ومهما كان الوصف الذي سيلتصق بهذا الكتاب؛ سيرة ذاتية أم مذكرات أم تاريخ أسرة أم شيئا آخر، فإن ما حاولت أن أفعله هو كتابة سرد صادق لجزء محدد من حياتي. وعندما شردت بذهني استعنت بوكيلة أعمالي جين ديستل لإخلاصها وصلابتها، وبالمحرر هنري فيريس لتصحيحاته التي يقدمها بأسلوب لطيف لكن حازم، وبروث فيسيش وفريق العمل في شركة تايمز بوكس لحماسهم واهتمامهم بالاعتناء بالنص في مراحله المختلفة، وبأصدقائي، ولا سيما روبرت فيشر، لقراءتهم الكريمة للنص، وبزوجتي الرائعة ميشيل لخفة ظلها ورقتها وصراحتها وقدرتها على دفعي للأمام .
لكنني أدين بعميق الفضل لعائلتي، أمي وجدي وجدتي وإخوتي المنتشرين عبر المحيطات والقارات، وإليهم أهدي هذا الكتاب. فمن دون حبهم ودعمهم المستمرين، ومن دون استعدادهم لأن يتركوني أتحدث بلسانهم وتسامحهم مع ما أقع فيه من أخطاء بين الحين والآخر، لم يكن بإمكاني حتى أن آمل أن أنتهي من الكتاب. وأتمنى أن يسطع الحب والاحترام، إذا لم يكن شيء آخر، اللذان أشعر بهما تجاههم على كل صفحة من صفحات هذا الكتاب.
الجزء
الجذور
الفصل الأول
بعد بضعة أشهر من عيد ميلادي الحادي والعشرين، جاءني اتصال من شخص غريب ليبلغني الخبر. كنت أعيش في ذلك الوقت في نيويورك في شارع رقم 94 بين الجادتين الثانية والأولى، وهو جزء من ذلك الحد المتغير الذي لا يحمل اسما بين شرق هارلم وباقي مانهاتن. كان شكل المجمع السكني غير جذاب ويخلو من الأشجار والنباتات، تصطف على جانبيه مبان سكنية طلاؤها أسود وبلا مصاعد تلقي بظلال كئيبة معظم أوقات اليوم. كانت الشقة صغيرة وأرضيتها مائلة ودرجة حرارتها غير مستقرة ولها جرس كهربائي أسفل المبنى لا يعمل، ومن ثم كان على أي زائر أن يتصل قبل مجيئه من هاتف عمومي في محطة البنزين في زاوية الشارع، حيث كان يوجد كلب أسود من نوع دوبرمان في حجم الذئب يقطع المكان جيئة وذهابا طوال الليل في دورة حراسة يقظة، يقبض بأنيابه على زجاجة جعة فارغة.
لم أكن أهتم بذلك كثيرا؛ فلم أكن أستقبل الكثير من الزوار. في تلك الأيام كنت ضيق الصدر، مشغولا بالعمل وخطط لم تنفذ، وأميل إلى اعتبار الأشخاص الآخرين مصدرا لتشتيت الانتباه لا ضرورة له، وليس ذلك لأني لا أقدر الرفقة؛ فقد كنت أستمتع بتبادل الدعابات باللغة الإسبانية مع جيراني الذين كان أغلبهم من بورتوريكو، وفي طريق عودتي من المحاضرات كنت عادة أتوقف لأتحدث مع الصبية الذين كانوا يقضون وقتهم عند مدخل المبنى طوال فترة الصيف يتحدثون عن فريق نيكس لكرة السلة أو الطلقات النارية التي سمعوها الليلة السابقة. وعندما يكون الطقس جيدا يمكن أن أجلس أنا ورفيقي في الشقة على سلم الحريق ندخن السجائر ونتأمل الغسق وهو يغرق المدينة في الظلام، أو نشاهد البيض من المناطق السكنية الأفضل بالقرب منا يسيرون بكلابهم أسفل العمارة التي نقطن فيها ويتركون الحيوانات تتبرز على حافة رصيف الشارع، كان رفيقي يصرخ فيهم بغضب مؤثر: «تخلصوا من هذا البراز أيها الأوغاد!» وكنا نسخر من وجهي السيد الأبيض والحيوان وهما يتجهمان دون إبداء أية نية للاعتذار وينزلان على ركبتيهما للقيام بفعلتهما.
كنت أستمتع بتلك اللحظات، ولكن لوهلة قصيرة. فإذا بدأ الحديث يخرج عن مساره أو يعبر الحدود التي تفضي إلى الشعور بالألفة والحميمية، كنت سريعا ما أجد سببا للانصراف. فقد أصبحت أشعر براحة شديدة في عزلتي، فهي آمن مكان عرفته.
أتذكر رجلا عجوزا كان يعيش في الشقة المجاورة يشاركني نزعتي. كان ضامر الجسد منحني الظهر يعيش وحده، يرتدي في المناسبات القليلة التي يترك فيها شقته معطفا أسود ثقيلا وقبعة قبيحة الشكل. وبين الفينة والفينة كنت ألتقي به مصادفة وهو عائد من المتجر، وكنت أعرض عليه أن أحمل عنه البقالة في رحلة الصعود الطويلة على سلالم العمارة، فكان ينظر إلي ويهز كتفيه ونبدأ الصعود، وكنا نتوقف على كل بسطة كي يلتقط أنفاسه. وعندما نصل في النهاية إلى شقته أضع الحقائب بحرص على الأرض ويومئ لي شكرا قبل أن يجر قدميه إلى داخل شقته ويغلق مزلاج الباب. لم يدر بيننا أي حديث قط، ولم يقل لي قط كلمة شكر على صنيعي.
كان صمت الرجل العجوز يثير إعجابي فكنت أراه قريبا مني روحيا. وفيما بعد وجده رفيقي في الشقة ملقى على بسطة سلم الطابق الثالث وعيناه مفتوحتان عن آخرهما وأطرافه متيبسة ومتكورة كطفل صغير. تجمع الناس حوله، وحركت بعض النساء أيديهن بعلامة الصليب على أجسادهن وتهامس الأطفال الصغار فيما بينهم بانفعال. وفي النهاية وصل المسعفون ليأخذوا الجثة، ودخلت الشرطة إلى شقة العجوز. كانت الشقة مرتبة وخاوية تقريبا إلا من مقعد ومكتب وصورة باهتة - أعلى الحافة البارزة للمدفأة - لسيدة لها حاجبان كثان وابتسامة رقيقة. فتح أحدهم الثلاجة ووجد ما يقرب من 1000 دولار في عملات صغيرة مغلفة داخل أوراق جرائد قديمة وموضوعة بحرص خلف برطمانات المايونيز والمخلل.
अज्ञात पृष्ठ