وليس من الخير - بطبيعة الحال - أن تسلب معهدا ميزته هذه، في الوقت الذي تتمنى فيه لبقية المعاهد أن يكون لكل منها طابعه المميز من حيث وجهة النظر الثقافية التي يخلعها على بنيه، لكننا إذ نود للجامعة الأزهرية أن تحتفظ بميزتها تلك في طبع خريجيها بطابعها الفريد، نتمنى مخلصين أن يحدث تغير في الجوهر والأساس؛ فبدل أن يتميز ابن الأزهر بنظرة سلفية خالصة، تلوي عنقه إلى الماضي وحده، وتخفي عنه الحاضر والمستقبل معا، نريد له أن يربط ماضينا بحاضر ومستقبل، وليكن في هذا الربط طابعه الذي يختلف به عن سواه.
ولقد حرص قانون الأزهر الجديد على هذا المعنى؛ إذ نص على أن جامعة الأزهر تقوم على حفظ التراث الإسلامي بدراسته وتجليته ونشره، كما تهتم ببعث الحضارة العربية والتراث العلمي والفكري والروحي للأمة العربية، وتزويد العالم الإسلامي والعربي بالعلماء العاملين، وتوثيق الروابط الثقافية والعلمية مع الجامعات والهيئات العلمية الإسلامية والعربية والأجنبية. ولو تحقق هذا النص تحققا كاملا، وأخرجت لنا الجامعة الأزهرية علماء عاملين يربطون ماضينا بحاضر في شتى نواحي العلم والعمل، لما كان هذا القانون الجديد شيئا أقل من ثورة جارفة في حياتنا الثقافية كلها.
قضبان الضوء
الدنيا تتسع أمام عينيك أو تضيق بحسب النظرة التي تنظر بها إليها؛ فقد تنتقل في ربوعها شرقا وغربا وأنت كالمكفوف الأصم لا ترى منها ولا تسمع إلا هوامشها وحواشيها، فتصبح دنياك ضيقة على رحابة آفاقها، وقد يقتصر مقامك على رقعة يسيرة منها، كأن تقضي حياتك كلها في قرية صغيرة، ولكنك تقضيه مفتوح العينين مرهف الأذنين، فإذا تلك القرية الصغيرة عالم زاخر بالخيرات والحقائق.
كنت أسير وجماعة من الرفاق في طريق ريفي فوقفنا ننظر، لا تلك النظرة الفارغة الخالية التي تنفتح فيها العين ولا ترى، لكنها النظرة التي تحاول أن ترى ما حولها. وبدأنا بالألوان التي تقع عليها أبصارنا عندئذ، فكم لونا ترى؟ يا الله! إن هذا وحده ليقتضيك عمرا بأسره؛ فيكفيك أن تنظر إلى شجرة واحدة تتفحص فيها ظلال اللون؛ فقد تقول متسرعا إنه لون واحد هو الأخضر مثلا! لكن انظر، انظر، انظر في هذا اللون الأخضر نفسه كم درجة ترى منه؟! إنها عشرات، إنها مئات؟ فكلما انحرف شعاع الضوء قيد شعرة تغيرت على أوراق الشجر ألوانها وظلالها؟ وهل من الحق أن ليس في الشجرة إلا درجات من لون أخضر؟ انظر، انظر إلى هذه الزهرات المتناثرة، إلى هذا الجذع، إلى هذه الفروع! خذ زهرة واحدة وانظر، وستنفق الساعات قبل أن تلم بألوانها إلماما شاملا كاملا دقيقا، ودع عنك أجزاءها التي منها تتكون، فذلك وحده عالم آخر؛ فإن لي صديقا فنانا قد يهم برسم ورقة واحدة من أوراق شجرة، أو يرسم قطعة صغيرة من أحد فروعها، فإذا هو ينفق في ذلك، لا أقول ساعات، بل ينفق أياما طوالا؛ لأنه كلما أمعن النظر وجد من التفصيلات الدقيقة ما يود ألا يضيع منه شيئا، حتى إذا ما فرغ من الرسم دهشت كيف كانت هذه الغزارة كلها في إحدى وريقات شجرة أو في قطعة من فرع! إنها غزارة تهولك وتروعك، لا بكثرة عددها فحسب، بل بما بينها من تناغم حتى ليخيل إليك أنك إزاء لحن موسيقي تجاوبت نبراته.
ذهل الرفاق ونحن في ذلك الطريق الريفي ننظر إلى الأشياء من حولنا تلك النظرة؛ فقد كنا نحسب أننا سنبدأ بإحصاء الألوان لننتقل منها إلى إحصاءات أخرى. وإذا بالألوان من حولنا، بل بألوان شجرة واحدة تستنفد نهارنا ونعود إلى ديارنا وقد بقيت منها بقية؟ لكن هل ترى أننا قد عدنا إلى ديارنا كما تركناها؟ أم إننا عندنا أغزر خبرة وأخصب علما بإحدى شجرات الريف؛ فما بالك لو أخذنا يوما بعد يوم ننظر بمثل هذه النظرة الفاحصة إلى ثمرة القطن وسنبلة القمح وعود الذرة أو القصب وشجرة التوت وشجرة الجميز، ما بالك لو أخذنا ننظر بمثل هذه النظرة الفاحصة إلى الذر والحشر، إلى الماشية والغنم، إلى النهر والجدول، إلى أحجار الأرض وأجرام السماء، إلى الناس في صلاتهم يتوادون ويتغاضبون؟!
وتلك هي نظرة العلم ونظرة الفن على اختلاف الهدف بين العالم والفنان. فأما العالم فيبدأ بهذه المشاهدات الدقيقة، يرصد الأشياء ويسجلها، لعله يتصيد من بينها تشابهات مطردة؛ فكلما وقع منها على اطراد كان ذلك بمثابة كشف لواحد من قوانين الطبيعة! وما خبرة السنين التي تعلم الفلاح متى يبذر الحب ومتى يروي الأرض وكيف يحرث ومتى يحصد إلا تعميمات قد وصل إليها بعد مقارنات كالتي حدثتك عنها في رصد الأشياء من حوله والأحداث. وإن الناس ليتفاوتون فيما بينهم تفاوتا بعيدا في هذه القدرة على لمح القوانين المطردة التي تجري على سننها الأشياء؛ فلا غرابة أن تجد تاجرا ناجحا وآخر مخفقا، مع أن الدنيا أمامهما على السواء، وقد تكون الأحداث التي تقع في حياتهما هي نفس الأحداث، لكن أحدهما ينفذ إلى الطريقة التي تجري بها الأمور، على حين يظل الآخر ينظر ولا يرى.
وأما الفنان فهو الذي تستوقفه الأشياء التي نظنها نحن مكررة مألوفة، فإذا به يراها جديدة أو كالجديدة، ألم أحدثك عن الشجرة وألوانها؟ فكم مرة مررت بشجرة وحسبت أنك إنما تمر على كل شيء معهود مألوف؟ لكن قف وقفة الفنان وانظر نظرته، تجد الشجرة «جديدة» حتى ولو كنت قد مررت بها ألف مرة في حياتك الماضية. إننا كثيرا ما ننظر إلى صورة رسمها فنان، فترى فيها ضروبا من اللون تحسب أنها من عند الفنان وليس في الطبيعة مثلها، لكن لا إنها هناك ولكنك نظرت إلى الأشياء نظرة المتعجل فرأيتها رؤية سطحية عابرة، وفاتك كل ما فيها من خصوبة وغزارة. إن طاغور - الشاعر الهندي العظيم - ليروي لنا خبرا من حياته طريفا؛ إذ يقول إنه كان ذات يوم يسير مع صديق له من أهل الصين في شوارع مدينة بكين، وإذا بهذا الصديق الصيني يصيح بغتة كأنه المبهوت لشيء عجيب رآه: «انظر! هذا حمار!» وكان الحمار الذي أشار إليه الصيني حمارا كسائر أفراد نوعه، لكن لا، وألف مرة لا. لقد فكر طاغور عندئذ بنفسه قائلا: إن من ينظر إلى هذا الحمار - مثلا - مهملا كل الخصائص الفردية التي تميزه من سائر أشباهه، بحيث يضمه مع سواه في فئة واحدة، فقد فاته أن ينظر إلى الدنيا نظرة الفنان. أتظن أن الفنان إذ يرسم على لوحته حصانا فهو يرسم هذا الكائن في عمومه رسما ينطبق على أي حمار ؟ كلا، بل إن ما يجعل رسمه فنا هو أنه يلقط الخصائص الفريدة التي تجعل من هذا الفرد المعين فردا متميزا مما عداه. وإن فرحة الإنسان بالدنيا ونشوته بالطبيعة سرها هذا الوقوف عند الأفراد لذواتهم - سواء كان هؤلاء الأفراد من الأناسي أو من أفراد الحيوان أو النبات. فالفرق بعيد بين أن تدرس خصائص القط بصفة عامة في كتاب مدرسي، وبين أن يكون عندك قط معين معلوم تعنى به وحده دون سائر القطط؛ ففي الحالة الأولى ستزداد علما فقط، وأما في الحالة الثانية فستزداد حبا وفرحة ونشوة. وهكذا كلما وقفت عند مفردات الأشياء لذاتها - لا لمجرد النفع الذي تبتغيه منها - اتسعت رحاب نفسك واشتدت الأواصر بينك وبين الطبيعة التي تعايشها وتعايشك.
وإذا كانت صلتك بقط معين تقربه من قلبك ومن شعورك، وتزيدك غبطة به ومحبة له، فماذا تقول لو كانت صلاتك بالناس من حولك على هذا الأساس نفسه؛ على أساس الوقوف عند أفرادهم بما فيه من سرور وحزن، فتعنى بأمورهم مشاركا لهم في السرور وفي الحزن على السواء، حاملا معهم أعباءهم لو كانوا ذوي أعباء. إنك عندئذ تنظر إلى الناس نظرة الفنان، وهي نظرة أقرب إلى نبضة القلب وخفقة الفؤاد وهزة النفس منها إلى «معلومات» تحفظها في كتاب. ألا ما أكثر من يعيشون حياتهم وكأنهم مروا منها على قفر يباب؛ لأنهم نظروا إلى الأحياء والأشياء من حولهم نظرة المنتفع لا نظرة الفنان؛ فما لم تكن هذه الشجرة - مثلا - تعطيهم الظل وتقدم لهم الثمرات، فما لهم ولها؟ وما لم يكن هذا الإنسان يتوسط لهم في قضاء حاجاتهم وتيسير منافعهم فكأنما هو بالنسبة لهم عدم أو شر من العدم، لكن حياة كهذه إن أغنت الجيوب فلن تغني النفوس ولن تعمر القلوب بالحب؛ حب الإنسان للإنسان وحبه للطبيعة كلها بما فيها ومن فيها على السواء.
وإذا كانت هذه الغزارة كلها وهذه الخصوبة كلها عند أطراف أناملنا، نأخذها من الدنيا إذا شئنا، فما الذي يحول دون ذلك؟ يحول دونه، أننا نضع أنفسنا بأنفسنا في سجون من الصدور الضيقة، ثم نزعم أن السجون قد فرضت علينا. وهنا نقص على القارئ قصة طريفة نختم بها المقال: أراد غلام ريفي ذكي ذات صباح أن يطلق مجموعة الخراف من حظيراتها، ففتح لها الباب، لكن الخراف ظلت واقفة لأن كبشا كبيرا وقف في مقدمتها ولم يتحرك، فلبثت وراءه ساكنة لا تتحرك. وعجب الغلام. وعن له أن ينظر إلى الدنيا بعيني ذلك الكبش ليرى إن كان ثمت ما يراه فيمنعه من الحركة. ووضع الغلام رأسه ملاصقا لرأس الكبش ونظر، فإذا عمود من الضوء - ضوء الشمس التي أشرقت لتوها - قد امتد من الباب وعلقت به ذرات التراب المثارة من أرض الحظيرة، فبدا كما كان حاجزا من مادة صلبة، فيوهم الرائي أنه سياج يحول دون السير ويمنع من الحركة، لكنه سياج من ضياء!
अज्ञात पृष्ठ