وقد أدار الكتاب على الحوار بين إنسان فنان وإنسان يدين بالأخلاق، وكان كركجرد نفسه مزيجا من الإنسانين؛ لأنه كان مطبوعا على التدين، مطبوعا على تذوق الفن والجمال، وقد جعل الفنان في كتابه مثلا للحيرة المضللة، وجعل المتدين مثلا للطمأنينة الوادعة وهي - من العجب - طمأنينة الأسرة والزواج!
واختار كركجرد وجوده، فاختار أن يعيش على سنة السيد المسيح في هذه الدنيا التي لا تجتمع فيها القداسة والوجاهة، واتخذ شعاره أن لا يخدم سيدين، فإن السيد المسيح قد خلص من تبعات الأسرة والوطن والعرف الشائع، وكان قدوة لمن يخدم سيدا واحدا لا يدين بسواه.
وكانت أطوار الفيلسوف غريبة وأسلوبه في الكتابة أغرب، فقد يصدر له كتابان في وقت واحد أحدهما بتوقيع صريح والآخر بتوقيع مستعار، وقد يؤلف كتابا كله مقدمات وليس فيه غير المقدمات موضوع، وقد يستخدم عبارة الوعاظ تارة ويستخدم عبارة الملغزين المتصوفين تارة أخرى، ويبدو في جميع ذلك صادقا لطبيعة واحدة: وهي طبيعة الإيمان.
وكان مذهب «هيجل» الفيلسوف الألماني الكبير هو البدعة الفلسفية الشائعة في شباب كركجرد، وخلاصة هذا المذهب أن الكون كله هو مرآة «الكائن الأبدي المطلق». وأن هذا الكائن الأبدي المطلق تجلى في الموجودات جميعا وبلغ أقصى مراتب التجلي وعرفان الذات في الإنسان، فالإنسان إذن هو صورة العقل الإلهي في أرفع مظاهر الوجود.
ولم يتعرض مذهب هيجل هذا لحملة قط أعنف من حملات كركجرد عليه؛ لأنه يرتفع بالصورة الإلهية عن هذه الصورة الإنسانية، ويؤمن بأن الوجود الإنساني على عكس ذلك هو الذي يتسامى إلى عرش الله، فلا يسمو إلى مرتبة أعلى وأشرف من أن يحب الله ويشعر بحب الله إياه، وكل إنسان محبوب من الله في اعتقاد كركجرد، ولكن الفرق بين إنسان وإنسان هو الفرق بين من يشعر بهذا الحب الإلهي ومن لا يشعر به، لأنه مستغرق في ألوان أخرى من الحب أو من العلاقة: كعلاقة الطمع أو كعلاقة الهوى أو علاقات الأزواج والأبناء.
وغني عن القول أن كركجرد يتدين على سنة في الدين غير سنة العرف المتفق عليه بين سواد الناس، لأنه يؤمن بأن حق الفرد في اختيار عقيدته أعظم من حق الكنيسة وحق الجماعة، ويؤمن كما قدمنا بأن وجود الفرد وحدة غير قابلة للتكرار، وكل ما يستطيعه المؤمن للمؤمن أن يريه بالمثل المحسوس أن باب الاختيار مفتوح، وأنه إما أن يختار وجوده بإلهام ضميره أو يضيع.
والذي نراه أن مكان كركجرد بين كبار المتعبدين وذوي الشاعرية أصح وأوفق من مكانه بين كبار الفلاسفة، لأنه كان حساسا ثاقب الذكاء عميق الوجدان، ولم يكن من أصحاب العارضة القوية والفكر الواسع المحيط بآفاق القضايا العظمى.
فلا جرم كان يفصل بين العقيدة والمعرفة، ويباعد بين عالم الفكر وعالم الحقيقة، ويعتبر التعمق في الوجود ممكنا بغير التعمق في الوعي المفكر والمنطق السديد. •••
على أن الوجودية قد بدأت بكركجرد ولكنها لم تنته بالخاتمة التي وقف عندها واستقر عليها في حياته القصيرة.
فإن هذا المذهب قد سرى إلى البلاد الألمانية وتجدد نشاطه في أعقاب الحرب الأولى على أثر الهزيمة التي مني بها الألمان، وجنحت ببعضهم إلى العقائد المادية، وببعضهم إلى التنفيس عن ضمائرهم بنزعة من النزعات الروحية أو الوجدانية. واشتهر من فلاسفة المذهب أعلام نابهون مثل كرل جسبرز
अज्ञात पृष्ठ