وأكبر الظن أن شهريار لم يسمع هذه الكلمات الأخيرة، وإنما أغرق في نوم هادئ لا تروعه الأحلام ولا يقطعه الأرق، ويفتح عينيه بعد وقت طويل أو قصير، فيرى الغرفة وقد أذن لضوء الشمس المشرقة أن يغمرها، فظهرت جميلة رائعة متألقة، ورأى شهرزاد قائمة من سريره غير بعيد وهي تمد إليه بصرها حلوا مداعبا كأنها تدعوه إلى أن يستيقظ، وهي مع ذلك صامتة لا تقول شيئا، ولكن وجهها يزدان بابتسامة حلوة تبعث الأمل وتدعو إلى النشاط، فلما رآها الملك ابتسم لها، وهم أن يسألها كيف قضت الليل، ولكنها ابتدرته بالسؤال فقالت: «كيف يجد مولاي نفسه؟» قال: «على خير ما أحب أن أكون ما دمت أنعم بقربك وأسعد منك بهذه النظرات الحلوة وبهذه النغمات الساحرة.» قالت: «لقد استيقظ مولاي غزلا، وأحسب أنه قد قضى ليلة هادئة.» قال: «كل الهدوء.» قالت: «ولكني أسأل مولاي، أيجد نفسه من القوة والنشاط والصحة خيرا مما كان أمس؟» فتردد الملك قبل أن يجيب، ولكنها لم تخل بينه وبين الجواب، وإنما قالت: «سأجيب عنك يا مولاي، وسأعفيك من هذه الحيرة، وسأريحك من كذب لا تحبه ومن صدق لا تجد الشجاعة عليه. فأنت بخير ما في ذلك شك، وأنت اليوم خير منك أمس ما في ذلك شك أيضا، ولكنك تخشى إن أنبأتني بذلك أن أخلي بينك وبين العمل وتكاليف الملك، وإن أنبأتني بغير ذلك لتستبقي هذه الراحة التي أخلدت إليها أن تقول غير الحق، وأنت لا تريد أن تكذب لأنك لا تحب الكذب أو لأنك تشفق ألا أومن لك. أليس هذا كله حقا يا مولاي؟!»
قال وهو يضحك، وقد أخذ يستوي جالسا في سريره: «هو كل الحق يا أحب الناس إلي.»
قالت في صوت العاتبة، وقد مالت إليه تقبله وتلاطفه: «إنك لأشبه شيء بالطفل الذي يداور أمه أو معلمه الحازم. لا بأس عليك، فلن يخلى بينك وبين العمل، ولن تحرم جوار شهرزاد. أليس هذا كل ما تريد؟» ثم جلست إلى جانبه، وأدارت ذراعها حول عنقه، وأخذت تنظر إليه نظرات ملحة كادت ترده من الذهول إلى مثل ما كان فيه من أمسه. لولا أنها نهضت ثم أنهضته وانصرفت به إلى حيث يستنشقان هواء الصباح مشرفين على جنة القصر من بعض الأطناف.
وقد أنفق الملك يوما من أسعد أيامه، لم يعرف فيه ألما ولا حزنا، ولم يحس فيه حسرة على ما مضى ولا استطلاعا لما هو مقبل، وإنما كان يعيش للساعات التي كان فيها مستمتعا بهذه اللذات الهادئة المختلفة التي كانت تقدمها إليه شهرزاد في غير تكلف وفي غير جهد ظاهر، فأما وجه النهار فقد أنفقاه متروضين في حدائق القصر، يقفان حينا ويسعيان حينا آخر، ويجلسان حين يحتاجان إلى الجلوس أو حين يعجبهما هذا الموضع أو ذاك من الحديقة، فيحبان أن يطيلا البقاء فيه. أحاديثهما أثناء هذه الرياضة هادئة كنفسيهما لا حوار فيها ولا جدال ولا تعمق فيها لشيء، وإنما هي أحاديث تجري على رسلها كما كانت حياتهما تجري على رسلها، وكما كان النسيم من حولهما يجري على رسله رخاء، وكما كانت الغصون تضطرب على رسلها في الهواء، وكما كانت الطير تتغنى على رسلها كذلك، وكما كانت الأزهار تتنفس على رسلها عما تنشر في الجو من عبير.
وكان شهريار قد انغمس في هذه الحياة الحلوة الهادئة، فنسي نفسه ونسي ملكه ونسي خواطره التي كانت تعتاده أثناء النهار وخواطره التي كانت تلم به أثناء الليل، بل نسي شهرزاد نفسها، ولم يقدر أنها كانت معه تسليه وتلهيه وتأسو جراح نفسه، وأن هذا النعيم الذي كان يستمتع به إنما هو من صنعها ليس غير، ولكن شهرزاد كانت بارعة في العناية به والتلطف له، حتى أنسته أنه موضوع العناية والرعاية. سحرته عن نفسه وعما حوله بسيرتها، كما كانت تسحره عن نفسه وعما حوله بقصصها، ويظهر أنه تنبه لذلك فجأة فقطع ما كان يمضي فيه من حديث عادي، ورفع رأسه كالواجم ونظر إليها محدقا فيها، ثم قال لها بصوته الهادئ الذي كأنه يأتي من بعيد: «ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟!»
قالت وهي تضحك ضحكا ينم عن بعض القلق: «أيكون الملك قد عاد إلى طوره الأول من الاضطراب والذهول؟ أو يعود إلى هذا السؤال الذي لا يغني شيئا ولا يدل على شيء؟! أنا من ترى ومن تسمع، ومن تحس قربها منك، وحبها لك، وفناءها فيك، وحرصها على أن تملأ نفسك غبطة، وضميرك بهجة، وقلبك أمنا وسرورا. إنك لا تسأل هذه الشجرة ولا هذه الزهرة ما هي ولا ماذا تريد، وإنما تنظر إليها وترضى عنها وتعجب بها، وتحمد الله على ما أنعم عليك من الاستمتاع بها. فانظر إلي كما تنظر إلى هذه الشجرة أو إلى هذه الزهرة، وخذ مني ما أعطيك وأعطني ما أسألك إن استطعت، ولا تكلف نفسك أكثر من هذا. عش بحسك وقلبك وضميرك، وتخفف من عقلك بين حين وحين. عش عيشة الإنسان الحي لا عيشة العالم الباحث؛ فإن للعلم والبحث وقتا مقسوما من حياة الناس، وما ينبغي أن تكون حياتهم كلها علما وبحثا وتعليلا وتحليلا.»
قال وقد أدار ذراعه حول خصرها اللطيف الرخص: «فإني لا أسألك الآن سؤال الباحث المستقصي، وإنما أسألك سؤال المحب المدنف، فقد عرفتك.»
قالت: «قد عرفتني! واحرباه! ستزهد في إذا قبل أن يتقدم النهار»، ثم أغرقت في ضحك غامض طويل.
قال: «قد عرفتك ولن أزهد فيك! لأن معرفتي إياك تدفعني على الاستزادة منك؛ فأنت قصص دائم لأنك سحر دائم، أخص ما تمتازين به أنك تشغلينني عن نفسي وعن ملكي وعما حولي وعمن حولي، بل تشغلينني عنك أيضا.»
قالت وقد أغرقت في الضحك: «إن كنت أشغلك حتى عن نفسي، فما أدري كيف تفكر في أو تسأل عني. ألا يمكن ألا أكون شيئا ما دمت أشغلك عن كل شيء؟! ألا يمكن أن أكون شيئا غيرك، فأنت تشغل بنفسك عن كل شيء وعن كل إنسان؟! ولكنك أنبأتني بأني أشغلك عن نفسك. صدقني إني لا أفهم عنك، وما أرى إلا أنك تمعن في فلسفة أشد مني غموضا وأعظم مني استعصاء على الفهم. دع الفلسفة ودع التفكير، وتعال ننعم بهذه الساعات الحلوة التي تتاح لنا والتي نختلسها أو أختلسها أنا لك ولي من تكاليف الحياة. إني أشغلك عن نفسك وأشغلك عن نفسي وأشغلك عن كل شيء. ولكن ما رأيك في أن شيئا لم يشغلني عن أن النهار يتقدم، وعن أننا نوشك أن نجد لذع الجوع، وعن أن من الحق علينا أن نتهيأ للغداء؛ ذلك أحرى أن يتيح لنا الإغراق في الفلسفة والإمعان في البحث عما وراء الطبيعة. هلم يا مولاي، فسترى أن هذا النعيم الحلو الذي استمتعنا به الآن ليس شيئا بالقياس إلى ما هيأت لك شهرزاد هذه التي لا تعرف من هي ولا تدري ماذا تريد.»
अज्ञात पृष्ठ