ما زلت جالسا أدير البصر في الطلاب رقيبا، وكانت فوق رأسي ساعة مدلاة من السقف، تدق دقة خفيفة في نصف الدقيقة وفي تمامها، فانصرفت من دخيلة نفسي إلى الزمن أرقبه. إن نصف الدقيقة الواحد لا يكاد يمضي، فاللهم ألهمني الصبر على ثلاثمائة وستين فترة من هذه الفترات الطوال! جعلت أتسلى بعد كل ما يكن عده داخل نفسي وخارجها على السواء، فوجدت أني أتنفس ست مرات ونصف مرة في الفترة بين الدقتين، والفترة طولها نصف دقيقة، وتتبعت ضربات القلب كما هي واضحة في «الوش» الذي لم ينقطع عن أذني اليمنى خلال العشرين عاما الأخيرة من حياتي. تتبعت ضربات القلب عدا فوجدتها تزيد على الأربعين بضربتين أو ثلاث في فترة بين الدقتين، وتركت دخيلة نفسي فجأة إلى ما يحيط بها. لكن حمى العد ما فتئت متشبثة بانتباهي فرحت أعد ألواح الزجاج في النوافذ، أعدها في النافذة الواحدة وفي مجموعة النوافذ، ثم أعد الطلاب لا أكتفي في ذلك كله بالعد مرة أو مرتين، بل جعلت أعود فأعيد عشرات المرات، حتى مللت ذلك كله فتركت مقعدي وأخذت أسير رائحا غاديا من جدار الغرفة إلى جدارها. وعادت حمى العد، فعددت الخطى التي أخطوها في نصف الدقيقة فوجدتها تسع عشرة خطوة لا تنقص ولا تزيد.
ودقت ساعة الجامعة نصف الساعة، اللهم رحماك! ألم يمض من الوقت إلا السدس بعد كل هذا الذي فعلته من حساب وعد وقعود وقيام؟ كيف إذن نمضي بقية الأسداس؟! هذا هو الفرق البعيد بين الزمن كما يقع في نفوسنا والزمن كما تقيسه الآلات الحاسبة، بل هذا هو الفرق بين الذات الشاعرة وبين الحقيقة الخارجية الواقعة. إنني في نصف الساعة الذي انقضى من محنتي قد عشت دهرا بأكمله من سأم وملل، ولا شأن لي بالساعات وعقاربها أو ثعابينها؟ هل تذكرين أيتها الساعة الجامدة كم مرة استأنيت منك المسير فلم تنصتي لرجائي، وذهبت تديرين عقربيك في مثل اللمح بالبصر، وإذا ساعاتك تمضي سراعا، وإذا نشوة اليوم لم تزد عندي على دقائق معدودات؟ وها أنا ذا أستحثك السير فتبطئين عامدة ... كلا، لا شأن لداخل النفس بخارجها، فهذا عالم وذلك عالم آخر.
عدت إلى مقعدي أرقب من الطلاب قمم رءوسهم، لا تزال الرءوس كثة الشعر لم تنحلها الأيام بعد، لم يكن بينها إلا رأس واحد فيه قليل من صلع، صاحبه متقدم في سنه نوعا ما لعله منتسب، أو هو كذلك على التحقيق؛ لأني حين طلبت إليه ما طلبت إلى سواه أن يكتب في القائمة رقم جلوسه واسمه، كتب الاسم على هيئة التوقيع، فقلت له: بل اكتب اسمك كاملا واضحا، فقال: لكني هكذا أوقع الشيكات! ... هي بالبداهة شيكات يوقعها نيابة عن غيره لا أصالة عن نفسه. إنه في الحقيقة يختلف نفسا عن كل من عداه؛ فقد لمحت فيه حيرة من يجد فجوة بين شعوره الداخلي ومحيطه الخارجي؛ فلا شك أنه ينطوي داخل نفسه على شعور بأهمية مكانته، وينظر إلى الخارج، فإذا هو جالس كسائر الطلاب على دكة من خشب يؤدي الامتحان، وأمامه من جيء به ليحرسه بنظراته خشية أن يسطو على علم غيره بغير حق.
نعم جلست أتفرس هذه الرءوس المنكبة على الورق. ترى ماذا تضم هذه الرءوس غير النتف المتناثرة التي يرسمها أصحابها على الورق عن فهم أو غير فهم؟ إن كل جسد من هذه الأجساد بئر، الله أعلم بغزارة مائه أو ضحالته. إن كل جسد من هذه الأجساد لفيفة مطوية ستظل تنبسط مع الأيام شيئا فشيئا، كل وحدة منها تظهر ما تبطنه في طيها من قدرات، وعندئذ ستتسع الهوة بين هؤلاء الذين يجلسون اليوم زملاء ... لكن لا، اللهم اغفر لي الزلل إذا زللت؛ فإني أقلب بصري في وجوه هؤلاء الشبان، وعددهم ثمانية عشر، فلا ألمح في واحد منهم بوادر همة عالية أو ملامح قدرة تشذ عن المألوف، لست أرى في عيني واحد منهم بريق التوثب ... وشاءت المصادفة أن يكون هؤلاء الشبان جميعا ذوي لون متقارب، هو أشبه شيء بماء النيل في فيضانه، لعلهم لم يجدوا من وقت الصباح فسحة تكفي لغسل وجوههم، فجاءوا بها على نحو ما رأيتها مغطاة بطبقة من غبار.
هذا الطالب الذي يجلس هناك في قمة «المدرج» ترى ما الذي عكس على وجهه مظاهر الانكسار والذلة؟ أهي قسماته التي لم يرد لها الله وسامة؟ أهو فقره البادي على ثيابه؟ لا، قد يكون ذلك وهذا، لكني أرى الآن - إذا اقتربت منه - أرى يدين هما أعجب ما رأيت من أيد؛ فقد اضطرب فيهما لون البشرة اضطرابا عجيبا؛ بقع بيضاء تداخلت فيها بقع حمراء كحمرة النحاس، والجلد فضفاض على عظام الأصابع، كأنما هي القربة التي اتسعت جوانبها على محتواها، ليته وجد من رعى له صحة يديه؛ ففي ذلك وحده ما قد يخلق منه رجلا عزيز النفس قوي الإيمان.
ودخل الخادم فجأة يحمل أكوابا من الشاي، اللهم إن كان ما في هذه الأكواب هو الدواء الشافي أو الشهد المصفى، لأبيته على نفسي من هذا الخادم القذر. كان يرتدي سترة على جلباب، أو إن شئت فقل إنه كان يرتدي ما قد كان في التاريخ الغابر سترة وجلبابا، وأرجح الظن أنه كان حافي القدمين، ليست حاله تلك ذنبا من ذنوبه ولكنها دلالة على سوء حظه، ومهما يكن من أمره فقد أقبل الطلاب على أكوابه. واستوقف نظري طالب أخذه التردد في صورة تبعث على الضحك أو على الرثاء لست أدري، فقد أخذ يمد ذراعه ويقبضها ثم ينصرف إلى قلمه وورقه، ثم يتلفت خلفه ليرى أين بلغ الصعود بحامل الأكواب.
وبقي من الزمن أقل من ساعة، وأخذت ترد لي الأوراق المنتهية، فحلا لي أن أقطع البقية الباقية في ضروب شتى من الملاحظات. سألت نفسي: من ذا يا ترى يكون أول راحل من هؤلاء؟ ومن ذا يكون آخر راحل؟ ولم أخطئ الحساب؛ فقد بدرت من أحدهم حركة خفيفة كالتي تبدر من الراكب في السيارة العامة حين يعتزم النزول في المحطة التالية. ولم يلبث هذا أن رحل، ثم رأيت آخر يفكر كمن لا يفكر، فقلت : سيكون هذا صاحب الدور، وقد كان.
نعم، هنالك وجوه تفكر كمن يفكر وأخرى تفكر كمن لا يفكر، الفرق بعيد بين قسمات الوجه حين يكون في الرأس محصول وبينها حين يكون الرأس أجوف فارغا. أخذت أتفرس هذه وتلك. وانتهيت إلى نتيجة لا أدري إن كانت تصادف قبولا عند علماء النفس، وهي أن الفرق لا يكون في تغضن الجبين ولا في حركات الرأس ولا في الجلسة المؤرقة، بقدر ما يكون في نظرة العين. العين تفضح المستور. نظرة المفكر المليء عميقة مليئة. وأما نظرة زميله الخاوي فضحلة الغور، كأنما هي تنظر ولا ترى.
دقت الساعة تمام الثانية عشرة فجاءت دقاتها ختام محنتي!
الثورة الرابعة التي جعلت «الجامع» جامعة!
अज्ञात पृष्ठ