وليست مهمة الأوصياء سن القوانين، وإنما هي اختراع نظم الحكم أو وضع الدساتير للمدينة، لضمان حرية الأفراد؛ فالحرية هي الهم الأول الذي يهتم له أفلاطون ويعدها أخطر ما ينبغي العناية به؛ فهو لذلك يوكل حراستها إلى الأوصياء الذين يجب عليهم اختراع الأنظمة التي تضمن عدم العبث بها. فالناس في مدينة أفلاطون يحكمون أنفسهم، وإنما يضع الأوصياء الدساتير لهم، سواء أكان ذلك لطبقة العمال أم لطبقة المقاتلة، فهم أشبه بالمشرفين منهم بالحكام، فإذا وجدوا أن الدستور الموضوع لطبقة العمال مثلا لا يفي بحاجتهم استبدلوا به غيره.
وهذه الأفكار هي أعقد ما في الجمهورية، فإن أفلاطون يعتقد أن وراء هذا الكون المحسوس أفكارا قد سبقته، وهي منه بمثابة الأصل والروح، وهذه الأفكار هي الشيء الثابت، بينما المحسوسات التي نحس بها هي الشيء الزائل، فأنا أكتب الآن مثلا بقلم محسوس، ولكن فكرة القلم قد سبقت مادة القلم والفكرة هي الثابتة، وأما العادة فهي الزائلة، ومن هنا اهتمام أفلاطون بالرياضيات؛ لأنها كلها أفكار. وهو يرى ضرورتها لكل من ينشد حكم الناس، ثم يخرج الطلبة بعد درس الأفكار إلى المجتمع، وعليهم أن يعيشوا كل منهم بمجهوده الفردي وكما يتيسر له، حتى إذا بلغ الخمسين عين وصيا للدولة.
ولكن كل هذا لا يقنع أفلاطون، فهو يقول بكل صراحة: «إن التربية يجب أن تبدأ قبل الولادة»؛ فلذلك يجب أن يكون الأبوان سليمين، ويجب على الرجل أن يتزوج بين الخامسة والعشرين والثلاثين، والولد النغل - أي: ثمرة الزنى - والولد المشوه كلاهما يجب قتلهما عقب ولادتهما. •••
وقد يرى القارئ أن أفلاطون قد استسلم للخيال في توهمه إلغاء الزواج والامتلاك في طبقتي المقاتلة والأوصياء، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن ينبغي أن نتذكر أن الرهبانية المسيحية - وخاصة نظام اليسوعيين منها - قد سار على نحو من هذا النظام؛ فالراهب لا يملك زوجة ولا شيئا آخر، ومع ذلك نجح هذا النظام، وإذا كان الإنسان قد استسهل إنكار الذات والتضحية بغرائزه الجنسية وغريزة التملك في سبيل الخدمة الدينية، فلم لا يستسهل ذلك في سبيل خدمة الإنسان؟ وإذا كان في الناس جماعات يرصدون حياتهم لخدمة الله، يحبسون أنفسهم في أديار لا يخرجون منها مدى حياتهم، يقضون أيامهم في الصلاة والتعبد، فلم لا يكون بينهم من يفعل ذلك في سبيل درس الحكمة وإيجاد النظم للحكومات وضمان الحرية للأفراد؟
فيجب ألا نتوهم أن أفلاطون قد استسلم للخيال كل الاستسلام، فهو يريد أن يكل حكم الناس إلى الفلسفة، وهو يرى - كما رأى بعده نبي الإسلام - أن الولد مجبنة ومبخلة لأبيه؛ فعمد إلى سبب ذلك فوجده في الزواج؛ فألغاه حرصا على أن يبقى الوصي أو المقاتل نزيها لا يعمل إلا لمصلحة مدينته، وقد ذكرنا الرهبان دليلا على إمكان نزول الطبيعة البشرية عن حق التمتع بالزواج والامتلاك، ونذكر جيش الإنكشارية عند الأتراك دليلا على أن الرباط العائلي يقلل من شجاعة الناس، فإن هذا الجيش كان يؤلف من صبيان النصارى الذين يؤسرون فينشئون وهم لا يعرفون لهم عائلة، فكان هذا من أسباب شجاعتهم واستماتتهم في القتال.
حلم توماس مور
بعد أن مات الإغريق ماتت الحرية الفكرية في جميع أنحاء العالم إلا بصيصا منها بقي عند العرب، يومض ويخبو تبعا للزمان والمكان، فقد كان الإغريقي جريئا يجازف في الخيال ولا يبالي بالآلهة أو بالناس؛ وذلك لأن الآلهة والناس كليهما لم يكن لهما ذلك السلطان الذي صار لهما فيما بعد، أي بعد ظهور المسيحية والأباطرة والملوك، فقد كانت الآلهة الإغريقية كثيرة العدد، كل منها مختص بعمل، فلم تكن له حرمة إله المسيحية أو إله الإسلام، أو ما لهما من السيادة الأتوقراطية، والعلم بكل شيء، وإملاء كل شيء على الناس، وكذلك لم يكن لهم ملوك مستبدون يمنعون الناس من التفكير في أشكال الحكومات وسياسة الدول وسن الشرائع.
لم يكن شيء من ذلك عند الإغريق، فكانت أفكارهم وهي تنطلق حرة تسبح أينما تشاء، وكان فلاسفتهم يكتبون في كل ما يعرض لهم بلا تحرج، لا يتورعون من دين ولا يخشون بأس ملك، ثم كانت المسيحية وإلهها قادر على كل شيء عارف بكل شيء، فخرج الملكوت من يد الإنسان إلى يد الله، ومن هذا العالم إلى العالم الآخر، فإذا كان «أفلاطون» قد وجد المجال واسعا لأن يتخيل ويحلم في إيجاد ملكوت أرضي، ينال فيه الناس السعادة والهناء، فإن المسيحية قد ضيقت هذا المجال؛ لأنها أوجدت من جنة النعيم في الآخرة بديلا من مثل هذه الأحلام، ولم تكن هذه الأرض في نظر المسيحية سوى دار بلاء وتجربة يعبرها الناس إلى جنة النعيم ، وهذا أيضا هو نظر الإسلام، ثم كان ملوك النصارى وخلفاء المسلمين عائقا آخر يمنع التخيل والبحث في المثل العليا للحكومات والهيئات الاجتماعية؛ لأن بحث هذه الموضوعات دليل السخط على النظم الموجودة التي لا يرضى ملك أو خليفة بانتقادها.
ثم كانت النهضة الأوروبية فعادت أوروبا إلى نفسها القديمة وأخذت تعنى بتاريخ الإغريق، فصارت تدرس ثقافتهم وتتمثله، حتى نزعت نزعة إغريقية جديدة، فصار علماؤها وفلاسفتها يتنبأون ويتخيلون ويحلمون.
وكان من هؤلاء الحالمين «توماس مور»
अज्ञात पृष्ठ