ولكن يبقي فرض آخر وهو: هل يرضى هذا الجيش على كترثه بأن يعين له رئيس وليس له صوت في تعيينه، وهل يعمل هذا الرئيس شيئا لزيادة رفاهية العمال وهو منتخب بهذه الكيفية؟
هناك شك في أنه يمكن إدارة جيش كامل أن تقوم بجميع الأعمال في أمة كبيرة تبلغ نحو مليون نفس؛ لأن هذه الاشتراكية الحكومية بعيدة عن أن تتحقق في جميع الصناعات، ولسنا في ذلك ننكر أن بعض الصناعات تنجح عن سبيل الاشتراكية الحكومية - بل الاشتراكية البيروقراطية - أكثر مما تنجح في يد الأفراد، كما نرى في السكك الحديدية المصرية، ولكن هناك من الصناعات ما لا يمكن أن تنجح إلا إذا عولج على مقاييس صغيرة، وفي إدارات محدودة المساحة، ولكل بقعة شخصية تظهر في صناعاتها، ولكل بيئة طابعها على الصانع الذي يمارس إحدى صناعاتها؛ فالاشتراكية الحكومية لا تنجح في كل صناعة؛ ولهذا نشأ بين الاشتراكيين الرأي القائل ب «الاشتراكية البلدية» التي تقوم البلديات فيها بما يقوم به الأفراد، مستقلة في ذلك عن الحكومة.
ولنلق نظرة الآن على الحياة الاجتماعية كما تخيلها بلامي، فنحن نجد في «طوباه» طائفة كبيرة جدا من المتقاعدين الذين يعيشون عيشة الترفيه، ويجوبون آفاق العالم بفضل المعاش الكبير الذي يتناولونه، أو يمارسون إحدى الصناعات التي يهوونها أو إحدى الرياضات، وهنا يعنى بلامي عناية كبيرة بالرياضة؛ إذ يقول: «إذا كان الخبز أول حاجات الحياة، فإن الرياضة هي الحاجة الثانية.»
ونجد طائفة كبيرة أخرى هي «جيش العمال» الذي يقضي فيه الفرد 24 عاما وهو مرغم على العمل إرغاما إذا تهاون فيه عوقب، وهذا في اعتقادنا ركن متداع من بناء الهيئة الاجتماعية عند بلامي، فإن المدة أطول من أن يتحملها إنسان بالرضى.
ولكل عائلة مسكنها، ولكنها في غنى عن الطبخ؛ لأن لكل طائفة أو جزء من حي من المدينة، مطعم كبير فيه غرفة خاصة بكل عائلة، وفي المنزل أداة التليفون التي لا تستعمل للتخاطب فقط، بل لسماع الأغاني؛ لأن لها بوقا يضخم الصوت فتقعد العائلة في ساعة معينة وتستمع لخطب الوعاظ والساسة وأناشيد المغنين، وقد لمح بلامي شيئا من الراديو الذي يستعمل الآن في كل مكان في أوروبا عندما خطر بباله هذا الخاطر.
ثلاثة من الإنجليز
كلنا يعرف ذلك الشاعر الألماني الجسم الفرنسي الذهن «هنريخ هينه» كيف حكى عن نفسه أنه بدأ بالتحمس للديمقراطية، واندفع للدفاع عنها، حتى إذا رأى أن الديمقراطية هي حكم الدهماء أو العامة عاد فانكف عن دفاعه وتقلص في نفسه واعتاض من حماسته السابقة فتورا أو خوفا.
ولقد كان القرن الماضي عصر ظهور الديمقراطيات، وهو أيضا عصر فشل هذه الديمقراطية، فقد كان الظن أولا أنه إذا صار الحكم للأمة انتفى الاستبداد وزال الظلم، ولكن ظهر من تجارب هذا القرن أن كثرة الأمة إذا استوفت تبعات الحكم لم تضطلع دائما بها؛ لهذا جنح أبناء القرن العشرين إلى التفكير في إيجاد «آلهة» للحكم، ولن تنزل هذه الآلهة من السماء، وإنما هي تستولد من الإنسان، على نحو ما حلم أفلاطون بإيجاد طبقة من الحكام تقف نفسها على النظر في مصالح المدينة دون أن تحتاج إلى المبالاة بمصالحها، ودون أن يكون لأفرادها عائلات أو عقارات تشغلهم.
وكما كان القرن الماضي عصر الجمهوريات، كان أيضا عصر ظهور نظرية التطور التي أخذت منذ منتصفه تملك على العقول مسالك التفكير، وتصبغ النظريات والأحلام والترسيمات العمرانية بصبغتها، وهذه النظرية تتلخص من الوجهة العمرانية في أنه يمكن أن يرتقي الإنسان حتى يصير إلها، أو سبرمانا، كما ارتقى الإنسان في الماضي من حيوانات أدنى منه، وهذه النظرية - من حيث عدد الداعين إليها، وإشراب النفوس بها - إنجليزية؛ ولذلك ليس ما يدعو إلى أن نستغرب أن ثلاثة من كبار مفكري الإنجليز قد حلموا بإيجاد انتخاب صناعي يؤدي إلى وجود طبقة راقية من الناس، ولا يكون رقيها مع ذلك رقيا في أحوال الوسط الذي تعيش فيه هذه الطبقة، بل يكون في أجسامها وأذهانها.
هكذا حلم «شو»، ولكننا سنضطر إلى تركه؛ لأنه لم يؤلف طوبى كاملة، وإنما ألقى جزافا عدة مقترحات، وهكذا حلم «ولز»
अज्ञात पृष्ठ