विचार और पुरुष: पश्चिमी विचारधारा की कहानी
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
शैलियों
وأحب بعد ذلك أن أدله على أن العدالة هي أهم المهام التي ينبغي أن يشغل الأمير بها نفسه. ولضمان الحفاظ عليها ينبغي له أن يختار لمناصبها أكثر الناس حكمة وتجربة. أولئك الذين يتميزون ببعد النظر الصحيح المصحوب بحب الخير؛ لأن بعد النظر إذا لم يصطحب بالخير لم يكن من بعد النظر في شيء، وإنما يكون دهاء أو مكرا. وإذا انعدم هذا الخير فإن مهارة المدعي وحذقه في التعبير لا يؤديان دائما إلا إلى تدمير القانون والعدالة وهدمهما. وعندئذ يقع وزن أخطاء القضاة على الرجل الذي وضعهم في منصب القضاء.
وأحب أيضا أن أعلمه كيف أن العدالة تولد كذلك تلك التقوى لله التي هي من واجب الناس أجمعين، والأمراء منهم خاصة، الذين ينبغي لهم أن يحبوه أكثر من أي شيء آخر، وأن يوجهوا كل أعمالهم نحوه كما يوجهونها نحو الغاية الصحيحة، وأن يكرموه ويحبوه دائما، كما قال زنيفون، وبخاصة في رخاء، حتى يكون من المعقول أن تنشأ في نفوسهم الثقة فيما بعد وهم يسألونه الرحمة عندما تلم بهم النوائب.»
وليس المزج بين آراء زنيفون وإله المسيحيين غريبا عن صفاتهم بتاتا؛ فالنغمة السائدة هي نغمة الأفلاطونية، وقد خففت حتى يمكن أن تستخدمها الطبقة العليا - ومن يحذو حذوها ممن يهمه أن يأخذ قواعد التهذيب عن الإنسانية الجديدة.
و«الفضيلة» يمكن من الناحية العملية أن تعني القيام بعمل، أيا كان، بطريقة أفضل من طريقة أي فرد آخر. والمهارات التي تقدرها الفضيلة هي مهارات البطولة، وضرب الأرقام القياسية، وربما كان الإنسان بغريزة من غرائزه ضاربا للرقم القياسي، وإنما الأمر يتوقف إلى حد كبير على أي ميدان من الميادين يريد أن يضرب فيه الرقم القياسي. وقد كانت النهضة في ذلك فوضوية كما كانت في الأوجه الأخرى. ومن الحق أن النهضة لم تكن جوا ملائما لضرب الرقم القياسي في التزهد. ولم يكن الصوم، وقمصان الشعر، والنسك، من الأساليب المألوفة. وكل أمر فيما خلا ذلك جائز. ويعد دون جوان - الذي عرف بغزوه لألف وثلاث سيدات في إسبانيا وحدها - أقرب إلى تقاليد النهضة في ضرب الأرقام القياسية.
ومن الواضح أن دون جوان في ضربه للرقم القياسي لم يكن سعيدا كل السعادة. وحتى في الأسطورة كما تروى بالصيغة الإسبانية الجديدة نجد دون جوان رجلا بائسا يدفعه إلى الوقوع في حبائل معشوقاته العديدات حافز شيطاني ليس هو ذلك الذي تسميه هوليوود - كما يسميه أكثرنا - بالجنس. والواقع أن دون جوان أخ لشخصية أسطورية أخرى، أصبحت بحلول النهضة شخصية أدبية - هي شخصية فاوست، كلاهما يريد شيئا فيه مبالغة، بل إن إرادتهما ذاتها كانت تتسم بالمبالغة، ولكنهما لا يستطيعان أن يشبعا حاجاتهما التي لا تنتهي بالطريقة التي قدمتها تقاليد المسيحية من قديم في صورها المختلفة العديدة من الانتماء الصوفي إلى العالم الآخر. إنما كانا يريدان أن يشبعا حاجاتهما ماديا، في هذه الدنيا وفي هذا الزمان، كما كان يريد غيرهما من الناس. غير أن حاجاتهما لم تكن حاجات غيرهما من الناس، بل إنه لمما يشعرهما بالخجل أن تكون مزاياهما في الجسد والروح من القلة بحيث يمكن سدها. كانا يسعيان في قلق شديد إلى شيء لا نهائي يجده أمثال شبنجلر في أهل الشمال، في الرجل الفاوستي. ولكنهما كانا يمثلان النزعة الإنسانية تمثيلا صادقا؛ فكانا يريدان كل ذلك عن طريق غير طريق الله، وغير طريق التأمل، أو النرفانا، أو أية طريقة صوفية من طرق إنكار الذات.
وهذا الإحساس بتجاوز الحدود ، كانوا لا يستشعرونه في الحياة الواقعية إلا بمحاولة ضرب الرقم القياسي، وبهذا الاندفاع المقصود نحو المبالغة في الصفة التي أسميناها الخصب. وفي الفنون الجميلة كان هذا السعي نحو تحقيق المبالغة يتقيد بدرجة من الاحترام كان الكل يحسها إزاء إنتاج الإغريق والرومان؛ فكان فنان النهضة لا يزال يشغل عقله وهو يصور الأمور الطبيعية الواقعية في هذه الدنيا بمشكلات لا تجعله يحس الحاجة إلى أن يكون حوشيا، أو تجريديا، أو غير مفهوم، إنه يستطيع أن يقوم بأعمال «كبرى»، كما كان ميخائيل أنجلو. ومهما يبلغ إعجابك بميخائيل أنجلو فلا مناص لك من الاعتراف بأن في أعماله - صورة داود وصورة الإله وآدم وحواء في كنيسة سيستس - شعورا بالجهد، وبالنضال البطولي لبلوغ البطولة والقوى الخارقة. والواقع أن مجرد وضع الإله - الإله القوي صاحب الجلالة، ولكنه إله لا يخلو البتة مع ذلك من صفات «الفضيلة» - في صورة بسقف الكنيسة كان مثالا لما يمكن أن يقوم الإنسانيون ذوو العقول الخصبة بعمله؛ كما كان يلائم عقول البابوات ذوي النزعات الإنسانية. ولم يكن ذلك لأن العصور الوسطى - وهي في أوجها - كانت موسوسة في زيادة تقريب الله من الناس بتصويره أو نحته؛ ففي «يوم الحساب»، وكان من الموضوعات التي يؤثرها النحاتون في أوائل العصور الوسطى خاصة، كان لا بد من ظهور الله في الصورة، ولكنه لم يبد قط في صورة الفارس الكامل. وفي أواخر العصور الوسطى كان هناك ميل إلى حصر التمثيل المادي في يسوع، والعذراء، والقديسين، كأن الله لم يكن في الواقع من نوع الإنسان.
وتتضح هذه الصفة من صفات النهضة - صفة السعي إلى تحقيق الفذ، والمبالغة، والعظمة - بصورة جلية في الكتابة بكل ضروبها - حتى في أعمال الباحثين. وقد ذكرنا من قبل أساليب التلطف في التعبير والمقابلة. والواقع أنه ليس من بين الكتاب من لم يجتهد في مرحلة من مراحل حياته الأدبية في أن يكون نفسه، حتى يمسي نفيسا، صعب المنال، كثير التشبيهات والصور الخيالية. ويصادفنا أحيانا تكدس للتفصيلات العلمية، والحكايات القديمة الغريبة، وغرائب التجارب بجميع صنوفها، بدرجة لا يصدقها العقل، كما نجد عند رابليه. ولما جاء الكتاب الفرنسيون المتأخرون الذين ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية المقتصدة، وأذهلهم هذا الخصب وعدم التقيد بالشكل عند رابليه، عدوه «غوطيا»، في حين أنه بالطبع لم يكن. إنما كان مجرد إنساني خصب الذهن، متحررا إلى أقصى حد، لو أنه عاش في القرن الثالث عشر لما ارتاحت نفسه كرجل من رجال الفكر (ولو عاش في القرن الثالث عشر لما اشتغل بالكتابة، وإنما مارس بكل قلبه وقدرته مهنته الطبية، لا يزعجه - بغير وجه حق - ما هو عليه من جهل). وأحيانا تظهر هذه الصفة في أسلوب نثري، ولو أنها بدت في أي عصر آخر لكانت صفة مصطنعة لا تستساغ، كما نجد في «دفن الرماد» لسير توماس براون. وقد تقول إن ذلك من أثر الأسلوب اللاتيني البائد عندما بلغ أوجه في تكلف المعنى وأناقة اللفظ على يد شيشرون. ولكنه الأسلوب الذي كان هؤلاء الكتاب يرونه ملائما، وهو شيء كانوا يسعون إليه عن قصد وعمد. وكان الكاتب في عهد النهضة لا يعرف كيف يقف. وقد يكون هذا عيبا في كل عصر من العصور الأدبية، ولكنه كان في تلك الأيام شائعا بصفة خاصة، ولا يصدق هذا على الكتاب الأوائل ذوي العقول الخصبة من أمثال رابليه وحدهم، وإنما هي صفة نلمسها كذلك عند الكتاب المتأخرين، ومن بينهم الشاعر الإنجليزي سبنسر، الذي ينظم «الملكة الحسناء» في ثمانين فصلا، ولا تنتهي بذلك القصيدة.
وأخيرا أحب أن أنوه إلى أن صفة المبالغة هذه تظهر في عمل رجل عاش بعدما اندثرت مزايا النهضة بوقت طويل، ذلك هو توماس ولف الذي أضفى عليه كل النقاد الأمريكان في فترة ما صفة «النهضة» وهو روائي من كارولينا الشمالية، مات في عام 1938م. ولم يتجاوز النقاد حدود الصواب، ولم تكن لهم مندوحة عن استخدام وصف «النهضة»؛ ذلك أن رغبات ولف كانت كلها شهوات، وكل شهواته عارمة. وهو يروي في قصته «الزمان والنهر» كيف - وهو طالب في هارفارد - اتصل بالمكتبة اتصالا قويا، وكانت تحوي حتى في ذلك الحين نحوا من مليونين أو ثلاثة ملايين مجلد، وشرع يقرؤها جميعا، صاعدا وهابطا بين رفوف المكتبة، ليسحب هذا الكتاب أو ذاك. وفي لحظة عظيمة من لحظات تركيز الذهن، يسجل مضمونه في زاوية من زوايا عقله، ويضمه إلى محصوله. وقصر كثيرا حتى عن أن يتم المليون الأول، غير أن هذا لا يعني إلا أن النهضة لا يمكن أن تعود، وليس من شك في أن الانغماس في قراءة ولف يوضح لنا الصفة التي حاولنا عرضها.
ولا ينبغي لنا أن نحسب أن هؤلاء الإنسانيين ذوي العقول الخصبة كانوا جميعا شديدي الاندفاع، وأن أحدا منهم لم يستمتع قط بلحظة هدوء؛ فلقد كان بعضهم ينهك إذا طال عمره. وكان بعضهم يشق طريقه وسط الزوابع والإرهاق لما اتفق عالمهم على أن يسميه الحكمة. ويبدو أن بعضهم كان له دائما نوع من الحكمة فيما يتعلق بالكائنات البشرية، غير أن الهدوء والحكمة وحالة الاتزان في حكمهم - مما ينشأ عن أسلوب الحياة في عهد النهضة يختلف جد الاختلاف عما يماثله عند الباحثين في العصور الوسطى، وما نجده عند كلاسيكي «مقتصد» مثل بوالو. وينتمي شيكسبير - في حياته كلها وفي محيطه - إلى ما أطلقنا عليه اسم الإنسانيين ذوي العقول الخصبة. كان يتصف بأكثر مميزات النهضة، وكان يتأثر أكثر نماذج النهضة. كان رجلا حكيما، ولكنك إن حكمت عليه من كتبه - ومن حسن حظنا أن كتبه هي كل ما لدينا من وسيلة للحكم عليه - ألفيت لديه مرارة لا تلمسها في المسيحية الأرثوذكسية، ولا تلمسها في عصر «النور». عنده ما عند النهضة بأكملها من احتقار لكثرة العدد، ولما هو مبتذل؛ فلم يكن البتة ديمقراطيا. وليس لدينا دليل قاطع على أن شيكسبير كان مسيحيا، ومن المؤكد أنه كان يفتقر إلى حرارة المسيحيين، وإلى مشاعر المسيحي إزاء إرادة الله. ولم ينظر إلى القدر، أو إلى الكون أو إلى طبائع الأشياء على أنها من الأمور التي قصد بها الإنسان، أو حتى من الأمور التي قصد بها امتحان البشر. والظاهر أنه لم يعتقد البتة في تعديل هذه الأمور، ومن الواضح أنه لم يبحث عن الأسباب الطيبة، وهو ينتهي إلى حالة شبيهة بحال مونتيني بصورة مذهلة، بالرغم من أن مونتيني لم يبلغ مبلغ شيكسبير في درجة الخصوبة أو الاضطراب في الجو الفكري. العالم عنده مكان ممتع، بل ومثير للإنسان في شبابه، ولكنه ليس بالمكان الجميل، ومن المؤكد أنه ليس بالمكان المعقول.
إن النزعة الإنسانية في أوائل العصر الحديث ليست من الاتجاهات التي يمكن تلخيصها في وضوح. وقد ذكرت من قبل أن العالم الطبيعي الذي يريد أن ينظم الحيوان، أو النبات، أو أن يصنفهما أجناسا مختلفة لا يتوقع أن يكون تصنيفه محكما شاملا؛ فهو يعلم أن أجناسه - في واقع الحياة - تتنوع وتتداخل، وهو يدرك أن عمله لا يمكن أن يبلغ درجة الكمال. وكذلك نجد أن بعض من أخذ بالأساليب والمعتقدات الإنسانية كانوا موحدين بالله إلى حد ما، بل كانوا يسيرون وفقا للتقاليد المسيحية مباشرة؛ فهناك مثلا سير توماس مور، الذي يعد الآن في الواقع القديس توماس مور. وكذلك نجد بعضا من الإنسانيين يقتربون جدا من العقليين الذين سوف نتعرض لهم في الفصل العاشر. إنهم يقتربون من الاعتراف بالنظرة الآلية إلى الكون. غير أن الاتجاه الإنساني برغم ذلك اتجاه يمكن عزله ووصفه مستقلا إلى حد ما. إنه يختلف عن المسيحية الغربية التاريخية في عهده في أنه لا يثق بالنزعة المدرسية ولا يثق بكل مركب العصور الوسطى، وفي أنه يمقت أوجه البروتستانتية في العهد القديم ذات النزعة الإنجيلية. وهو يختلف عن الاتجاه العقلي في أنه يتشبث - أو يريد أن يتشبث - بالفكرة التي تقول بأن الإنسان ليس كله جزءا من الطبيعة، وأنه أمهر الحيوانات فحسب، «بل إنه في الواقع ليس كله بالحيوان»، وذلك بالرغم من انحياز الاتجاه الإنساني إلى الإيمان بتفوق الأمر الطبيعي على رسميات العصور الوسطى، ومقدساتها، وتقاليدها.
अज्ञात पृष्ठ