت على الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها.
فلما رأت دميانة نفسها على ظهر الجمل وقد أدير رأسها نحو البادية انتبهت لهول المصاب، وأخذت تبكي وتستغيث وتتضرع إلى الله أن ينقذها من شر هؤلاء القوم؛ فقد دهشت لخشونتهم إذ رأت وجوها صفرا وأجساما رقاقا وبطونا خماصا وأكثرهم عراة الصدور يدهنون جلودهم بالشحم وشعورهم متلبدة متكاثفة بما عليها من آثاره ويحمل كل منهم رمحا طوله سبعة أذرع: عوده أربعة وحديده ثلاثة، كما يحمل درقا من جلود البقر المشعرة أو جلود الجواميس المقلوبة، وبعضهم يحملون قسيا عربية غلاظا من السدر والشواحط وإذا عدا أحدهم تحسبه من الجن لدقة ساقيه وسرعة جريه. فكان خوفها عظيما، ولم تعلم بأمر رفيقتها إذ كانت على جمل آخر.
ولم يمسها أحد بسوء وإنما حملوها في جملة السبي وتبطنوا الصحراء وهم يتراطنون بلغة ليست بالقبطية ولا النوبية ولا العربية فلم تفهما ما يقولون. ولما أقبل المساء حطوا الرحال ونصبوا خيمة نزل فيها رئيسهم وهو يمتاز عنهم بلباسه الملون المزركش وقد تقلد سيفه مغمضا. وكان راكبا جوادا أصهب. وأنزلوا السبايا في خيمة أخرى. فلما اجتمعت دميانة بابنة قعدان واسمها علية استأنست بها وجلستا تتباكيان وكل منهما تعزي الأخرى. ولا يعزي دميانة غير الأمل في النجاة بأعجوبة من الله.
अज्ञात पृष्ठ