لا، ليس الإنتاج «العلمي» للأقدمين هو أفضل الطرق لربط شبابنا بحضارة آبائهم، ولكنه الإنتاج «الفني» الذي يحقق هذه الغاية على أكمل وجه مستطاع. وعندما أقول ذلك، فلا يكفيني أن يوضع للدارسين كتاب في تاريخ هذا الفن أو ذاك، ليحفظه الطلاب كما يحفظون سواه. ولو فعلنا ذلك واكتفينا به، لما كان هناك فرق بين فن وعلم؛ لأن كلا منهما عند الطالب قد تحول إلى «كتاب» وإنما المراد هو المواجهة المباشرة من الطالب للأثر الفني أيا كان نوعه، ثم تدريبه على الدخول فيه ليدمج نفسه بالقيم المتجسدة فيه، فيعيشها كما عاشها مبدع ذلك الأثر عند أول خلقة. وقد نستعيض عن الآيات الفنية في الزخرفة وغيرها، بصورة متقنة تكون موضع الدراسة وهي الفكرة التي كانت عند «مالرو» وهو يضع كتابه «متحف في صور».
نعم، إننا نهيئ المواجهة المباشرة بين طلابنا وفنون الآباء، مقتصرين في ذلك على ما يدرسونه من نماذج أدبية هنا وهناك. ولو أحسنت دراسة تلك النماذج لنعمنا بشيء من الطمأنينة، لكننا نعرف أن هذه الدراسة الأدبية تنتهي بالأكثرية العظمى من الدارسين إلى «كراهية» ذلك التراث الفني، وبهذا ينقلب الأمر علينا؛ فما أردناه أن يكون جزءا من حياتنا النابضة، يصبح مدعاة للسخرية؛ وذلك لأن دراسة الأدب عندنا قلما تدخل بالطالب إلى قلوب مبدعيه، لتأخذهم المشاعر نفسها التي أخذت هؤلاء المبدعين حين أبدعوا. مع أننا لو أدخلنا الدارس في صميم الفن الذي يواجهه، لعاش ماضيه في أسمى لحظاته، وبذلك يتحقق لنا الوصل المنشود بيننا وبين أسلافنا.
حديقة الهانم
المواثيق والبيانات وحدها لا تصنع مجتمعا اشتراكيا، حتى لو بلغت صفحاتها عشرات الألوف، وحتى لو وضعت كلمة «الاشتراكية» في كل صفحة مائة مرة، وإنما الذي يصنع المجتمع الاشتراكي هو أن ينزع الناس من صدورهم ضميرا ليضعوا مكانه ضميرا جديدا يملي عليهم من بواطن أنفسهم طرائق السلوك في المجتمع الجديد. إن البطاقة الملصقة على زجاجة الدواء لم تلصق في مكانها ذاك ليظل المريض يردد كلماتها، بل هي هناك لإرشاده إلى الطريقة التي يشرب بها الدواء. ولو اكتفى المريض بقراءة ألفاظ البطاقة ألف مرة كل يوم، لما فعل الدواء فعله المطلوب؛ لأنه إذا كان تكرار الكلمات ذا شأن في عهود السحر، فإنه حين انقضت تلك العهود انقضى معها سحر الكلمات.
والذي أزعمه هنا هو أن الاشتراكية ما زالت واقفة عند حدود اللفظ، لم تتحول بعد إلى سلوك تمليه الضمائر. وهاك حادثة حدثت من رجل كان في منصب مسئول في حينه، زمانها كان منذ بضع سنين، وكان مكانها مكتبا من مكاتب الدولة، وأشخاصها رجلين؛ أحدهما قوي النفوذ قليل العلم، والثاني كثير العلم ضعيف النفوذ، الأول كانت شخصيته في ضخامة جثمانه، على غرار ما كانت قوة شمشون في شعره، وأما الثاني فكان ممن هذبهم العلم إلى درجة الوداعة؛ فقد كان يحمل الدكتوراه في علوم الزراعة. وسأشير في هذا الحوار باسم «عنتر» إلى الرجل الأول، وباسم «الدكتور» إلى الرجل الثاني.
ذات صباح دق التليفون في مكتب الدكتور، وكان عنتر هو المتكلم.
عنتر :
أهو أنت الدكتور؟
الدكتور :
نعم هو أنا.
अज्ञात पृष्ठ