إن سبب هذا كله في رأس الإنسان وبين جوانحه، وليس مرجعه إلى حديدة كبيرة هنا، أو حديدة صغيرة هناك، أو إلى مطبعة تخرج مليونا في الساعة، ومطبعة لا تخرج غير الألوف في الساعات والأيام.
ولقد كانت المطبعة حقا «نقطة تحول» في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكن الإنسان هو الذي تحول؛ فحولها، وهو الذي طلب الكتاب؛ فأوجد الأداة التي تعطيه الكتاب.
وإذا كان في هذا العالم أناس ينظرون إلى العقول وهي تزدهر، وإلى النفوس وهي تتوثب، فلا يستريحون حتى يردوا ذلك كله إلى رطل من الحديد، أو حفنة من الملح المسحوق، فمن حقنا نحن أن لا نستريح كلما رأينا أداة تصنع الأعاجيب وتزودنا بسلاح المعرفة أو سلاح القوة، إلا أن نشير من وراء ذلك إلى النفس المتوثبة، والعقل الخالد والقريحة المنجبة لنا ما نريد.
قدوة غير صالحة
تعود بعض الناس أن يعطلوا عقولهم عند وزن الكلام الذي يعرض عليهم، فهم لا يزنونه بميزان النقد والعلم والخبرة الصادقة، ولكنهم يتركون حقائق الأقوال، ويغترون بمظاهر القائلين. فإن كان قائل الكلام غنيا، أو وجيها، أو صاحب نفوذ فكلامه صادق وبليغ ومقبول، وإن لم يكن كذلك فحكمته جهالة، وصدقه كذب، وإخلاصه مشكوك فيه.
لهذا جاء في المثل السائر: «انظر إلى ما قيل، لا إلى من قال.» وهي نصيحة رشيدة، إذا كان الغرض منها أن نهتم بحقائق الأقوال، ولا نجعل اهتمامنا كله مقصورا على مظاهر القائلين.
إلا أن تمحيص الكلام لا يغنينا عن تمحيص المتكلم في كثير من الأحوال، ولهذا يهتم الناس دائما بتراجم العظماء، وسير البلغاء، ليعرفوا موضع الثقة، ويتبينوا الفرق بين المخلصين وغير المخلصين في الهداية ودعوات الإصلاح. وقد أشرنا إلى ذلك في مقام آخر فقلنا: «إن الكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها.» وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أعج
ب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من السخط على الحياة. فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من أمور عرضية لا تكفي للحكم على ماهية الحياة. وقد يقول أحدهم إن الدنيا كلها شر وظلم؛ لأنه كان يطمع في عشرين قرشا، فلم يصل إلى أكثر من عشرة قروش.
अज्ञात पृष्ठ