كررت تلك الصلوات مئات المرات، وما هي إلا ترانيم وأناشيد صوفية رائعة، حتى حفظتها عن ظهر لساني، ولا يزال جلها عالقا بذهني على بعد عهدي بها، وأشهد أنني ما برحت أهتز لسماعها، كما كان يرتاح الخليفة المنصور إلى الحداء أكثر من الرصد والبايات.
وفي 8 شباط سنة 1899 فرغنا من صلاة (النهار) وجلسنا على المصطبة الشرقية، فقص علي جدي نبأ مار مارون وتلاميذه الثلاثمائة والخمسين شهيدا، وكانت تنهداته متتابعة، حتى أجهش بالبكاء فخفت عليه، ثم ذكر رهبان دير (القطين) وهو كهف عظيم قبالة قريتنا عين كفاع، لا تزال آثاره ماثلة وإن أقوت وطال عليها سالف الأمد.
وبعدما حشا ذاكرتي بقصص أولئك النساك الحبساء نهض قائلا: الحقني يا صبي.
ومشى ومشيت وراءه وانقطع الكلام، وشرع يصلي في طريقه إلى الهيكل، تارة يهمس، وحينا يهمر، وإن حياه أحد رد التحية بإيماءة كالومضة، زاويا ما بين عينيه كخلقته، وما بلغ الكنيسة حتى رأى أخاه بالرب الخوري يوحنا الحداد في ساحتها فسلما (بالمجد لله)، تحية القدماء، وجلسنا على مقعد حجري، ودار حديث قصير، فاستكبرا أمر القيظ نذير المحل والقحط والجراد، وعزا الكاهنان انحباس المطر إلى خطايا البشر الكثيرة، ورأيا أن هذا (الغضب) لا يرفعه عن الأرض إلا الصلاة والزياحات، فعزما على إقامة زياح حافل لصورة مار مارون استسقاء للمطر.
ثم قرأ جدي فصلا من (مرشد الكاهن)، وقرأت لهما فصلا من كتاب الاقتداء بالمسيح، ثم استأنفا الحديث، فذكرا ثالثهما الخوري موسى - جدي لأمي - الذي مات منذ أشهر، فقص جدي على الخوري حنا حلما أذكر منه أنه رأى أخاه الخوري موسى يقيم قداسا (كبيرا) في برية واسعة، وحوله جمع غفير من أحياء وأموات يعرفهم جدي. وبعد التأويل والتعبير ربح الميت قداسا وجنازا أقاماه له في الغد.
وانفض مجلسهما ودخلا الهيكل، فقرعا الجرس، وزينا البيعة، وأسرجا قناديلها، ثم تحولا إلى (القراية) فنبشا الصلوات الخاصة بمار مارون في الشحيم والسنكسنار والريش قريان، وأعلما عليها جميعا.
وقرع الجرس ثانية، وما أمسينا حتى دق به ثالثة، فأقبل كل جمهور الضيعة وقامت الصلاة، وامتلأت الكنيسة رنينا وهزيزا، ثم تليت على الملأ سيرة أبيهم القديس مارون، وما قاسى من الشياطين التي كانت تجربه، فانفجرت الصدور تنهدا، ولما نال إكليل السعادة الأبدية فارقتهم النوبة وابتهجوا.
وكان الكاهنان يرصدان القارئين حتى إذا بدرت من أحدهم غلطة أخذوه بها وصلحوا خطأه بنبرة عنيفة، وكان جدي أكثر تحديا للشمامسة، وكثيرا ما كانوا يكرهون معاونته ويهربون منها. ولكنه لم يلن لهم ومات لا يعرف الهوادة، كأنما كان يعتقد أن الغلطة تفسد الصلاة، فما كان يحابي أحدا حتى الكهنة.
ولما انحلت الصلاة قال للشعب قبل منحهم البركة: غدا نقيم قداسا وزياحا كبيرين، فعلى الجميع أن يعترفوا ويتناولوا ليربحوا الغفران الكامل الممنوح من سيدنا البابا لعيد مار مارون بشرط زيارة الكنيسة الخورنية والصلاة لأجل ارتفاع شأن الكنيسة البطرسية. •••
ومع الصبح سمعت جدي يقول لأبي: ما أفاق مارون.
अज्ञात पृष्ठ