أعود فارغ اليدين كما سافرت فارغ اليدين، والغريب أني لا أحس حزنا ولا ألما ولا أسفا، ولا ألوم نفسي على شيء، ولا أكره ما قد يتحدث به إلي الشيطان من أني قد أضعت الوقت في هذه الأشهر الطوال.
ذلك أن إضاعة الوقت شيء إضافي يختلف باختلاف الظروف وباختلاف التقدير، فلعلي أضعت الوقت بالقياس إلى الصحف التي كانت تريدني على أن أكتب لها الرسائل، وبالقياس إلى الناشرين الذين كانوا يريدونني على أن أتم لهم كتابا، أو أبدأ لهم كتابا، وبالقياس إلى بعض القراء القليلين الذين كانوا يحبون أن يقرءوني من حين إلى حين.
لعلي قد أضعت الوقت بالقياس إلى هؤلاء، ولكني واثق بأني لم أضع الوقت بالقياس إلى نفسي، فقد حييت في هذه الأشهر الحياة التي أرضاها: حياة الراحة النقية والقراءة الخصبة المتصلة المختلفة، ولو أني خيرت لما عدلت بهذه الحياة حياة أخرى، مهما تكن ظروفها، ومهما تكن ألوان الإغراء بها والترغيب فيها، بل من يدري؟ لعلي لم أضع الوقت على هؤلاء، فقد أنفقت أربعة أعوام لا تكاد تنقطع فيها كتابتي إلى الصحف وأحاديثي إلى القراء، فمن يدري؟ لعل الصحف كانت في حاجة إلى أن أريحها، ولعل القراء كانوا في حاجة إلى أن أرفه عليهم، فقد يكون من حق الكاتب نفسه أن يستريح، ولكن من حق الكاتب على نفسه أن يريح أيضا، وقد أرحت القراء وأرحت نفسي أشهرا من هذه الثرثرة المتصلة الفارغة، ولكن الصيف قد انقضى مع الأسف الشديد وعدت إلى مصر مع العائدين، واستأنفت العمل مع المستأنفين، ولا بد من استئناف الكتابة والحديث فيما أستأنف من الأعمال.
ولست أدري أيستقبل القراء كتابتي وأحاديثي باسمين راضين، أم مبتسمين ساخرين، أم عابسين ساخطين؟ أما أنا فأعلم حق العلم أني لا أستقبل الكتابة باسما ولا راضيا، وأني قد أكتب ساخرا من نفسي ومما أكتب، وقد أكتب خطا على نفسي وعلى ما أكتب، ولو خيرت لما اخترت كتابة ولا حديثا، ولكن من للكاتب بهذه الحياة التي لا يكتب فيها، فهو مدفوع إلى الكتابة بطبعه، فإن أدركه الملل أو التقصير أو القصور، دفعه الذين يريدون الكتابة إلى أن يكتب، دفعه أصحاب الصحف الذين يريدون أن يملئوا صحفهم ، والناشرون الذين يريدون أن يملئوا مكاتبهم، والقراء الذين يريدون أن يملئوا أوقات الفراغ، وما أكثر أوقات الفراغ في مصر! وما أطولها على المصريين!
وقد تسألني لم أكره الكتابة أو أضيق بها؟ ولم أزهد في الحديث أو أنفر منه؟ فانظر حولك تجد الجواب؛ فليس مما يرضي ولا مما يلذ أن تكتب فإذا أنت مضطر إلى النقد المتصل واللوم المستمر، وأن تتحدث فإذا أنت مكره على أن تسجل في حديثك ما يحزنك أو يسوء، فقد يجد الإنسان في النقد لذة أحيانا، ولكن النقد إذا اتصل ثقل على الناقدين أنفسهم، فكيف إذا لم يجد منه الكاتب بدا، ولم يجد عنه منصرفا؟! ولست أدري في حقيقة الأمر كيف يستطيع الكاتب الأمين أن يكتب فيرضى ويرضي القراء، وكيف يستطيع المتحدث النزيه أن يتحدث فيرضى ويرضي المستمعين له، وليس في مصر ما يرضي أحدا، وليس بين المصريين من يرضى عن شيء، وإنما كل شيء في مصر يحزن ويسوء، وكل إنسان من المصريين ساخط محزون.
ما أعظم الفرق بين تلك الربى الباسمة المشرقة التي قضيت فيها الصيف، وبين هذه الوهاد العابسة المظلمة التي أستقبل فيها الشتاء! ومع ذلك فما زالت سماء مصر مشرقة ونجومها متألقة، وما زال جوها صحوا وماؤها صفوا، وما زال النيل يشق طريقه فيها، يحمل إليها الخصب والأمن والدعة والخلود، ولكن اعتدال الطبيعة وحدها ليس يكفي فيما يظهر لاستقامة الأمور، واعتدال الحياة، وإنما يجب مع ذلك أن تعتدل أمزجة الناس وتستقيم أخلاقهم، وما أبعد الأمل بيننا وبين اعتدال الأمزجة واستقامة الأخلاق! فإلى أن يتم الوفاق بين الطبيعة المصرية والشعب المصري، وإلى أن يعتدل الناس كما اعتدلت الطبيعة، لا بد للمصري المستنير الذي يحسن الحس والشعور والتقدير من أن يألم ويحتمل المكروه ويستقبل الصبح إذا أصبح والليل إذا جن بكذب الأماني وخيبة الآمال، وهو قد يعلن ألمه هذا من حين إلى حين فيكون ناقدا، ولكنه إذا أعلن ألمه هذا إعلانا متصلا كان شاكيا، وقليل من الناس يحب أن يشكو، وقليل منهم يحب أن يسمع الشكاة .
لا تستكثر إذن على الكاتب المصري أن ينفق الصيف من حين إلى حين على ربوة باسمة، وأن ينصرف عن النقد والشكوى إلى الامتزاج بالطبيعة وتنقية نفسه من أوضار الحياة.
نوفمبر 1935
بين كأسين
مدت إلى القدح يدا مترددة فتناولته على كره، ورفعته في بطء، ثم لم تبلغ به فمها الصغير، وإنما أمسكته في الفضاء لحظة كأنما كانت تدعو ما بقي لها من قوة وتجمع ما ند عنها من صواب.
अज्ञात पृष्ठ