إن اسم الدجال هو الاسم الوحيد الذي ينطبق على من يتعاطى الطب على هذه الوتيرة، ولكن هؤلاء الماركسيين أو الشيوعيين، ينكرون أنهم دجالون، ويؤكدون للناس أنهم هم الأطباء النطاسيون، ووصفتهم مع هذا - وصفة واحدة للصين والهند، وللعراق ومصر، ولروسيا وفرنسا، وللجزر البريطانية والولايات الأمريكية - معجزة لا معجزة مثلها في خرافات الأولين والآخرين، تشفي من الحمى والجذام، وتشفي من السل والزكام، وتشفي من الهيضة والطاعون، وتشفي من العته والجنون، وتشفي من الكسور والجراح، ومن العجز والكساح، ومن الورم والسرطان، وتصلح لكل إنسان، في كل أمة وفي كل مكان.
وآفة هذا المذهب الخبيث أنه يعطل الإصلاح، ويضلل عن طريق الصلاح، فلا يعالج الأمم من دائها، ولا يتركها تلتمس دواءها من تجاربها ومحاولاتها، ولا سبيل إلى تقدم أمة بغير هذه التجارب والمحاولات.
ولقد ظهرت عواقب هذا البلاء، وتزداد ظهورا مع الأيام والأعوام، ولكننا نتمثلها، ونتمثل مبلغها من الضرر الوخيم إذا رجعنا مع الزمن، وقدرنا أن هذه الدعوة الماركسية قد شاعت قبل خمسين سنة، أو قبل مائة سنة، فماذا تكون العاقبة اليوم؟ وأين تذهب الجهود التي أثمرت ثمراتها في هذه السنين؟ أين كانت تذهب اليقظة التي تيقظتها الصين؟ وأين كانت تذهب نهضة الحرية في الهند، وأين كانت تذهب حركات الاستقلال في أقطار المشرق والمغرب؟ وأين كانت تذهب العلوم والصناعات التي أسفرت عنها دعوات الإصلاح، كما تنوعت بين أنواع الأمم والأقوام؟
لو قال قائل للأمم قبل خمسين سنة: إن الإصلاح كله عبث ضائع، وإن الدواء كله هو الثورة العالمية التي يبشر بها الماركسيون، فأي خسارة كانت تحيق بالأمم، وأي ضياع للجهود كانت تبتلى به لو سمعت منهم ذلك النعيب، وانطلقت معهم في الهدم والتخريب؟
لا فرق بين كثير من الأمم في وقتنا هذا، وبين كثير من الأمم كما كانت قبل خمسين سنة، ولا تزال هذه الأمم في حاجة إلى التقدم بوسائلها، التي لا تتشابه بين أمة وأمة، ولا يتأتى الاعتماد فيها على شيء غير تراث الأمة في ماضيها وتجاربها في حاضرها، فإذا ابتليت إحداها بدعوة الشيوعية فسوف تعوقها خمسين سنة عن طريقها ثم تعود بعد زوال الغاشية إلى نفسها لتستأنف جهودها في طريق تعترضه الخرائب والإطلال.
وكما تعوق الماركسية إصلاح الشعوب، تتسرب إلى ضمائر الأفراد؛ فتعوق إصلاحهم، وتصرفهم حتى عن محاولة الإصلاح بالوسيلة التي تم بها كل إصلاح، وهي وسيلة الندم، ومحاسبة النفس، وعرفان الخطأ، والعمل على اجتنابه، والخلاص من جرائره ومغرياته ودواعيه.
فمن قديم الزمن، لم يعرف الإنسان سبيلا إلى إصلاح عيوبه غير محاسبة النفس، والعودة عليها باللائمة في حالة التقصير، فيندم المخطئ على خطئه، ويجتهد العاجز في استدراك نقصه، والأخلاق كلها تقوم على شعور الإنسان بمسئوليته أو إيمانه بأنه مكلف مسئول عن عمله.
أما الماركسية فهي تهدم هذا الأساس الذي لا قوام للأخلاق بغيره. وتقول للمذنبين والمقصرين إنكم جميعا أبرياء من التهمة، منزهون من الوصمة، لأن اللوم كله على المجتمع في عجز العاجز، وفساد الفاسد، وإجرام المجرم، وتقصير المقصر؛ فليس على اللص أن يعف عن مال غيره؛ لأن المجتمع كله قائم على السرقة والاستغلال، وليس العجز من عيوب الإنسان؛ لأن القادرين في المجتمع هم المتغلبون بالقوة، والفائزون بغير استحقاق، وليس الكذب عيبا، ما دامت العلاقات الاجتماعية قائمة على النفاق والاختلاق، وليست الفحشاء عارا؛ لأنها نتيجة محتومة لنظام العائلة والزواج، كلما شاعت آداب رأس المال، وليس السقوط في مراتب الاجتماع نقصا يلام عليه الساقط؛ لأن المزايا الاجتماعية غش وخداع واختلاس، وهذا وأشباهه هو الذي يقال للعجزة والساقطين، فيصرفهم عن الاجتهاد في إصلاح نفوسهم، ويفعل في ضمائرهم فعل المسكرات والسموم.
وإذا فرضنا نجاح الشيوعية يوما، فإن مقاييس الأخلاق بعد نجاحها أهبط وأدنأ من مقاييسها في إبان نشر الدعوة إليها؛ لأنها لا تعلم الناس أن يمتنعوا عن السرقة؛ عفة وأنفة من خستها، ولا تعلمهم أن يمتنعوا عن الظلم برا بالضعيف وإيمانا بمبادئ العدل والكرامة، ولا تعلمهم أن يمتنعوا عن الفساد؛ صيانة للأعراض وغيرة على الأنساب. كلا، إنها لا تعلم الناس الفضيلة بل تصور لهم المجتمع الشيوعي كأنه عالم يمتنع فيه السرقة؛ لامتناع وسائلها وعجز الناس عن ارتكابها، ويمتنع فيه الظلم لامتناع الاستغلال، وامتناع التسلط الذي ينشأ من الاستغلال، ويمتنع فيه الفساد؛ لأن المباح والمحرم يستويان في الأنظمة الشيوعية، فكل ما عند المجتمع الشيوعي من وعود الإصلاح هو تجريد اللص من السلاح، وإخلاء الصندوق من المال المطموع فيه، ولن يقوم مجتمع قط على هذه الخلائق السلبية التي لا تعترف بقوة الضمير، فليس فيه فضيلة، إلا وهي في حقيقتها رذيلة موقوفة التنفيذ.
وصلاح العقل مهدد في النظام الشيوعي كصلاح الأخلاق، لأن المطلوب فيه من العلم أن يوافق المبادئ الشيوعية، وليس المطلوب فيه من المبادئ الشيوعية أن توافق العلم، أو توافق المنطق المعترف به بين جميع الناس. وعندهم أن العلم ينبغي أن يكون علما شيوعيا، خاضعا لتفكير ماركس ولنين وستالين، وكلامهم عن ذلك صريح يعلنونه في الخطب، وينشرونه في الكتب. ومنه كلام الأستاذ فافيلوف
अज्ञात पृष्ठ