وفاتنة قائمة باسمة لا تقول شيئا، ولا تأتي حركة، ولا يظهر على وجهها الروع أو ما يصور الروع من قريب أو بعيد. على أنها تسعى رفيقة رشيقة محتفظة بابتسامتها الحلوة حتى تبلغ أباها الملك، فتمس كتفه في خفة وسرعة، وتقول له في صوت هامس عذب: «منظر رائع يا أبت!»
ويهم الملك أن يقول شيئا، ولكنه يرد عن القول؛ فهذه المناظر الرائعة المروعة الهائلة ثابتة لا تتحول مرسلة للروع والروعة جميعا دون أن يصيب المدينة منها شر أو ينال أهل المدينة منها مكروه. هذا البحر قد بلغ من الهياج أقصاه، وانتهى من الثورة إلى غايتها، حتى لا يشك من يراه أنه متجاوز حدوده، فغامر ما وراءها لا يدع شيئا أتى عليه إلا ازدرده ازدرادا وعفى على آثاره تعفية كأن لم يغن بالأمس، وهو على ذلك واقف عند حدوده لا يتجاوزها، بل لا يكاد يبلغها، كأن سدودا خفية قامت بينه وبين هذه الحدود ترده عنها وتمنعه أن يبلغها فضلا عن أن يجوزها، وهو يثور ويمور ويهيج ويموج ويرسل في الفضاء أصواتا منكرة، كأنما تتمزق عنها أمواجه تمزقا، ولكنه على ذلك لا يبلغ شيئا، ولا يستطيع أن يمس الأرض بأذى.
وهذه قطع السحاب تزدحم وتصطدم، وتحدث ما تحدث من بروق ورعود، وترسل ما ترسل من الصواعق المهلكة، ولكنها على ذلك لا تصيب أحدا بما يحب ولا تصيب أحدا بما يكره، وإنما هي تأتي ما تأتي من الأمر وتحدث ما تحدث من الهول كأنها تلعب فيما بينها تريد أن تظهر أهل الأرض على فنون من اللعب ليس لهم بها عهد من قبل.
وهذه الرياح تتناوح، منها ما يقبل ومنها ما يدبر، ومنها ما ييامن ومنها ما يشائم، ولها أحيانا هفيف كهفيف الأغصان، وأحيانا أخرى فحيح كفحيح الحيات، وأحيانا أخرى صفير مخيف، وأحيانا أخرى زئير مزعج، ولكنها على ذلك لا تصنع شيئا ولا تؤذي أحدا.
وهذه قطع من الجبال مختلفة ألوانها متباينة أحجامها، قد أقبلت من بعيد، كأنما قذفتها المجانيق تريد أن تدمر بها المدينة تدميرا، وهي تمضي في الفضاء مسرعة على ضخامتها كأنها السهام الرقاق حتى لا يشك من يراها في أنها تحمل الموت والدمار، وفي أن قطعة منها يكفي أن تهوي إلى الأرض فتسحقها سحقا، وتمحق ما عليها ومن عليها محقا، ولكنها على ذلك لا تكاد تدنو من المدينة حتى تجمد في مكانها من الجو كأنها قد شدت إلى السماء بأمراس الكتان كما يقول الشاعر القديم؛ فهي لا تقبل ولا تدبر ولا ترتفع ولا تنخفض، وإنما تظل معلقة مكانها كأن كل قطعة منها ظلة هائلة قد علقت في الجو لترد عن أهل الأرض حر الشمس.
وهذه الأرض تنشق عما أضمرت، وتنفجر فيها ينابيع من اللهب هنا ومن الماء هناك، وترتفع هذه الينابيع المحرقة وتلك الينابيع السائلة في السماء إلى حيث لا يستطيع البصر أن يتابعها في الارتفاع، وإنما يرتد عنها خاسئا وهو حسير، ولكنها على ذلك لا تحرق شيئا ولا تغرق شيئا؛ وإنما تمضي وتمضي في ارتفاعها، وتمضي وتمضي في اتساعها، ثم تتضاءل قليلا قليلا، وإذا هي تهبط ثم تهبط، وتضيق ثم تضيق حتى تعود هزيلة نحيلة إلى فوهتها التي خرجت منها، ثم تنضم عليها الأرض كأن لم تكن شيئا لتنشق عن مثلها في مكان آخر.
وعلى هذا النحو يضطرب الجو والبر والبحر أروع اضطراب وأشده هولا، دون أن يحدث عن ذلك ما يؤذي أو يسوء.
وهذه جماعات الرعية من الجن كان يملؤها الروع منذ حين فجعلت تملؤها الروعة الآن. كانت تجأر بالاستغاثة والضراعة آنفا، فهي تجأر بالرضا والإعجاب والافتتان الآن.
وهذا الملك ينظر إلى ابنته نظرات إن صورت شيئا فإنما تصور ذهول الحائر الواجم الذي عجزت نفسه عن التفكير وانعقد لسانه عن القول؛ فهو قائم مبهوت في مكانه ومن حوله وزراؤه في مثل حاله كأنهم التماثيل.
وهؤلاء قادة الجيش قد أقبلوا لا يدرون أيرضون أم يسخطون، فهم يرون ما يرون من الهول، ويحسون أنهم لا يلقون منه كيدا، وفيهم مع ذلك حماسة الجند المستبسلين؛ فكلهم كان يود لو يبلي بلاء ويسجل لنفسه بالانتصار أو الموت فخرا يتحدث به أعقابه بعد آلاف السنين، ولكنهم مع ذلك قد وجدوا أنفسهم وجنودهم عاجزين كل العجز عن أن يقدموا حين كان يجب الإقدام؛ يريدون أن يتقدموا إلى أمام فلا يجدون إلى ذلك سبيلا كأنهم قد ثبتوا في الأرض تثبيتا، فإذا أرادوا أن يتراجعوا إلى وراء وجدوا ذلك هينا ميسورا.
अज्ञात पृष्ठ